قدم الفيلم الوثائقي “الذهب الأزرق.. حروب المياه العالمية” في عام 2008 تصورًا مهمًّا لدور العوامل البيئية والسياسات المائية وسيناريوهات ما سيحدث مع ندرة المياه بشكل متزايد على الصعيد العالمي. بشكل أساسي، نحن نقوم بدور محوري في زيادة تصحر كوكب الكرة الأرضية، ونساعد في فقدان مياهنا العذبة مباشرة لتضيع هباء منثورًا في البحار والمحيطات عبر تآكل التربة وقطع الغابات. لقد بدأ الخبراء يتحدثون بالفعل عن تزايد أهمية المياه، بحيث إنها أصبحت في القرن الحادي والعشرين تحتل نفس مكانة النفط التي كان عليها في القرن العشرين.
ولم يكن مستغربًا أن يتم إضفاء الطابع الأمني على نزاعات المياه، وتحميلها بمضامين سياسية واستراتيجية. ومن المعروف أن “الأمننة” -بمعنى إضفاء الطابع الأمني على الشيء- ترتبط بنهج الأمن الدولي من قبل مدرسة كوبنهاجن المعروفة. كان الباحثون في المعهد الدنماركي لأبحاث السلام يبحثون عن تفسيرات بديلة لظهور الصراعات، بصرف النظر عن التفسيرات القائمة على سياسات القوة التي كانت شائعة خلال فترة الحرب الباردة. وبدلًا من ذلك، وبنهجهم النقدي للنزاعات، كانوا يبحثون عن طرق تجعل المسائل ”المحايدة” فجأة مشكلة أمنية. يقدمون “الأمننة” كعملية يشير فيها الفاعل الرئيسي إلى قضية على أنها تهديد وجودي، ويحاول إقناع الجمهور بضرورة اتخاذ إجراءات استثنائية لاحتواء المشكلة. إن تسمية شيء ما بقضية أمنية وتعبئة السكان وراء التهديد الوجودي هو عمل متعمد. إنها طريقة متعمدة لإخفاء الدوافع السياسية التي لا يمكن التعبير عنها بشكل صريح. إن قبول هذا التهديد المركب من قبل الجمهور أمر أساسي، ولا يزال ضروريًّا لنجاح مفهوم “الأمننة”. فهل يمكن نزع الطابع الأمني عن قضايا المياه وتحويلها إلى مصدر من مصادر التعاون بدلًا من الصراع؟
المياه كسلعة استراتيجية
يُعد الماء موردًا طبيعيًّا ثمينًا، حيث إنه يمثل شرطًا لازمًا للحياة والعمران البشري. يقول القرآن الكريم: “وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ”، وهو الأمر الذي يجعل الماء سلعة استراتيجية تحدد مصائر الأمم والشعوب. لقد تميزت السنوات الأخيرة بزيادة الوعي العام بأن إمدادات المياه العذبة في العالم تمثل موردًا نادرًا ومهمًّا للغاية لاستمرار جهود التنمية المستدامة. ونظرًا إلى أنه لا يمكن استبدال المياه، فلا يمكن الحفاظ على التنوع البيولوجي ولا التنمية الاجتماعية والاقتصادية في ظل غيابها أو ندرتها. ثمة تحديات كبرى تواجه الدول المختلفة تتمثل في صعوبة توفير إمدادات كافية من المياه ذات النوعية الجيدة لتلبية الاحتياجات المتزايدة للسكان. وقد يدفع ذلك إلى تزايد التوترات داخل وبين الدول مع انخفاض إمدادات المياه العذبة بسبب استنفاد الموارد والتلوث، إلى جانب التوسع الحضري والتصنيع السريع. وتتسم هذه الحالة بأهمية خاصة في المناطق الأكثر جفافًا في العالم مثل إفريقيا، حيث تعوق ندرة المياه جهود التنمية الاجتماعية والاقتصادية، وتدفع باتجاه التنافس على المياه بين مختلف قطاعات المجتمع، كما ترتبط بانتشار الفقر والجوع والمرض.
هناك جانب آخر مهم ينبثق عن الوعي العام المتزايد بأهمية المياه، وهو إدراك أن المياه تعد مسألة حياة أو موت، فقد تكون في حالة الوفرة عامل نماء وإنتاج، وفي حالة الندرة سببًا للتدمير والشقاء. في هذه العملية قد تمارس المياه دورًا مهمًّا لتوطيد عُرى التعاون وتقاسم المنافع بين المجتمعات والبلدان. على العكس من ذلك، تؤدي ندرة المياه أو عدم كفاية الموارد والبنية التحتية لضمان توفير إمدادات المياه الكافية إلى نزاعات بل وحتى صراعات من أجل الحصول على المياه. أضف إلى ذلك، يمكن أن يكون للماء جانب آخر إضافي ومدمّر للغاية، حيث تُلحق المياه “الزائدة” في شكل فيضانات الخراب بالبنية التحتية الاجتماعية والاقتصادية داخل الدولة.
صراعات المياه في إفريقيا
على المستوى الاستراتيجي، تؤثر خمس خصائص جيوسياسية رئيسية على الدفع لأن تصبح المياه مصدرًا للتنافس أو المواجهة الاستراتيجية بين الدول المتجاورة: • درجة ندرة المياه في المنطقة. • مدى مشاركة إمدادات المياه بين أكثر من دولة أو منطقة. • علاقات القوة النسبية الموجودة بين الدول التي تتقاسم المياه. • مدى توافر مصادر مياه بديلة وإمكانية الوصول إليها. • الدرجة أو المدى الذي تتماشى فيه الحدود الدولية لبلد معين مع أنظمة الأنهار المشتركة أو أنها تقع على طولها.
قد تتحول النزاعات حول المياه إلى “حروب مائية” عندما تصل حدة الخلافات بين الدول حول قضايا المياه إلى مستوى المواجهة المسلحة. فقد وقعت الخلافات حول المياه حول بحيرة فيكتوريا في شرق إفريقيا بالإضافة إلى نهر زامبيزي في الجنوب الإفريقي. ولا شك أنه عندما يرتبط الصراع المائي بأنهار معينة -مثل: إنكوماتي، وليمبوبو، والنيل، وأورانج، وباجاني، والسنغال، والزامبيزي- أو أجزاء منها، فإنه غالبًا ما تكون هذه الأنهار عابرة للحدود في طبيعتها، أو أنها تشكل أنظمة للأنهار المشتركة، والتي تثير إشكالية التوزيع المنصف والعادل بين دول المنبع ودول المصب.
لدى إفريقيا تاريخ طويل من الصراعات المتعلقة بالمياه. ولعل أحد الأمثلة البارزة في هذا الصدد هي سد مانانتالي على نهر السنغال. فقد تورطت كل من موريتانيا والسنغال في الصراع الذي أدى إلى أعمال شغب مناهضة للسنغال في موريتانيا، وأعمال شغب معادية لموريتانيا في السنغال، مما أجبر عشرات الآلاف من الناس على الفرار من البلدين وقتل مئات الأشخاص، في الوقت الذي حدثت فيه مناوشات عسكرية كادت أن تدفع كلتا الدولتين إلى حافة الحرب. وقد أدى انخفاض مستوى المياه إلى نزاع حدودي بين كينيا وأوغندا حول جزيرة ميجينو الصغيرة التي لا تتجاوز مساحتها فدانًا واحدًا في بحيرة فيكتوريا. ومما أسهم في تغذية الصراع المائي بين الدولتين تغير المناخ، والتدهور البيئي، وتزايد موجات الجفاف والمجاعة.
تطرح بحيرة توركانا الكينية نموذجًا مهمًّا لمستقبل الصراعات المائية في إفريقيا خلال السنوات القادمة. لقد أضحت البحيرة معرضة لخطر الجفاف بعد خطة الحكومة الإثيوبية لبناء سد على نهر أومو. ومنذ بدأت إثيوبيا في ملء السد في 2015، تعرضت حياة السكان المحليين للخطر، والذين يعتمد كثير منهم على مهنة الصيد. في إحدى مناطق البحيرة التي تُعتبر أكبر بحيرة صحراوية دائمة في العالم، انحسرت المياه لمسافة تقارب نحو اثني كيلومتر.
الحالة البارزة لحوض نهر النيل تُقدم مثالًا آخر للصراع المائي في المنطقة. يمتد نهر النيل عبر 11 دولة هي إثيوبيا والسودان وجنوب السودان ومصر وبوروندي ورواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وتنزانيا وكينيا وأوغندا وإريتريا. في الماضي، كانت هناك خلافات خطيرة بين مصر ودول المصب ولا سيما إثيوبيا حول تقسيم مياه النيل، والتي أدت في حالات الجفاف الشديد إلى التهديد بالتصعيد. وتشير أدلة جديدة اليوم إلى حقيقة أن الوضع السياسي والإيكولوجي في حوض النيل أصبح أكثر خطورة عن ذي قبل. يبدو أن نوعية المياه تزداد سوءًا، وهناك مشكلات في كمية المياه، حيث تعاني بعض الدول من الفقر المائي. وتتفاقم هذه التحديات بسبب استراتيجية بناء السدود على كل من النيل الأزرق والنيل الأبيض. ولعل أكبر هذه السدود هو سد النهضة الكبير في إثيوبيا. أضف إلى ذلك أن هناك مخاوف جديدة ومتزايدة بشأن التأثير المحتمل لتغير المناخ على حوض نهر النيل. وتتفاقم هذه الشكوك من حقيقة أن معظم الدول التي تشترك في حوض النيل سوف تكون أكثر عرضة “لندرة المياه” بحلول عام 2050. ويرجع ذلك إلى تغير المناخ، وزيادة الطلب على المياه بسبب النمو السكاني.
