شارك المقال
  • تم النسخ

د. إدريس بنيعقوب يكتب: في ذكرى رحيل علال الفاسي نتذكر الحاجة إلى السياسي المربي!

بعد نصف قرن على ترجل الزعيم علال الفاسي عن صهوة الحياة، هذا الفارس الشجاع الذي طوع السياسة وذللها بشكل هادئ غير فاتن أو مفتون، طوعها بسوط الحكمة وقوة الفكرة وفخر الانتماء وجلال الخطاب الصادق، نجد أنفسنا في حضرة هذه الذكرى، أمام مرآة ذاتنا المغربية الجماعية، وأمام محاولات استجماع خطاب تخليق الحياة العمومية، لنسائل أنفسنا، ونتأمل فيما ينقص حياتها السياسية والحزبية من عناصر تبعثها إلى أفق مغربي أرحب متعدد الرهانات والمطبات.

هناك من الباحثين من حاول وضع تصنيف سياسي أو أيديولوجي لعلال الفاسي، وقد نجد أهم التوصيفات البليغة لفكره وممارستة في كون الرجل كانت له قدرة رهيبة على التوفيق بين شجاعته الفكرية انتصارا لما يؤمن به من أفكار وقيم في ميولاته التدينية الإسلامية والوطنية، وكفاءته وهدوءه في نصح السلطان، وبين خطابه التنظيمي الحزبي الوفي لمبدأ البيداغوجيا السياسية والتدرج في تنزيل أسس أفكاره الاجتماعية والاقتصادية والثقافية حرصا على استقلالية البلاد وعلى حرية وكرامة المواطن، في خط ناظم غير متناقض وبدون أي مواجهة ثائرة عنيفة.

ومن الوثائق التي تؤكد هذه المفارقة أو بالأصح هذه التوليفة، نجد كتاب علال الفاسي للملك الراحل الحسن الثاني، الذي نشر في الجريدة الرسمية للمملكة عدد 2566، بتاريخ 29 دجنبر 1961، ص 3338، و الذي جاء فيه: “ولقد عملت رغبة جلالتكم في السير على النهج الذي خطه جلالة والدكم المقدس محمد الخامس رضي الله عنه حينما أسند منذ أول عهده حركة البعث الإسلامي، التي تجلت في الدعوة السلفية الحق الداعية إلى تطهير الدين وتقوية مظاهره وإنعاش مساجده ومعاهده، والدعوة إلى التمسك بأخلاقه، وتشجيع ما دعا إليه من أمر بالمعروف والنهي عن المنكر”.

كما أن علال الفاسي بعدما تم تنفيذ حكم الإعدام على سيد قطب عام 1966، الذي وصفه بصديقه المعجب به، قام بإعادة طبع كتابه “معالم في الطريق”، حيث أصدرت مطابع الرسالة التابعة لحزب الاستقلال نسخة جديدة منه سنة 1966 ضمن سلسلة الجهاد الأكبر. ولم يكتف علال الفاسي بذلك بل كتب مقالة يستحضر فيها مناقب الراحل ونشرت في جريدة العلم، دافع فيها عن أفكار سيد قطب وفند فيها الاتهامات التي وجهت لكتاب “معالم في الطريق”.

وتجرنا ذكرى وفاة علال الفاسي إلى خلق فرصة نقاش أكبر وأعمق حول مضمون السياسة والمعنى المفقود فيها وحول شكل السياسي المطلوب. في نظري أنه يمكن أن نؤرخ لرجل السياسة من خلال ثنائيات كثيرة في شخصيته. عالم السياسة عبر العالم عرف نوعيات من شخصيات لها مواقع اجتماعية متنوعة دخلت عالم السياسة من بوابات عديدة، وبنسب مختلفة. من أهم هذه المداخل والممرات هي بوابة الفكر والثقافة و المال والأعمال و العسكر والدين.

أمامنا صور كثيرة للسياسي المثقف المتأثر بتوجهات فلسفية فكرية و إيديولوجية عديدة. حاول بناء تلك الأفكار والثقافات على الأرض. أسس مشاريعه السياسية لإدارة الدولة وللتشريع وتنظيم فضاء الدولة والمجتمع من خلال أركان نظرية. منهم من تفوق في إيصال الفكرة وصبغ المؤسسات الرسمية والاجتماعية بثقافته ومنهم من خاب مسعاه، بسبب منحاه النخبوي.

السياسي العسكري وصوره العديدة في العالم، شعاره الأسمى النصر على الأعداء. طبعت مسيرته بشخصية الحرب والتوتر التي تندس في عروقه. رغبته في فرض الأمر بقوة دون تشارك مما أنتج مواجهة و مقاومة من نفس جنس القوة والتحدي.

السياسي التاجر أو رب العمل، الذي قد يصطدم بقناعة رأس المال جبان. يفر من أول مواجهة ميدانية تخسره بعض مؤشرات الربح. ميوله الطبيعي، ليس نحو النشيد الوطني طبعا، بل نحو نقر آلات حساب الربح والخسارة. يجتمع القوم من حوله، حفاة عراة أو كساة، في سبيل ما عنده ويتفرقون عنه عند الشدة. لايأسر العقول والقلوب لكنه يأسر الجيوب.

أيضا جاء إلى عالم السياسة فنانون ذواقون للجمال، مثاليون أحيانا كثيرة، فشلوا أغلبهم في الوصول إلى الصدارة. الرياضيون أيضا دخلوا السياسة. قياس المسافات الميدانية الذي تعودوا عليها ضللهم في السياسة. فمسافة مائة متر جريا في الحلبات تعادل سنوات طويلة في السياسة، وبالتالي كسب الأرقام صعب جدا عليهم بعملية القياس التي تعودوها.

