نستقبل الآن -وفي هذا الظرف الاستثنائي- شهرا كريما وخاصا، لا يزورنا إلا مرة كل عام، ذلكم هو شهر رمضان ، فعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ” أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله عز وجل عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه مردة الشياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم .” رواه النسائي.
وقد شرع الله صوم رمضان فأنزل هذه الآيات المباركة من سورة البقرة: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أياما معدودات، فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر. وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين، فمن تطوع خيرا فهو خير له، وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون. شهر رمضان الذي أنزل فيه القران هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فمن شهد منكم الشهر فليصمه.. الآيات.)
وهو لغة الإمساك ، ففي الآية: (إني نذرت للرحمن صوما)، أي إمساكا عن الكلام. وفي الشرع هو الإمساك عن المفطرات مع اقتران النية به من طلوع الفجر إلى غروب الشمس. وسمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها بالأعمال الصالحة، من الإرماض وهو الإحراق.
وكان الصيام واجبا على أمم أخرى كأهل الكتاب، ولذلك لا يزال بعضهم يصوم وإن بطريقة مختلفة. وكان صوم القدماء شديدا حتى كان من نام لم يحل له الفطر بعده.
والغاية الكبرى من الصوم هي تحقيق التقوى (لعلكم تتقون)، لأنه يربي الإرادة على الامتناع عن شهوات النفس من أكل وشرب وجماع.
وكان الشرع رحيما بالناس، فشرع رخصا كثيرة، فالمرض المؤذي أو الذي يخاف تطوره رخصة للفطر، وكذلك السفر والحمل والرضاع.. ويخطئ بعض الناس الذين يصرون على الصيام رغم تحذيرات الطبيب المختص، وهم لا يعلمون أن الفقهاء اتفقوا على أن من صام وأضر بنفسه فإنه آثم: ( ما يفعل الله بعذابكم). وعن أنس: سافرنا مع النبي عليه السلام في رمضان فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم. رواه الشيخان.
وقد نزل القرآن في شهر رمضان تعظيما له، لذلك يستحب للصائم أن يكثر من قراءة القرآن وتدبره، وأن يجعل بعض ذلك في صلاة الليل المسماة بالتراويح.
إن هذا الشهر فرصة لإعادة النظر في حياتنا وللتفكر في ماضينا واستخلاص الدروس لمستقبل أفضل. فنحن ـ في عصرنا هذا بالخصوص ـ لا نكاد نتوقف عن الجري واللهث، فتأخذنا ظروف الحياة يمنة ويسرة، وتدور بنا أمواج الدنيا طلوعا ونزولا.. فترى الناس يعْدون في الطرقات والشوارع كأنهم سكارى، وما هم بسكارى، لكن الانشغال الكبير بمشكلات الرزق والعمل، ومتطلبات الأهل والبناء.. “دوَخ” الجميع، وألزمهم بسير حثيث لا ينقطع وعدْو متصل لا يتوقف.
وهنا يأتي هذا الشهر الكريم ليوقف هذا السباق المحموم، وإن أوقفته الكورونا هذا العام، وليكسر هذا الروتين القاتل، وليعطي للناس فرصة لالتقاط الأنفاس، لا بمعنى الخلود إلى النوم والكسل، لكن بتغيير نمط حياتنا وتبديل ساعات يقظتنا ونومنا وأكلنا وشربنا.. وبتنبيهنا على أن الدنيا ليست فقط هذه المنافسة “غير الشريفة” على متاعها الزائل.. على مزيد من الاستهلاك ثم الاستهلاك ثم الاستهلاك.. استهلاك أفسد صحة الناس وعلاقاتهم الاجتماعية وأذواقهم، وجعلهم أسرى لما يشتهون.
نحن لم نخلق عبثا ولم نوضع فوق هذه الأرض سدى.. بل ذلك لحكمة، وهي فرصة إلى غاية. لذلك يذكرنا شهر رمضان بهذه المعاني، ويدعونا إلى الإقبال على الله: صياما له، وصلاة له، وقراءة لكتابه، وتفكرا في نعمه وخلقه. فعسى ألا نضيع هذه الفرصة، وربما بيننا من لن يشهد رمضان آخر في حياته فهو آخر شهر يصومه.. ونحن جميعا نخطئ كثيرا في حق ربنا، وفي حق أنفسنا، وفي حق كثير من الناس.. فنحتاج للمغفرة من هؤلاء جميعا. لاعجب أن يسمى هذا الشهر بشهر الغفران. يقول نبينا: ” من صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه .” رواه البخاري ومسلم.
*مفكر وأستاذ جامعي
تعليقات الزوار ( 0 )