نزع “الأمننة” عبر دبلوماسية المياه
تشكل الدول التي تشترك في حوض النهر نظامًا مائيًّا سياسيًّا معقدًا للغاية ومترابطًا، وتتداخل ديناميكياته بشكل وثيق من حيث البيئة والاقتصاد والسياسة والأمن. لذا أصبحت السياسة المائية مجالًا هامًّا في السياسة الدولية. هناك أكثر من 260 نهرًا دوليًّا في العالم تستخدمها دولتان أو أكثر من الدول المشاطئة، يوجد 63 منها في القارة الإفريقية. لذلك من السهل تخيل عدد الصراعات الدولية المحتملة حول المياه. تعتمد العديد من الدول على موارد المياه التي تتدفق من خارج أراضيها. لذلك، تصبح أي محاولة لتطوير النهر اقتصاديًّا والاستفادة من موارده، مثل إنتاج الطاقة الكهرومائية، دومًا قضية خلافية، ومع ذلك يمكن التخلص من مقولة حروب المياه عبر نزع الطابع الأمني عن الذهب الأزرق.
وتوفر اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 الخاصة بقانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية إطارًا عامًّا لاستخدام الأنهار الدولية من قبل الدول النهرية. وقد تم تبني هذه الاتفاقية، حيث صوت 103 دول لصالحها، وامتنعت 27 دولة عن التصويت، بينما عارضتها ثلاث دول أخرى هي تركيا وبوروندي وجمهورية الصين الشعبية، وجميعها دول نهرية. وقد نصّت الاتفاقية على ثلاثة مبادئ أساسية لقانون المياه الدولي: مبدأ الانتفاع المنصف والمعقول، والالتزام بعدم التسبب في ضرر جسيم، وواجب التعاون مع الدول المشاطئة. أضف إلى ذلك يوجد مبدآن مهمّان آخران، هما مبدأ الإخطار المسبق الذي يتطلب إخطار الدول المشاطئة الأخرى عند القيام بأي مشروع مخطط للمياه من قبل أي من دول المنبع، وقاعدة عدم الاعتراض التي تقضي بإجماع الدول النهرية على تنفيذ المشروع.
في إفريقيا، تشكل هذه المبادئ التوجيهية أساس مجموعة من الاتفاقات الثنائية والمتعددة الأطراف بشأن مجاري المياه المشتركة والعديد من المنظمات الدولية والإقليمية التي تتبنى نهج الدبلوماسية المائية في إطار أوسع. وتساهم هذه المؤسسات بشكل كبير في منع النزاعات المتعلقة بالمياه وإدارتها وحلها. يجب أن يكون التعاون بدلًا من الصراع السمة الرئيسية للسياسة المائية الدولية في إفريقيا، والتي ستعزز الدبلوماسية المائية. ويمكن الإشارة إلى نهجين من دبلوماسية المياه الماهرة، هما:
1- دبلوماسية المياه في دول أحواض الأنهار
وهي تركز على موارد المياه العذبة العابرة للحدود، مثل البحيرات والأنهار وأحواض المياه الجوفية. وهنا يمكن التمييز بين عدة مستويات. أولها من حيث النطاق الجغرافي، حيث يمكن أن يكون التفاوض ثنائيًا، أو على مستوى دول الحوض، مثل مبادرة حوض النيل وبحيرة تشاد. وثانيًا على المستوى الإقليمي مثل التوجيهات المائية للجماعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا. وثالثًا على المستوى العالمي، مثل اتفاقية الأمم المتحدة لقانون المجاري المائية.
إن إحدى السمات البارزة لدبلوماسية المياه هي إشراك مختلف الفاعلين التقنيين من المهندسين وعلماء الهيدرولوجيا والاقتصاديين في عملية التفاوض بغرض الحصول على إطار علمي لمصادر المياه المتنازع عليها. يمكن أن يعمل هذا كنقطة بداية للتفاوض. بعد ذلك، يأتي دور السياسيين والدبلوماسيين وخبراء القانون للتوصل إلى توافق حول الموضوعات الجوهرية.
2- دبلوماسية المياه من منظور الطرف الثالث
حيث يتم التركيز على مساعدة أو إقناع الدول المشاطئة، كجزء من المصلحة الوطنية للبلدان، مثل مصر والسودان وإثيوبيا، أو المنظمات الدولية مثل الاتحاد الإفريقي، أو السياسة الإنمائية الخارجية للدول المانحة، لحماية وإدارة الموارد المائية. وتختلف الأدوار التي تقوم بها الدول والمنظمات الدولية في الدبلوماسية باختلاف النطاق الجغرافي، وطبيعة النزاع المائي، ودرجة الانخراط في العملية التفاوضية.
لا يزال الحوار الدبلوماسي والمفاوضات الشاملة بين الدول المشاركة في موارد المياه هو السبيل الوحيد للمضيّ قدمًا لبناء الثقة والتعاون من أجل مستقبل مستدام لمواردها الطبيعية. في نهاية المطاف تستطيع دبلوماسية المياه الماهرة، مع نزع الطابع الأمني والتخلص من الخطاب الشعبوي، أن تحول المياه من مصدر للصراع إلى قوة دافعة للتعاون والتنمية لكل الشعوب.
*أكاديمي مصري، عن مركز المستقبل
تعليقات الزوار ( 0 )