شارك المقال
  • تم النسخ

داء الطائفية وعواملها التدميرية

فايز رشيد*

إذا كان جبران خليل جبران قد قال منذ قرن زمني «ويل لأمة تكثر فيها المذاهب والطوائف وتخلو من الدين»، فإن مرحلتنا العربية الراهنة تحمل أسوأ تطبيقات هذه الجملة، ذلك أنها تعيش الحالة الأكثر انقساما وتآمرا وكرها للآخر، في محاولات جادة لتحطيمه، بل تمزيقه إرباً، إن جاز التعبير.


هذا الوضع المزري والبائس يقودنا إلى مقولة نكره ترديدها، وهي أن الوضع العربي عموما يتناسب عكسيا مع السيرورة التاريخية للوعي الإنساني، ومع التقدم العلمي التكنولوجي، لصالح العودة إلى المفاهيم العشائرية القبلية البدائية، الأقرب إلى الهمجية، فبدلا من كون مجالات التقدم المقترنة بالوعي حتى العفوي المفترض، تكون عاملا توحيديا للمجتمع الواحد والأمة بكاملها، خاصة أننا نعيش عصر التجمعات الجيوسياسية، والجيواقتصادية لأمم وشعوب مختلفة، لا يجمعها جامع، لكنها استجابت مع العصر وروحه ومقتضياته، ومدى التأثير فيه مناطقيا وإقليميا أو دوليا، سياسيا واقتصاديا وتأثيرا في فرض القرارات التي تريد.


نرى أمتنا العربية تزداد انقساما وتفتتا ومذهبية وطائفية، رغم وجود أعداء إقليميين ودوليين يحاولون نهب ثرواتها الهائلة، ينفذون إلى داخل الدولة، ويعملون على إثارة نقاط ضعفها الحساسة، ليشعلوا اقتتالا داخليا يتحول إلى حروب أهلية طاحنة، والأعداء أذكياء يمدون أيديهم لكل الجماعات، ويشعلون المزيد من الخلافات، وكانت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة كونداليزا رايس واضحة في الإعلان عن سياسة «الفوضى الخلاقة» التي ستنتهجها في الدول العربية والمنطقة. كما أن برنارد هنري ليفي كان واضحا منذ عام 1978 وبموافقة الكونغرس في اتّباع سياسته التفتيتية في الدول العربية، وزار من أجل ذلك الكثير من العواصم العربية، واستقبل استقبال الأبطال.


ونحن رغم كل هذا الوضوح الكولونيالي، ننساق مسلوبي الإرادة إلى هذه المخططات، العدو الصهيوني هو الذي يقرر جدول أعمال المنطقة، وتركيا وغيرها من الدول الإقليمية تستبيح الأرض العربية، ممسكة بالعوامل المذهبية والطائفية، أمريكا من جانبها تستغل هذا الوضع، بل كانت سببا رئيسيا في الوصول إليه، ويجري التدخل في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ولبنان والسودان والجزائر وغيرها، ودويلة الكيان الصهيوني تقوم بالتطبيع مع المزيد من الدول العربية، وتسعى لعقد معاهدة عدم اعتداء (ستتحول وفقا لطموحات قرارات مؤتمر هرتسيليا الاستراتيجية السنوية) إلى معاهدات تعاون مشترك، في الوقت الذي شكلت فيه دويلة الكيان الصهيوني، لجنة برئاسة وزير الأمن نفتالي بينيت لبحث اقتراحات وتدابير لضم المنطقة C إلى إسرائيل ومساحتها تساوي 62%من مساحة الضفة الغربية، كما أكد ديفيد فريدمان السفير الأمريكي في الكيان تأييد الولايات المتحدة لهذه الخطوة، في مؤتمر صحافي مشترك عقده مع نتنياهو قبل أيام. وتقوم إسرائيل حاليا بضم منطقة غور الأردن إليها، إضافة إلى منطقة شمال البحر الميت، وهذا ما أكدته «صفقة القرن» التي كُشفت بنودها، وقد حرصت واشنطن على كشفها، في محاولة من ترامب لمساندة نتنياهو في الشارع الإسرائيلي، تحضيرا للانتخابات المقبلة، ومن أجل أن لا تكون هناك انتخابات لا رابعة ولا خامسة بعد انتخابات الثاني من مارس المقبل. كل ذلك جرأ ويجرئ علينا أعداؤنا، بسبب المذهبية والطائفية التي تنخر جسد الأقطار العربية منفردةً والوطن العربي مجتمعا، حيث يتلاشى الصراع بين الأمة العربية وعدوها الكولونيالي الصهيوني، وحلفائه كلهم.