الأطباء الذين مارسوا السياسة في المغرب تعثروا وانسحبوا جلهم، إلا قليل منهم تعدهم على رؤوس الأصابع. المنطق العلمي، تجريب، تشريح ومختبرات وأدوية كيماوية وغيرها، صعب جدا تنزيله في عالم السياسة المغربية. السياسي بعض الأحيان يداوي المجتمع بسحر الكلمة ولا يحتاج إلى عقاقير وله أولويات ومخرجات غير التي تفرضها عملية التشخيص السطحي.

المحامون كانوا بارعين في عالم السياسة. قوة الإنتاج اللفظي وبراعة البحث عن مساحات بين القاعدة والنازلة ساعدتهم في ذلك. أيضا طريقة الترافع و منهج البحث عن الثغرات الشكلية  والمخارج الموضوعية ما بين اللغة القانونية والحقوقية والخطاب السياسي، عاونهم على الممارسة السياسية بشكل أفضل.  غير أن رحلة البحث، بطبيعة المهنة التي يمارسون لكي يعيلوا أنفسهم، عن زبائن يحملون قضايا مربحة، ظل هاجسا داخل رؤوسهم، فوت عليهم نجاحات كثيرة.

ثنائية أخرى في شخصية السياسي وجدت عندنا، هي ثنائية السياسي/المتدين أو رجل الدين والدعوة. أغلبهم مارسوا السياسة من منظور ميكيافيلي، ومنهم من مارسها من منطق فرعوني “ما أوريكم إلا ما أرى”، وبعضهم أخلص النية للدولة ظالمة أو مظلومة.  شخصية هذه الفئة من السياسيين، تتراوح ما بين الوعظ والتفقه والإفتاء على شاكلة خطب منابر المساجد ورفض كل جدال أو نقاش مضاد، وما بين الزهد والبذخ. حبسوا أنفسهم في تناقضات لم يستطيعوا إدارتها وحسمها وتصريف ناتجها. ظل نفر كبير منهم يتخبطون في صراعات نفسية، استعصى عليهم التوفيق ما بين رغبات الحرية ونزعات التسلط، ولكل موقع وصلوه موقف. خرجوا بعد زمن طويل من كهفهم، لكن الناس لم يجدوا فيما ما لديهم “أزكى طعاما”، بل “زادوهم رهقا”.

ثنائيات كثيرة بعضها غريب في شخصية رجل السياسة، غير أن الغائب الأكبر في مغربنا الحزبي السياسي هو شخصية القائد السياسي المربي. في التصوف  لا مريد بدون شيخ مربي يعظه ويربيه ويوضح له ما التبس عليه من أموره الظاهرة والباطنة مهما كان عمره ودرجة علمه.

في السياسة أيضا نحن بحاجة إلى سياسيين مربين على نهج الرعيل الأول منهم، المهدي بن بركة، علال الفاسي، المكي الناصري، بن الحسين الوزاني، عبد الرحيم بوعبيد وغيرهم من الجيل الأول والثاني لمغرب الاستقلال. سياسيون كانوا يمتطون صهوة المنابر الخطابية بشخصية الأستاذ والمعلم والأب المربي.  سياسيون كانوا يشرحون للعامة وللمتعلمين كل حسب فهمه، كل أركان الدولة والمجتمع بلغة تحمل قيما مغربية أصيلة. ومن الملح أن نقول أننا فعلا بحاجة ماسة إلى بيداغوجيا حزبية سياسية، تتفرع عنها لبنات وهياكل حزبية مربية، تتعامل مع الجماهير ومع الفئات والأجيال الجديدة بمنطق تربوي سياسي هادئ.

الحاجة ماسة وملحة،  لأن أحزابنا وسياسيونا أصبحوا يخاطبون ويخطبون ود المغاربة بدون قيم تربوية. أصبحنا نشرع بدون خطط تربوية تهيء المتلقي للنص وللقاعدة القانونية. أصبحنا نتواصل مع الشيوخ والنساء والأطفال والعمال والفلاحين بلغة واحدة وبطريقة واحدة دون احترام قواعد التواصل الجيلي والبناءات العمرية الاجتماعية. لذلك خصوصية المغرب وظرفيته تستدعي شخصية السياسي المربي.

السياسي المربي ليس ذلك الذي يخطب ليشتم الآخرين أو يفضحهم، كما ليس هو من يعتمد فقط على لغة هجومية تثير الأعصاب وترفع التوتر. بل هو شخصية مربية تنشر القيم و تربي على احترام القانون والمؤسسات والاحتكام إليهما، شخصية بمثابة مدرسة تعلم الناس ما جهلوا من دروس الدولة وحساباتها، هو من يأخذ الناس بلطف ليفتح أبصارهم وقلوبهم بلغة أسرية ومدرسية غير منفرة أو متعصبة، لغة التساكن في المؤسسات والمجتمع، لغة العيش المشترك ترسخ وتثبيت في العقول والقلوب مبادئ تدبير الشيء العمومي المشترك والرهانات والتحديات الحقيقية المرتبطة به، وأيضا فتح البصيرة أمام المخاطر المحدقة بيده بدون تهويل أو فزع، كل ذلك في سبيل بناء جماعي لأمة ولوطن اسمه المغرب.

*باحث في علم الاجتماع السياسي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي