هناك من يوزع صكوك الوطنية ليس على من هو “وطني حقيقي”، بل على من يلائم هواه، ويستجيب لأناه الشخصي أو الإيديولوجي. فالوطني، في زعمه، هو كل من يصفق له، وإن كان كلامه لا يستحق التصفيق، وهو كل من يعجب لما يصدر منه من سلوك، وإن كان لا يستحق الإعجاب. أما من يختلف معه فإلى الجحيم!
وردني من مصدر موثوق أن هناك جهات لم يرقها ما جاء في مقالتي الأخيرة “الحكومة.. بْغَاتْ اَتْكَحّلْهَا عْمَاتْهَا”، وسعت جاهدة إلى منع نشرها في بعض المواقع الرقمية، رغم أني كتبتها بروح الحب والغيرة على وطني الغالي. كتبتها بعيدا عن أي هوى إيديولوجي أو نعرة سياسية، أو حسابات شخصية.
أكرر مرة أخرى: “إن نَقْد الأَدَاءِ الحُكُومِي وَأخطَاءِ الدّبلُومَاسِيّةِ المَغرِبِيّةِ لاَ يَعنِي أَنّنَا نُفَرّطُ وَلَوْ فِي حَبّةِ رَمْلٍ مِنَ وَطَنِنا الغَالِي.”
نحن لا ننتظر من أحد أن يعطينا دروسا في الوطنية، بل نحن من يعطي دوما الدروس في “الوطنية المغربية” دون أي مقابل مادي أو معنوي، ليس لأبنائنا فقط، بل لأبناء المغاربة أجمعين، في المساجد والجمعيات والمدارس والجامعات والإعلام وغير ذلك. ونرفض أي دعم مالي أو امتيازات شخصية، لأننا نؤمن بأن الوطنية؛ إيمانًا وتعاطٍ وتنزيلاً لا ينبغي على الإطلاق أن تخضع للمزاد العلني والمادي، وإلا صارت تجارة أو سمسرة أو جسرا إلى الاغتناء. ولن ننتظر أبدا ممن يتاجر في قضايا الوطن أن يكون وطنيا أو ناطقا صادقا باسم الوطن.
عندما وجه أجدادنا في الريف والأطلس وسوس والصحراء مناجلهم وبنادقهم تجاه الاستعمارين الإسباني والفرنسي، قاموا بذلك من عمق حبهم للوطن وتفانيهم من أجل حمايته من الغزاة الشماليين، لم ينتظروا دعما ماديا أو معنويا من أحد، ولم يخذلوا السلطان والدولة والمخزن، وإن اختلفت وجهات نظرهم، كان همهم الحفاظ على بيضة الوطن والذود عن حياضه؛ هذه هي الوطنية الحقيقية التي ينبغي أن نربي عليها أبناءنا سواء في المغرب أو خارجه، وهذا ما نسعى إليه في صمت، بعيدا عن أضواء الإعلام والسياسة والبروباغاندا والدعم، إنها “الدبلوماسية الفردية” التي هي عين فرض على كل مواطن وطني، وأعتقد أن مغاربة الداخل والخارج كافة يحملون الغيرة التامة لوطنهم المغرب، حتى أبناؤنا الذين ولدوا في الغرب، ويعتبرون غربيين بالولادة والأرومة والتجنيس واللغة، تراهم يهتمون بكل ما يمت بصلة إلى وطن آبائهم وأجدادهم (أعلام، شعارات، مأكولات، عادات وتقاليد…)، وعندما تسألهم عن هويتهم، يجيبون بعفوية تامة وفطرة عجيبة: نحن مغاربة! هذا يدل على أن الشغل الشاغل لكل أب وأم مغربية هو أن يرسخوا هوية أبنائهم المغربية. من هنا تبدأ “الدبلوماسية الفردية”، من البيت الذي يعبق بما هو مغربي؛ تأثيثا وطعاما ولسانا وتاريخا، رغم أنه يبعد آلاف الكيلومترات عن خارطة الوطن.
أختم بلحظة تتجذر في ذاكرتي وذاتي وهويتي رغم مرور عقود من الزمن عنها، وهي أن جدي امحند بولعوالي رحمه الله تعالى خُيّر بين أن ينضم إلى صف جيش التحرير الوطني المغربي وأن يحارب مع فرانكو، فاختار الوطن وهو يرفض بشكل قاطع أن ينضوي تحت “أرومي” غير المسلم، وكانت النتيجة أنه أثناء تقاعده كان يتقاضى أقل من 200 درهم مغربية شهريا، بينما كان يتقاضى أقرانه من قبيلتنا وغيرها من القبائل الذين اختاروا “أرومي” ما يربو على 3000 درهم في الشهر، ولا قياس مع وجود الفارق!
ومع ذلك، لم يندم جدي على ذلك الاختيار، ولم يذكر الدولة المغربية يوما بعيب، ولم يعاتب أحدا على ذلك الإجحاف، بل ظل قنوعا رغم أنه عاش محتاجا، وظل يعتبره الجميع غنيا رغم أنه بقي عفيفا لا يملك إلا قوت يومه. وأكثر من ذلك، لم يربنا على معاداة الوطن، وقد كان الريف في عز المخاض والحصار والتهميش، بل علمنا كيف نحب الأرض والوطن حتى النخاع، وكان يرفض الهجرة بكونها خيانة للأرض وتبخيسا للوطن، ولقننا كيف نميز بين الوطنية الحقيقية التي تعني الوفاء للوطن في السراء والضراء بدون أي مقابل، والوطنية المزيفة التي تتعامل مع الوطن بمنطق الحساب والربح والخسارة والاغتناء، وتختزله في حفنة مشاريع ربحية. رغم أميته اللسانية كان فقيها في الدين ومثقفا في الحياة وفيلسوفا في الاستشراف.
هذا درسي الأول في الوطنية التي يحاول البعض أن يجردنا منها، لا لشيء إلا لأنه يزعم أنه وحده (وطائفته) هو المؤهل لأن يكون وطنيا، وأن غيره لا يمكن لهم أن يكونوا بتاتا وطنيين، ما داموا أنهم يفكرون بشكل مختلف، ويعتقدون أنه لولا الاختلاف لما كان الوجود، وأن الوطن من رحم التنوع في المجال والثقافة واللغة والفكر يولد قويا وصلدا وشامخا.
يتبع…
تعليقات الزوار ( 0 )