لقد شهدت بعض بلدان المنطقة العربية عدداً من التحولات والأحداث الكبرى في السنوات القليلة الماضية، التي أعادت قضية الانقسام بين الشيعة والسنة، إذ تحول هذا الانقسام إلى صراع طائفي واسع النطاق في أكثر من بلد، بل إنه امتد لدول عربية أخرى، لم تعرفه من قبل. وفي سياق هذا الصراع، استغله السلفيون الأصوليون الإرهابيون أبشع استغلال، محرّفين اتجاه الصراع مع الأعداء لصالح الصراعات المذهبية والطائفية والإثنية، لتنفيذ مخططاتهم التفتيتية للوطن العربي عموما، فأخذوا يتبنون «العنف الإرهابي» على الساحة الدولية تحت راية الإسلام، الذي هو براء منهم، وعلى الرغم من أن الهوية الدينية لم تكن هي المحرك الأساسي لأحداث الربيع العربي عام 2011، حيث رفعت تلك الحراكات الجماهيرية شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، فإنه بحلول عام 2012 بدأت المنطقة تدخل أتون صراع طائفي، نتيجة لظروف داخلية، وأخرى إقليمية معروفة، حيث شجع السياق الاجتماعي والسياسي في العالم العربي، على بروز مثل هذه التوترات الطائفية. في هذا الإطار، نشر معهد بروكينجز دراسة تحت عنوان «السلفيون والصراع الطائفي في الشرق الأوسط»، تشير إلى أن الخلاف الطائفي مستمر في الوطن العربي عبر قرون. وبعد أحداث الربيع العربي نشطت الحركات السلفية. وبرز عدد من السلفيين في مجال العمل الحزبي في دول مثل مصر وتونس، وانتقلت إلى بعض الدول الأخرى. وتطرقت الدراسة إلى الصراع الطائفي في عدد من دول المنطقة ودور السلفيين في تأجيجها، نتيجة لتطور أدوات الاتصال وتأثيرها على ممارسة السلفيين لدورهم، حيث أصبحت شبكات التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير عن الآراء والأفكار ومعرفة الشخصيات الأكثر تأثيراً. ووفقاً للبحث، فإن متابعة نقاشات شيوخ السلفية على وسائل التواصل الاجتماعي، باتت أكثر فاعلية من المقابلات وجهاً لوجه، على اعتبار أن المعلومات التي تنتج من المقابلات غالباً ما تغيب عنها المصداقية. وعبر هذه الوسائل تمكن رجال الدين السلفيين من التأثير المباشر على الأحداث الجارية مثل، الحرب في سوريا والعراق وغيرهما. ومن ثم، أضحى العالم الافتراضي مجالاً أساسياً للقادة الدينيين، للانطلاق وإصدار الفتاوى والآراء، فهم يستخدمون شبكات التواصل الاجتماعي، بعد أن كانت المساجد هي الساحة الأساسية لمثل تلك النقاشات.


ما يجري من صراعات طائفية ومذهبية هو على حساب صراعات أخرى، من المفترض أن تكون هي الأساسية، كالصراع مع العدو الصهيوني، والصراع مع استهدافات عموم المنطقة، لإفراغها من محتواها التاريخي وسماتها الرئيسية المرتبطة بالتاريخ والحضارة العربية، كالاستهداف الطامح إلى تحويل المنطقة إلى شرق أوسط جديد أو كبير، تكون اسرائيل فيه، ليست القوة الرئيسية فحسب، وإنما مكون أساسي من مكوناتها التاريخية والحضارية، المهيمنة على المنطقة، ليس سياسيا فحسب، وانما اقتصاديا وتقريرا في الأحداث الجارية فيها. العلة والأسباب والخلل لا تكمن في النظام الرسمي العربي فقط، ولا في جامعة الدول العربية التي هي ممثل يعكس التناقضات والأحوال العربية، وإنما أيضا في الاستجابة الجماهيرية لأن تتمظهر فيها التناقضات المذهبية والطائفية والإثنية، فتراها منغمسة في هذه الصراعات، بدون أن تتساءل: لا عن أسبابها ولا عن استهدافاتها، ولا عما ستؤول إليه، وإلى ماذا ستؤدي بالشعوب وطروحاتها وأهدافها، التي كانت على لسان الفرد العربي حتى عقود قليلة ماضية، كالوحدة العربية، والتكامل العربي، والمصير المشترك، وهي أهداف ذات آمال عريضة قادرة، على تحقيق الديمقراطية وتحسين الظروف الحياتية، والمحافظة على كرامة الفرد العربي.


نحن لا ننكر نظرية المؤامرة ـ خارجية بالتعاون مع دوائر داخلية ـ لكن المؤامرة يجب أن لا تظل الشماعة التي نعلق عليها كل تقصيراتنا وإخفاقاتنا وعجزنا. نحن مقصرون، أحزابنا لم تقدم مراجعة شاملة لمسيرتها، ولم تذكر مواقع الخلل في أدائها وفي أساليب عملها، وفي رؤاها، وفي تعاملها مع الأحداث، ومن ثم النزول إلى الجماهير صاحبة المصلحة الحقيقية، في مجابهة الاستهدافات الداخلية والخارجية هذا من جهة، ومن جهة أخرى لم تستطع مع القوى الأخرى إيجاد صيغ عمل جماعية، وتوحيد الشعارات المطلبية الآنية، السياسية التكتيكية، فما بال الاستراتيجية؟ الصراعات الطائفية والمذهبية المتصاعدة في الوطن العربي ستؤدي إلى ظواهر سلبية كثيرة، بعضها قد يفاجؤنا.. درجة الخطورة لا تكمن في نمو الانغلاق الشديد للقطرية العربية، من أجل حماية الذات فقط، وإنما في ما أصاب الأمة العربية بمكوناتها الشعبية، من مظاهر جديدة غريبة عن الهم الوطني كأساس للحركة والارتباط العضوي، بين تحقيق الديمقراطية أسلوبا ونهجا وتطبيقا، ومسار الحرية الوطنية، كوسيلة ضمان أساسية للقضاء على مخططات العدو، من دون ذلك، سنعيش المزيد من الإشكالات العميقة، وصولا إلى التلاشي السياسي، باعتباره عنوان الوجود الحياتي والحضاري الإنساني الفاعل.


*كاتب فلسطيني

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي