تمتد الآثار في المجتمع الإنساني، بطريقة متشابكة وترابطية مذهلة، فهي بمكوناتها الدقيقة تشكل فسيفساء متناسقة، لا يمكن الاستغناء عن أي قطعة فيها مهما كبرت أو صغرت.
إن الأساس الذي يجب أن يعول عليه قبل الحديث عن إيضاح العلاقات، ودراسة الجدليات، والإبحار في الدراسات هو مستوى كفاءة من يقوم عليها، ففي الإشارة لما سبق، أسر مؤلف حي بن يقظان اهتمام النقاد والمفكرين، ولا يزال مادةً أدبية وفلسفية ثرية، سيما أن مؤلفها دارس للعلوم الدينية، ولديه القدر الواسع من دراسة الطب، والعلوم العقلية، مما هيئ انطلاق طرح فكري ناضج من رؤية مطلعة على أطراف المنطق وأبعاده، وملامسة للواقع الإنساني من حيث الإصغاء لأبرز تساؤلاته، والشعور بهمومه الكبرى وبخاصة، ذات الاتصال بالوعي والمعرفة الإنسانية.
فنجد ابن طفيل، يستخدم أسلوبه الأدبي الجميل في التوفيق بين الدين والفلسفة، وذلك بإعادة صياغة قصة حي بن يقظان باستخدام التسميات للشخصيات ذاتها، ولكن باختلاف حياكتها وحكايتها، ورغم أنها تعتبر توسعاً لقصة سبقتها وسمت ب: (النابت)، إلا أنه انتهج منهجاً مبدعاً في توضيح العلاقة وتفكيكها بين العقل والوحي، وتلاقيهما في آخر المطاف للتشابه في الهدف الكبير واتفاقهما على “الحق” لا غيره. ومن جانب آخر فقد مثل هذا كله انعكاساً تأثر، وأثر بصورة واضحة على المكانة الحقيقية التي تنسب لفلاسفة الزمان الذي ضم حالة من “التهيج” الفكري إزاء الفلاسفة، فلم يتاح لفلاسفة المجتمع الأندلسي والمغربي -مثلاً- المساهمة بحرية في تطوير المجتمع كما هو متوقع، الأمر الذي دفع البطل في قصة ابن طفيل ليختار العزلة في جزيرة منفصلة.
إن الفلسفة الإسلامية قدمت في الحقيقة منارات من المعرفة القيمة، والتي تعتبر جزءاً جوهرياً من التراث الفكري الإنساني. وحين نتحدث عن الجدليات فإننا بصدد مواجهة أحد أبرز المواضيع التي نجحت في شد انتباه المفكرين والعقلاء، وبلا شك فلها ما لها من مساحة تفاعلية في الأوساط المجتمعية، إذ لا ينفصل ما يشغل بال الفقيه والفيلسوف عن قضايا وهموم الإنسان العادي في المجتمع، وإن اختلف مستوى الإلمام والاستجابة معها، وهذا ما أدركه ابن طفيل حين ميز بين درجات الخطاب التي يخاطب بها البشر إلى أربعة مراتب، فأولها وهي أعلاهم، تتمثل بمرتبة الفيلسوف، وهي درجة لا تتوفر إلا لنخبة النادرة من البشر، أما المرتبة الثانية، فتضم عالم الدين البصير، يليها في المرتبة الثالثة: مرتبة رجل الدين المتعلق بالظاهر. وأخيراً مرتبة العوام من المجتمع، وهي أدنى مراتب الخطاب.
وعليه، نجد أن طرح ابن طفيل تشاربه مع الكثير من النماذج الفكرية الفلسفية الإسلامية، وتميز في أسلوب إيصال منهجه التوافقي بين الفلسفة والدين، فالحكمة والشريعة يتشاركان الغاية الكبرى، وأسس للدلالة الأخلاقية باعتبارها جزء من الطبيعة، وبالتالي فلا يمكن حصر تصادم لها مع الواقع، بل هي نتاج طبيعي وعقلي متناغم ومنسجم مع الواقع ولا يمكن أن ينتج إلا السلوك الطيب المندفع للإحسان. ومن الناحية المنهجية فقد حث على التجربة والسعي لتوسيع الدائرة المعرفية مع احترام ما وصل له العلماء من حقائق واكتشافات في الطبيعيات والرياضيات، وأما في تناوله لنظرية المعرفة، فقد طرح محتوىً متكاملاً متدرجاً من حدوث الخبرة الحسية، ثم الانطلاق لمساحة “التجربة” أو الممارسة العملية، ثم دعمها بالاستدلال العقلي النظري، وتتوجيها بالمعرفة الوجدانية المتكاملة.
دل الوجود في عين ابن طفيل على وحدة متحدة بمترابطة، متسقة بمجموعة من القوانين والضوابط الحاكمة لمجرياتها، وتبرز فيها أثر” قانون السببية”، مع ملاحظة اختلاف مكونات الوجود من حيث الهيئة والرتبة والمكانة. وبالتالي فإن “رحلة البحث عن الحق”، هي عنوان كل مرحلة فكرية مهما كان دافعها (سياسي، اقتصادي، اجتماعي، ثقافي … )، وهذا أحد المكنونات التي تحتضنها كل فطرة سليمة، ومن هذه النقطة جاء التوجه “الوسطي” لدى فلاسفة المسلمين، إبرازاً للمكانة الحقيقية والدور الذي يؤديه كل من العقل والدين، بحيث لا يتعدى “تفكير الإنسان” مساحة فهم أحدهما لتجاوز أو بناء انحراف في الرأي وإن كان غير مقصود.
أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة
تعليقات الزوار ( 0 )