هذا الحزب يعد مرجعا سياسيا ونضاليا ونظريا، ساهم في تطور الشخصية المغربية، ومكونا للذات الاجتماعية المغربية. الاتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية لم يكن فقط، عبر تاريخ نشأته وتطوره، بنية تنظيمية سياسية تساهم في إدارة الحوار السياسي الوطني والاجتماعي المغربي، أو مؤسسة حزبية لتكوين النخب، وإنما شكل مرجعية ايديولوجية للسياسات العمومية وأيضا للنضج السياسي المغربي.
بغض النظر عن الوضعية المرتبكة التي يعيشها حاليا، بسبب اختيارات تموقع على خريطة المشهد العمومي، فإنه يشكل منظومة قيم سياسية وفلسفية مرجعية، لا يمكن تجاوزها في التأريخ للعمل النضالي السياسي والنقابي في المغرب. هذا الحزب صنع أطرا قوية قادرة على إنتاج اللغة والخطاب السياسي الواقعي، وعلى المحاججة العمومية للدفاع عن قضايا المغرب والمغاربة. أطرا توغلت كثيرا في معارف تدبير الدولة والمؤسسات، فشكلت مدرسة قائمة الذات في إنتاج تصورات السياسات العمومية، بعيدة عن الشعارات الانتخابية. قوة الأطر التي أنتجها الحزب تنظيميا وفكريا، شكلت تيارا تدافعيا محفزا للنقاش العمومي، حول حلول التدبير وإدارة الدولة، في كل المجالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وعلى رأسها الفكرية النظرية والهوياتية.
إلى جانب حزب الاستقلال، يعتبر الاتحاد الاشتراكي منذ نشأته قوة اقتراحية، قاومت من أجل سياسات عمومية توازن بين حقوق الدولة وبين الحقوق الفئوية وحقوق المواطن، أساسها الإيمان الحقيقي بقيم العدالة الاجتماعية والكرامة المواطنة.
هذا الحزب أسس حركته الاجتماعية بناء على منظور فلسفي حدد من خلاله أدواره الكبرى، للمساهمة في صناعة المؤسسات والسياسات. بمعنى أنه كان ينظر إلى نفسه كحزب يؤدي دورا، ويحتاج إلى مناضل يدافع عن هذا الدور، وليس مجرد بنية انتخابية، صنعته الإدارة أو الظروف والاكراهات أو الاملاءات لأداء مهمة أو مهام مرتبطة بالزمان والمكان. وإن كان منذ مدة، تخلت بعض قيادته عن مناضليه، وعن أدواره الإنسانية الوجودية ذات المرجعية اليسارية في قراءة جدلية الإنسان والمجال والدولة، ورضيت بأداء مهام مؤقتة، وقودها زبائن سياسية وانتخابية. مهام لا علاقة لها بمرجعية الحزب النظرية والسياسية، ولا برصيده وتراكماته النضالية والتدبيربة للشأن العام.
الحزب منذ ولادته خلق توازنا في السياسة وفي انتاج قيم السلطة وقواعد التنافس والتدبير، رغم ما تخللها مؤخرا من تخبطات فصامية بين السلوك والذاكرة، مع ذلك كانت بصمته واضحة وقوية في إعادة بناء المغرب الجديد، منذ حكومة التناوب الأولى.
وللأمانة وللتاريخ، فقد ساهم الحزب من خلال حكومة التناوب، في فك الضغط عن الدولة وفي خلق موارد جديدة للبلاد. في بناء مغرب المنجزات، مغرب جديد يراعي الفوارق الاجتماعية، ويبدع صيغ إدماج جديدة لجميع فئات أبناء المغرب، في تناغم كبير مع الإرادة الملكية في التجديد والانفتاح الحقوقي والاجتماعي.
لا زلنا نتذكر كيف كانت المعاناة والأحلام، في مسألة الحصول على سكن رئيسي أو قطعة أرضية للبناء، أو الحصول على قرض استهلاك أو لتملك العقار، أو حتى لشراء “تلفزة” أو غسالة ملابس، أو سيارة وغيرها قبل مجيء الاتحادي فتح الله ولعلو للمالية والاقتصاد. ثم نتذكر أيضا كيف انتشر السكن الاقتصادي والاجتماعي، واتفاقيات القروض بفوائد جد معقولة ومنخفضة وإصلاح المنظومة البنكية بنفس اجتماعي، وكيف انخفضت أثمنة الأجهزة المنزلية، حتى أصبحت الطبقة المتوسطة تعيش بتكاليف في متناولها، إضافة إلى مشاريع فك العزلة عن الهوامش والقرى من كهربة وطرق ومدارس وغيرها.
ثم نعلم كيف ساهم تدبير وزراء الحزب في تنزيل المشاريع المهيكلة الكبرى تماشيا مع توجهات الملك، بما في ذلك جميع المخططات الاستراتيجية الكبرى، من تصنيع، ومخطط المغرب الأخضر، واتفافيات التبادل الحر، واستثمارات أجنبية كبري، واصلاح منظومة الجبايات والتأمينات، وقوانين الشركات والتأمينات وإعادة هيكلة المحاكم المالية وتحديد اختصاصاتها، وتحديث المحاكم،
وتدبير جزء من التنمية البشرية، معظمها تم وضع لبناتها وتدشين تصوراتها في تلك المرحلة.
إلى جانب ذلك ساهم الحزب في دعم الموقف المغربي في قضية الصحراء المغربية، من خلال مجهودات عبد الرحمان اليوسفي واستغلاله لارتباطات الحزب بالأممية الاشتراكية، وغيرها كثير من الإنجازات غيرت شكل المغرب، ساهم فيها الاتحاد الاشتراكي بقوة عن طريق مقترحاته في السياسات العمومية وفي تدبير ناجح للمرحلة.
كلها منجزات ينعم بها المغرب، تبلور جزء كبير منها في ذلك العهد، نظرا لوجود تصورات وقتها دقيقة وعملية، وأفكار مبدعة أصلحت معظم أعطاب الدولة المغربية، ابتداء من الإقتصاد وهياكله، إلى إشعاع المغرب الاستثماري على المستوى الدولي.
الفرق بين حكومات التناوب إلى نهاية حكومة عباس الفاسي، أن الحكومات الأخيرة ردمت جزء مهم من المكتسبات الاجتماعية السابقة، ولوحظ تراجع مهول في الأفكار المبدعة، المنتجة لكميات جديدة من الواقع لصالح مختلف الفئات الاجتماعية. قد يكون من بين الأسباب أن الحكومات اللاحقة جاءت عن طريق سلوك انتخابي غير عقلاني، أفرزت تشكيلات حكومية غير منسجمة، لاتحمل أي أفكار جديدة. حكومات صنعها زمن الربيع المتسرع، جربت في المغاربة تجارب خانقة، من الناحية الاقتصادية، بسبب عدم الاستعداد الحزبي للقيادة والابداع.
لقد تعرض هذا الحزب لضربات متعددة متتالية من قبل السلطة أو المنافسين، أضعفت قدراته على التركيز على ذاته وبنياته، وشوشت على أطره وقلصت شعبيته. بل أثرت أيضا على خريطة المشهد الحزبي، وأحدثت خللا كبيرا في التنافس السياسي. هذا الإضعاف وهذا التآكل ساهم فيه أيضا بعض أبناءه وبعض قيادته، ولعل الوقت قد حان لإجراء مراجعة تنظيمية وفكرية تعيد بناءه من جديد.
الأزمة الحالية التي يعيشها الحزب بسبب مشروع القانون 22.20، الذي تقدم به وزير العدل الذي ينتمي تنظيميا إلى الاتحاد الاشتراكي، هي أزمة أقرب إلى كونها أزمة هوية مرجعية سياسية، ومدى القدرة على إنتاجها في الفعل العمومي، منها إلى أزمة تنظيمية مرتبطة بالتشاور والتشارك في بناء الحركة الاجتماعية لمنتسبي التنظيم.
أيضا هي أزمة بمثابة فرصة مهمة لإعادة طرح سؤال هوية الحزب وذاكرته، للتوقف عن ممارسة مهام صغيرة مؤقتة غير متجانسة، من أجل العودة إلى بناء الدور الاتحادي المفقود.
أزمة يفترض أن تساهم في إعادة إنتاج الحزب لذاته ولخطابه ولمناضليه ولأدواره، وفق نسق مرجعي يضبط السلوك التدبيري العمومي لأطر الحزب، في قيادة الإصلاح على مختلف جبهات الدولة وأيضا المجتمع. لأنه بدون هذا الحزب، الذي لا ينبغي انحسار النظر إليه كقيادة بشربة حالية، بل يتعين النظر فيه كوعاء نضالي تاريخي مرجعي، سيفقد المغاربة منافسا سياسيا متجذرا ثقافيا، له القدرة على دعم الجبهة الداخلية والخارجية للمغرب، وفاعلا متمرسا على الصدمات، وقادرا على المساهمة في بناء الاختيارات الكبرى للبلاد.
*باحث في العلوم السياسية أكدال الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )