تريد ابوظبي توسيع رقعة تأثيرها ونفوذها بإفريقيا وهي تتحرك في هذا الصدد بمساعدة أبرز حلفائها في كل منطقـة على حدة، فبواسطة رؤيتها هــذه يمكن للسياسة الخارجية للإمارات ان تجد زخما كبيرا يمكنها من ممارسـة قوتها الناعمة،.. تلك القــوة يراد منها كسب أصوات الدول الافريقية في المنظمات الاممية والدولية، والسبقُ لعقد الشراكات والاتفاقيات مع بعضها بعد الاكتشافات الكثيرة من احتياطيات النفط والطاقـة والغاز وكذلك مضاغفة تطوير وضع الإمارات كمركز تجاري لتصدير المنتجات والسلع إلى الأسواق الافريقية.
هذا ما يتبادر للوهلة الأولـى، لكن الإمارات معنيـة أيضا بلعب دور جيو-استراتيجي لا تخطؤه العين من شأنه أن يمكنها مــن مراقبة زحف “العمائم السوداء” على منطقة غرب افريقيا بالتحديد حيث ينتعش التمدد الشيعي والتواجد الايراني يعقبُ ذلك باضــطراد، تمثل هـذه المنطقة امتدادا سياسيا وجغرافيا شاسعا بحيث تضم السنغال غربًا وحتى تشاد شرقًا، ومن موريتانيا شمالًا وحتى نيجيريا، وتشمل هذه المنطقة 17 دولة؛ لتصبح بذلك اكبر كتلة اسلامية في مناطق القارة الافريقية. فكيف وصلنا الى هذه المرحلة؟
مع غياب المحور السعودي ـ الإماراتي عن هذه المنطقة استطاعت رغبة ايران الجامحة طيلة عقود ثلاث تحويل ما يزيد على العشــرة ملايين مسلم سني مالكـي الى المذهب الشيعي الإثني عشري (3 مليون شيعي بنيجيريا لوحدها) وفــوق هذا فإن الأذرع الدعوية المتوثبة والمرتبطة بهذا المذهب تنشط بحرية تامة دون ان تضييق يذكر، فمن ناحيـة تتغذى الدول الوطنية على المساعدات الايرانية لتغض الطرف عن خلاياها رغم مخاطر ذلك على الأمن الاجتماعي لديها، ومن الناحية الاستراتيجية فإنه بالنظر الى معركة كسـر العظم التي تخوضها السعوديـة ضد التغلغل الايراني في هذه البقعة، فإنه من الصعب تأكيــد ما أذا كانت السياسة الخارجية للإمـارات تجاه افريقيا تعتمد في خياراتها المعلنة على البُعـد الديني والروحي فقط، فهـي تشتمل أيضاً على توجّهات تفكيرية مبتكرة وفعالة في الوقت نفســه.
على هذا الأساس فإن الدور الاماراتي المتنامي في إفريقيا يظهر بشكل بارز على مستوى المنطقة ليس من خلال التعاون مع الحكومات بل ومن خلال المنتديات الهامة والمؤثرة على الصعيد القاري والدولي؛ فأبوظبي استطاعت توجيه العـديد من مراكـز التفكير المرتبطة بها الى إفريقيا بدءا بتنظيم وإقامة المؤتمرت العرضية وانتهاء بدعــم الفعاليات الإفريقية ذات التقاليد الدورية العريقة.
وفي هذا الصـدد صاغت الإمارات استراتيجية متكاملة تتضمن حجم المساعدات التقنية في مجالات حيوية ومهمة قاريا كالتعليــم والطاقة والمساعدات الانسانية والأمن، وهي المجالات التي تسعى لأن تكون بمثابة اللبنة الأولى لاستقرارها التجاري في افريقيا، وبناء عليـه تنظم غرفة تجارة وصناعة دبي سنويا المنتدى العالمي الإفريقي للأعمال ليجمع قادة الدول والحكومات وكبريات الشركات والمؤسسات الافريقية والإماراتية، أما في منطقة غرب افريقيا (مجال المقال) فقــد دعمت أبوظبي “المنتدى الدولي للسلام والأمن في افريقيا” المنعقد في دجمبر 2019 بدكار (السنغال) تحت شعار “السلام والأمن في إفريقيا : التحديات الراهنة للتعددية” وكذلك جرى اختيار جمهورية السنغال لتكون مقرا إقليميا لـ” مركز الابتكار وريادة الأعمال” التابـع لمشروع محمد بن زايد للابتكار وريادة الأعمال.
وفي هذا السياق؛ تتسـع بشكل ملحوظ دائـرة نشاط المراكز المرتبطة بالإمارات وكذلك دوافع توسعها من بلد إلى آخــر حيث تتـوزع إهتمامات المراكز والمنتديات الإماراتية، رغم صعوبة تصنيفها لتشمل الدراسات التجاريـة والقضايا الأمنيـة والانشغالات الدينية الملحة وتتمدد هذه المنتديات مخترقـة الأعيــان والشخصيات الاجتماعية الرمزية ورجالات الدولة الكبار محدثـة الأثر الحميد في النفوس. وفي هذا السياق تشهد المنطقة نشاطا نابضا بالفعاليات الجديدة والناشئة حيث يرد ذكـر منتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة الذي يترأسه الشيخ عبد الله بن بيه، فعلى العكس من مواطنه الشيخ محمد الحسن الددو فإنه يتمتع بحظوة كبيـرة لدى حاكم الامارات الفعلي الأمير محمد بن زايد آل نهيان، وأجد من نافلة القول بأن تلك المكانة هي التي وفرت له الظروف لعقـد مؤتمره السنوي الأخير في انواكشوط (موريتانيا) تحت شعار “مؤتمر علماء إفريقيا : التسامح والاعتدال ضد التطرف والاقتتال” وهي المناسبة التي احتفى بها الموريتانيون أيما احتفاء، و الإمارات، لا بد وأنها تلاحظ ذلك منذ بعض الوقت، وتحضر له في وقته ومكانه.
نحـن هنا، إذن نتحدث عن حالة “مؤتمرية” تعد نتاجا لطبيعة السياقات الإقليمية والدولية التي تتنافس على مستوى افريقيا، بوصفها قارة المستقبل المضمون، ان أي شخص كان يتابع المقاربـة الاماراتية هذه عن كثب خلال الفترة الأخيرة سوف لن تفاجأ بالاحتفاء والسخـاء الذي يلقاه رئيسين افريقيين حين يزوران الإمارات (موريتانيا ثم السنغال)، ففضلا عن الإشادة بالجذور السياسية والتاريخية المشتركـة بين الحكومتين والتي تعــود الى العام 1973 بالنسبة للسنغال و1974 بالنسبة لموريتانيا، فإن متانة العلاقات على مستوى “منظمة المؤتمر الاسلامي” بالنسبة لكليهما والجامعة العربية لفائدة موريتانيا، كلها عوامل من شأنها تعزيز التوجــه الجديد والذي يتخذ من الشراكة التجاريـة والسياسية مقصده الأبرز و الاوكـد بالنسبة للإماراتيين، فيما يظهر ان البلدان المستضافان انما يسعيان الى تسويق مقاربتهما للتصدي للإرهاب ودرء التطرف العنيف وحبس المال الخليجي باعتباره السبب الأول في اضعاف الاسلام بنسخته المالكية والافريقية المتسامحـة والمتسقة مع ثقافات شعوب المنطقة.
على مستوى المقارنـة والمناظرة، فإن الموريتانيون ينظرون بامتنان الى العون الاماراتي بوصفه “يعكس المثال الحي والنموذج الأفضل للتكامل والتآخي بين الأشقاء”، وخاصـة بعد توقيع “اتفاقية التعاون لتمويل برنامج دعم قطاع المشاريع الصغيرة والمتوسطة” باستثمارات وقروض ميسرة فاقت 2 مليار دولار (مبلغ ضخم بالنسبة لنا نحن الموريتانيين)، بالإضافة الى ستة مذكرات تفاهم اخرى من بينها “الإعفاء المتبادل من التأشيرات” على مستوى كبـار الموظفيـن في القطاعات العمومية، وكذلك مجالات التعليم والعون الانساني وتبادل المعلومات الاستخباراتية، أما الجانب السنغالي فقــد كان من نصيبه الظفر باتفاقية “للتعاون الفني والعسكري” وتوقيــع العديد من مذكرات التفاهم على شاكلة الجانب الموريتاني.
خلال مؤتمر علماء إفريقيا الذي عقده منتـدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة في أواسط يناير الماضي بانواكشوط، أثيرت العديــد من التساؤلات بعضها استفـزازي يتعلـق بمكانـة الشيخ عبد الله بن بيه نفسـه، وأما الشق الإمـاراتي منها فهو لربما يتعلق بالانقسام الخليجي والرغبــة في جــر المنطقة إلى سياسـات المحاور حيث يتتبع المحور السعودي الإماراتي أذرع المحور التركي – القطري من جماعات الاسلام السياسي (الاخوان المسلمون) بغية تعكير مساراتها قبل اضعافها وتقليـل أدوارها في المنطقة.
فهل باتت أنواكشوط ودكار وكلاء الامارات بمنطقة غرب افريقيا؟
*إعلامي وكاتب موريتاني، خبير بشؤون غرب أفريقيا والساحل والصحراء
تعليقات الزوار ( 0 )