شارك المقال
  • تم النسخ

دولة بلا أنياب

من الأمور التي كشفتها الأزمة المسجلة حاليا في العلاقات المغربية- الفرنسية، أن الإعلام في “جمهورية روسو” ليس مستقلا بالدرجة التي يتم تسويقها، أو على الأقل لم يعد مستقلا تماما في عهد الرئيس ماكرون.

لا تعوز الدلائل والحجج لتأكيد هذه الواقعة، ومنها عشاءات الإليزيه على شرف رؤساء تحرير أكبر المنابر، وهي الولائم التي يظهر أثرها غالبا في اليوم أو الأيام الموالية، على شكل حملة في هذا الاتجاه أو ذاك.

ربما يجد البعض مبررا لهذا التماهي غير المسبوق بين السلطة الرابعة والحكومة الفرنسية في كون الأمر يتعلق بالمصالح العليا للبلاد، وأن اللحظات العصيبة التي تمر بها فرنسا تتطلب تكاثف كافة الجهود، وتأجيل الخلافات السياسية والإيديولوجية، لكن تاريخ الصحافة الفرنسية، حتى في العهد الكولونيالي، يشهد بأنه كانت هناك دائما أصوات حرة، تعاكس أحيانا تيارات استعمارية متطرفة وجارفة، انطلاقا من إيمانها بقناعاتها والتزاما منها بمبادئها التي لا تتجزأ ولا تتغير تبعا لتغير رياح المصالح الشخصية والسياسية والاقتصادية..

ولهذا هناك استغراب لدى كثير من المتابعين لـ”إجماع” الصحافة الفرنسية، العمومية والخاصة، اليسارية واليمينية، الورقية والإلكترونية، المرئية والمسموعة، على الهجوم على المغرب ومؤسساته، رغم أن المصالح التي تربط بين الدولتين أكبر بكثير من “سوء تفاهم” قد يكون عابرا، وقد ينتهي برحيل سببه الرئيسي: ماكرون.

لكن الاستغراب الأكبر في الواقع، يتمثل في رد الفعل المغربي على هذه الحملة الشعواء، غير المبررة.

ونقصد هنا تحديدا، رد الفعل الإعلامي.

فلا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه المواجهة الإعلامية غير المتكافئة، هي نتيجة حتمية -ولو جزئيا- للهجمة التي تعرضت لها الصحافة الورقية -تحديدا- خلال السنوات القليلة الماضية، حيث ثم إعدام كثير من العناوين البارزة، عن سبق إصرار.

إن أهم معيار لقياس وزن أي منبر إعلامي، هو الأعمدة الثابتة.

فالصحيفة التي لا تتوفر على كتاب أعمدة من الوزن الثقيل، لا وزن لها أصلا في سوق الصحافة.

ولا يخفى أن المقصود بكتاب الأعمدة، أولئك الذين يخاطبون عقل القارئ، ويحترمون ذكاءه، ويتمتعون برصيد كبير من المصداقية والموضوعية، لا من يمارسون الصحافة بمنطق “طيابات الحمام” أو “كاري حنكو” لمن يدفع أكثر.

وهل نحتاج للتوقف عند العاهات والكائنات “الإعلامية” التي احتلت الواجهة مؤخرا خلال زلزال الحوز، حيث أصبح كثير من الصحفيين “المهنيين” يشعرون بالحرج من الانتماء إلى مهنة يشكل هذا “الصنف” واجهتها؟   

ما نريد قوله باختصار شديد، هو أن الصحافة المغربية، التي نجحت في مرحلة “سوء تفاهم” سابق بين المغرب وفرنسا، قبل عقود، في تبادل القصف مع منابر من مستوى “لوموند” بجلال قدرها وفي أوج تألقها، أصبحت اليوم عاجزة عن الرد حتى على صحف الإثارة الرخيصة، بل ورغم تقهقر الصحافة الفرنسية وتخليها عن “استقلاليتها” وتبنيها لخطاب يزداد مع مرور الوقت، يمينية وتطرفا ومعاداة لكل ما هو عربي وإسلامي.

والسبب واضح هنا، يتمثل في رهان “الدولة العميقة” على نوع جديد من الصحافة “الإلكترونية” التي اخترعت أجناسا جديدة من “الصحافة”، تستمد أساليبها من قاموس الشارع وحانات الدرجة الثالثة.

إن سبب وجود هذه الصحافة هو شيطنة بعض الأشخاص، والاقتيات على تسريبات تطال أعراض بعض “المغضوب عليهم”، بلغة مبتذلة.

ومما زاد الطين بلة أن هذه “الكائنات” لا تحتاج لإتقان أية لغة ولا إلى قدرة على الصياغة والتركيب، ولا إلى تدرج في العمل الصحفي، بما أنها تكتب بالدارجة.. أو تلجأ إلى تقنية الفيديو التي فتحت المجال حتى للنطيحة والمتردية للحصول على صفة “صحفي”.

أما الأخطر أكثر، فهو الرهان على “المؤثرين”، الذين هم سبة في جبين “الصحافة” التي كانت في زمن مضى مهنة المتاعب حقا، تقود إلى السجن والتضييق والمطاردة، قبل أن تتحول إلى مصدر للريع.

ومع أن النتيجة واضحة للعيان في جميع الأحوال، سواء تعلق الأمر بهؤلاء “المؤثرين” أو بالصحافيين “حاملي المباخر”، فإن الرهان عليهم مستمر، ربما لأن “صانع القرار” يعتقد أن هذه “الكتائب” هي ما يناسب زمن “الجهل” الذي نحن فيه.. ويخشى من عودة الصحافة على قوتها وشغبها، ولذلك اختفى النقد والمعارضة بشكل شبه كلي من صفحات “صاحبة الجلالة”.

لكن هؤلاء إن كانوا قادرين على التأثير في شرائح ضيقة من البسطاء والسذج، فهل يستطيعون الرد على افتتاحيات وتحقيقات “لوموند” و”لوفيغارو” و”لوبوان” و”غالا” وغيرها من المنابر المحترفة، كما كانت تفعل صحافة مولاي أحمد العلوي في “سنوات الرصاص”؟

من باب إضاعة الوقت التفكير أصلا في الرد على سؤال من هذا القبيل، لأن الجواب واضح تماما، وهو أن الصحافة الفرنسية تقصف بشكل عشوائي لكنه مؤثر، بينما تكتفي صحافة المغرب بالتهريج .. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، أو بالرهان على “اجتهادات” بعض اليتوبرز و”المؤثرين” الذين يفسدون أكثر مما يصلحون.

لا نذيع سرا إذا قلنا، إن هذه اللحظة كشفت، ليس فقط ضعف الصحافة المغربية وعجزها حتى عن الدفاع عن المصالح العليا للبلاد، بل عن وجود إرادة فعلية لتدجين هذه الصحافة ومنعها من أداء دورها على الوجه الأكمل.

باختصار شديد، لا يمكن أن يتوفر بلد على صحافة تتتصدى الهجمات الخارجية بقوة، إذا كانت عاجزة عن الاضطلاع بمهامها داخليا كسلطة رابعة.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي