تتداعى الصور والكلمات إلى الأذهان، في محطات كثيرة، لتعيد إلى أنفسنا دفء مكان لا يزال يحيا في الوجدان، ويستدعيه العقل واللسان، من آن إلى آخر. ولا شك أن حبنا لبعض الأماكن وارتباطنا بها وذكرياتنا التي نسجت نفسها فيها، هو ما يبعث في جماداتها نبض الحياة، ويجعلها حية فينا تعيد لنا كل ما مضى. وصدق الشاعر العباسي أبو تمام حين قال: “كم منزلٍ في الأرض يألفُه الفتى.. وحنينُه أبداً لأوّلِ منزلِ. فالحب ليس محصورا دائما بين كائنين بيولوجيين، بل هناك أيضا حب للمدائن والأمكنة والحواري، وهو إحساس لا يمكن تعليمه أو اكتسابه، فإما أن تملكه أو لا تملكه. و دعوني أعترف لكم بأني شديد الحنين إلى حي “درب التيمون”، ذلك الحي الصغير في أقصى جنوب آسفي، فقد جالت ذكراه في نفسي، وزارت حنايا قلبي، وفاضت بحار الحنين حروفاً وكلمات. وفي اعتقادي أن الوفاء أسمى من الرثاء، والوفاء يملي علي أن أفتح بعضا من نوستالجيا الحي الذي سيظل كالوشم في ظاهر اليد، ففيه عشت جزءا من طفولتي وشبابي، وقضيت، مع أصدقائي، بساحاته وزواياه وشوارعه وملاعبه بعضا من سنوات حياتي. ما زالت صورة حينا القديم على جدار الذاكرة تستعصي على النسيان. وعندما يعتريني الحنين لأيام خلت تقفز صورته على شاطئ الذكريات توخز الحنين وتستدر الذكريات. ففي رحاب “درب التيمون” ، كانت طفولتي وجزء من شبابي، حتى إذا شببنا، واشتد عودنا، تفرقنا في دروب الأرض، وتركناه هناك، وتركنا هدوئه الحالم، وناسه الطيبين، لتتلقفنا دروب أخرى.
عشت في أحياء مختلفة، ألفتها جميعاً و ربما ألفتني، احتضنت ذكرياتٍ لي غالية، وأريقت بين جدرانها سنواتٌ من عمري. لكن يظل “درب التيمون” ذلك الحي الذي لا يدانيه أي حي آخر، ويظل الحنين الدائم له، ولأهله، ولأيامه الزاهرة لا ينقطع، سيظل أروع الأحياء وأقربها إلى قلبي. و في البيت الذي سكناه فوق “الصاكة” وجيرانه، الطيبين جدا، كانت نشأتي، و بين غرفه رسمت أحلامي، كما طبعت ذكرياتي، عشقت حجراته الصغيرة و بهوه الضيق ونوافذه المطلة على الحي، و أحببت سطحه الذي يتوسطه حبل الغسيل ويرتاده الحمام. ولهذا ما زلت أذكر حينا القديم وأحنُّ إليه، لم تكن ملامحه مختلفة عن بقية الأحياء، ولم يكن حيا كأحياء الأثرياء، ولم يكن فسيحاً كبيراً كأحياء الأغنياء. كان بسيطاً كقاطنيه، لكنه كان نابضاً بالحياة مثل قلوبنا، حانياً، يحتوي القريب والبعيد، مفعماً بالحياة والرضا، صامتاً وهامساً حيناً وأحياناً صاخبا، مبتسماً، وأحياناً مكتئباً. ذكريات طفولتنا تناثرت في أرجائه، بقاياها تنطق على جدرانه، ويرنُّ صداها في جنباته. لازالت عالقة على النوافذ والأبواب والزوايا، تتقافز في الغرف، وفي الردهات، ضحكاتنا ما زال صداها يطرق مسامع قلبي. في حينا القديم، عشت، وفي زوايا الحي كانت جلساتي مع أصدقائي حتى وقت متأخر من الليل، وفي ملاعبه مارست كرة القدم، ومن هناك سأظلّ أحنّ إلى الصباحات التي كنت أمشي فيها مخترقا هذا الحي حاملاً كتبي بحقيبتي الصغيرة، وممسكاً بأحلامي الكبيرة، وأنا أدرجُ باتجاه “ثانوية الهداية الإسلامية”.
في هذه الحارة الصغيرة، ما تزال “الدكاكين” تحافظ على مكانتها، وتحتفظ بخصوصيتها عند الأطفال وأرباب الأسر، لأنها تزود البيوت بالمؤن من الأغذية ومستلزمات البيت “المتواضعة”.وعبر سنوات ماضية، كان “مول الحانوت” ب”درب التيمون” يحمل الكثير من أسرار البيوت في “دفتر الديون”، يعرف الأوضاع الاقتصادية للبيوت التي حوله، وتفاصيل حياتهم، وكان “الدكان” أحيانا مكانا يستريح به رب الأسرة ليفضفض عما بداخله لصاحبه. وكلنا يتذكر أيام زمان وكيف عشناها بأدق تفاصيلها وخاصة ذكريات “فران” الحي الوحيد، ذلك الفران التقليدي الذي شكّل فضاء لالتقاء أهل الحي، نساء ورجالا وأطفالا، وفيه نسجت مجموعة من العلاقات الاجتماعية. ويكفي أن تحرك ذاكرة “مول الفران” بالسؤال فتنهال عليك الأخبار بغزارة، حتى أن أي شخص يأتي إلى الحي باحثا عن عائلة أو صديق و لا يعرف المنزل، يقول له أهل الحي اسأل “مول الفران” فيجد ضالته عنده، لكون ” الفران” ب”درب التيمون” كان له دور المرشد الاجتماعي. ولن أنس ما جييت رائحة الخبز الشهي الممزوجة مع دخان الحطب الطبيعي المحترق، و أتذكر جيدا أن كل واحد منا كان من المستحيل أن يمر من أمام باب منزل وضعت به وصلة خبز، ثم يتابع سيره غير حافل أو مكثرت، بل إن الواجب والتربية الاجتماعية التي عاشها كل واحد منا في هذا الحي العريق، يحتمان عليه بأن يحملها إلى “الفران” والمعلم المكلف بعملية الطهي الذي ينزل إلى “الحفرة” ليقضي بها نهاره في استقبال “الوصلات” الخشبية وطهي الخبز التي يتوارد عليه من منازل الحومة، ليضعها داخل بيت النار وفق تنظيم محكم ودقيق يجعله لا يخطئ في عملية إخراجها وإرسالها إلى أصحابها من جديد، أما الطريقة التي كان يتعرف بها صاحب الفران على خبز بيوت الحومة كلها، دون أن يختلط بعضه ببعض، فتكون حين يتم تنظيم الخبز داخل الفران على شكل صفوف، وكل صف يمثل خبز أسرة معينة، وربما من هنا جاء المثل المعروف عند المغاربة (فران وقاد بحومة.. وجهو للنار وظهرو للعار).
وحين كنا أطفالا، كانت وظيفتنا الأساسية بدار الوالدين هي نقل الماء إلى الدار بواسطة الدلو “السطل” أو البراميل من سقاية الحي الشهيرة التي كانت تزود ساكنة الحي والأحياء المجاورة وحتى البعيدة بالماء الصالح للشرب، قبل أن تختفي سنوات التسعينات. ولازلت أذكر أن جلب الماء كان أكثر المسؤوليات صعوبة بالنسبة للمرأة، حيث يشكل الانتظار لساعات لملء إناء من الماء وحمله إلى حيث السكن معاناة كبيرة، ناهيك عن معاودة الكرة من جديد بعد الظهيرة لجلب مياه الشرب الكافية خلال الفترة المسائية. ومضت المساءات سريعا في رحاب حينا القديم أنساً وطيبا، وكبرنا وكبر هو أيضا، تغيرت ملامحه قليلا بمرور الأيام كما تغيرت ملامحنا، الحي لم يبق على حاله، تغير المشهد ليعيش الحي على وقع فوضى الأسواق العشوائية التي انتشرت في كل مكان من حوله، حيث احتل التجار والباعة المتجولون شوارع الحي السكني، وزحفت العربات المجرورة و المدفوعة داخل الأزقة، وعند عتبات المنازل والمحلات التجارية، وتنافس التجار على حيازة الأرصفة. وأصبح العابر مجبرا على الزحف تحت المُعلق أو القفز فوق المعروض، وتسبب ذلك في خنق منافذ الحي. حتى أن أبناء الحي بعد عودتهم إليه، لم يستطيعوا التعرف على حيهم الذي ولدوا وترعرعوا فيه، بعد أن أحكم الباعة القبضة على الطرقات و وزعوها فيما بينهم وحددوا محيطهم، بل منهم من بات يتاجر في كراء أمكنة وبقع الأرصفة، ناهيك عن امتداد السكن العشوائي لحنبات الحي بعد مسلسل التغاضي عن التشييدات العشوائية التي عرفتها المدينة.
“درب التيمون ” أجده اليوم لم يعد كما كان، أصابه ما يصيب الإنسان في الكبر من علامات الحزن والصمت الطويل. ولقد عاينت حزنه وحزننا لفراق بعض من رجالاته ونسائه، فالبعض من معالم الأمس لم تعد إلا بمخيّلتي ومخيلة من عرفه قبلي، رحل كثير من أهله.. حقاً رحلوا ولكنهم في قلوبنا يسكنون .. تذكرت الكثير .. ولازلت أذكر كل اللحظات التي عشناها في الحي .. لحظات بحلوها ومرها .. في “درب التيمون” تبدلت بعض الأسماء، و بقيت من الحي ذكريات ورجال وأصدقاء أعزاء ونساء أجلاء. وملح الختام، ثمّة رائحة للحي أستطيع تمييزها حتى دون إبصار، ذاك ما هو منقوشٌ في الذاكرة، وذاك هو حي الطيبيين، ذاك ما أحنُ إليه وما أفتقدهُ ولا أجد له أيَّ بديل، تنازعني نفسي لذلك الماضي الجميل، لذكريات الطفولة وأيام الشباب، ولزوايا وشوارع حيِّنا القديم، للأهل والصحب ولجلسات هادئة وشغف مباريات كرة القدم ودوريات رمضان، ومواسم التخييم في البحر، لتقاليد وعادات يشدني إليها الكثير من الحنين. زمانٌ مضى لا أذكر فيه إلا كلُ ما هو جميل، وفي ذاكرتي ومخيلتي من أحداثه الكثير الكثير. ولا أجد لهذا الحي تسميةً أفضل وأروع وأحسن من “حي الطيبيين” .
سنرجع يوما إلى حينا ** ونغرق في دافئات المنى
سنرجع مهما يمر الزمان ** وتنأى المسافات ما بيننا
هكذا غنت فيروز وهكذا كتب هارون هاشم رشيد.. دامت لكم الأفراح والمسرات أصدقائي
تعليقات الزوار ( 0 )