Share
  • Link copied

خواطر رمضانية(3) البدانة المفرطة: مشكلة العصر في ضوء رمضان

يرى أكثر العلماء أن الشريعة معللة كلها، بمعنى أن الأحكام الشرعية تحقق مصالح معينة للناس (حتى العبادات المحضة كالصلاة والصيام)، غاية الأمر أننا قد لا ندرك هذه المصالح، وإذا أدركناها قد لا نفهمها حق الفهم.

وشعيرة الصوم، وصوم رمضان خاصة، مملوءة بالحكم والمصالح، بعضها معروف من قديم، فقد قال الفقهاء مثلا: إن من حكم الصيام الشعور بالجوع واختبار الحرمان للتعاطف مع الفقراء الذين لا يجدون كفايتهم من الطعام. ونحن نستطيع دائما اكتشاف حكم أخرى في الصيام، في ضوء تطور الخبرة البشرية ونمو معارفها الطبية والعلمية والإنسانية.

من المعروف اليوم أن الصوم يخلص الجسم من كثير من السموم المتراكمة في الجسم، ويعدّ بمثابة نوع من الغسيل العام للمعدة، فينقيها من بقايا الطعام التي تبقى بالمعدة لأنها لا تجد فرصة للتخلص منها مادام صاحبها يفاجئها كل ساعة بأكل جديد.. بل حدثني أستاذ صديق بكلية الطب أن للصيام أثرا إيجابيا على الدماغ وبعض وظائفه. وهناك في الطب الحديث لعلاج بعض الأمراض ما يسمى بحمية الصوم، وهي امتناع تام عن الأكل.

ويعرف عصرنا مشكلة غير مسبوقة في تاريخ البشرية، هي مشكلة البدانة أو السمنة المفرطة. لقد عانى الإنسان من الجوع، أو من قلة الغذاء، ويحتفظ التاريخ بسنوات عديدة من المجاعات  مسّت أكثر شعوب العالم، وبعضها يعود إلى فترة الحرب العالمية الثانية. لكن العالم بدأ يعرف ـ ولأول مرة في التاريخ ـ مشكلة البدانة، فلأول مرة يعاني الإنسان من كثرة الطعام لا قلته. ومن العجيب فعلا أنني في قراءاتي في أشراط الساعة، حيث كنت أبحث في موضوع المستقبل في الإسلام، قرأت حديثا يذكر فيه  النبي الكريم من علامات الساعة: ظهور أصحاب البطون الكبيرة. والحق أن العالم لم يعرف أبدا هذا العدد الكبير، وهو بعشرات الملايين، من أصحاب البطون المنتفخة.

 إن مشكلة السمنة تطورت اليوم إلى الحد الذي صارت فيه   بمثابة وباء عام، خاصة بالنصف الشمالي للكرة الرضية، فأكثر من نصف الأمريكيين يعانون من زيادة كبيرة في الوزن، ومع البدانة تأتي سلسلة من الأمراض المنتشرة كالسكري وارتفاع ضغط الدم وأمراض القلب والشرايين وآلام الظهر واضطرابات الهضم وارتفاع الكوليسترول….

وهذه مشكلات خطيرة بالفعل، لأن السمنة إذا جاوزت حدأ معينا تصبح نوعا من الإعاقة الجسدية.

وحار العالم ـ ولا يزال ـ في علاج المشكلة، وظهرت سوق مزدهرة للحمية: مأكولات من كل نوع، وشركات، وكتب ومجلات، واختصاصيون ومستشارون في التغذية، وأوهام كثيرة وحقائق قليلة..

واشتهرت بالولايات المتحدة حمية عرفت باسم الطبيب الأمريكي أتكينز، أشهر حمية في القرن العشرين، وتقوم على استهلاك الدهنيات والبروتينات دون حدود وتجنب السكريات إلى أبعد  حد ممكن..

ثم اكتشف الجميع ظاهرة “العود”، أي أن تسعين في المائة من الذين يمارسون الحمية، مهما كان نوعها، يستعيدون وزنهم الذي خسروه بشق الأنفس وبالحرمان الشديد بمجرد توقف الحمية.

ذلك أن الإنسان المعاصر يريد أن يأكل كل شيء، ومتى شاء، وأن يأكل كثيرا حدّ الشبع، بل فوق الشبع.. دون أن يزداد وزنه.

وتلك قضية خاسرة، وأمل مستحيل، ووهم  من أوهام إنساننا المعاصر البئيس.

أعود إلى حديث الر سول صلى الله عليه وسلم، فأجد في بعض أقواله الحكيمة وصف المشكلة وعلاجها. فهو عليه السلام ينصحنا بعدم الأكل إلى درجة التخمة أو الشبع المفرط، يقول: نحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع. وفي حديث آخر: ما ملأ ابن آدم وعاءا شرا من بطنه.. فإن كان ولابد، فثلث لطعامك، وثلث لشرابك، وثلث لنفسك. أي الهواء، فيبقى ثلث  المعدة فارغا. وأنت حين تحضر بعض الحفلات تجد كثيرا من الناس في سباق أيهم يملأْ معدته عن أخرها حتى تفيض تجشؤا وهواءا.

لقد انتهى خبراء التغذية إلى أن حلّ مشكلة السمنة المفرطة يكمن في الإرادة، وشهوة الأكل والشرب من أقوى الشهوات الإنسانية التي تحتاج لقوة الإرادة لضبطها.

فعلى كل واحد منا أن يقوي إرادته لكي يصمد أمام إغراء الأكل والطحن والمضغ والبلع والخلط.

وهذا بالضبط أحد أهم أهداف عبادة الصيام: تربية الإرادة، وتدريب المسلم على التحكم في شهوة الطعام. لذلك يجب الحرص على الاعتدال عند الإفطار حتى لا نفسد الفوائد  الصحية والنفسية المكتسبة خلال النهار.

إن صيام رمضان فرصة فريدة لممارسة الحمية الصحية، ولا بأس على المسلم أن تكون من غاياته من الصوم حفظ صحته أيضا، وقد تحدث الشاطبي مطولا في كتابه الموافقات عن حظ المكلف في مقاصد الشرع. فيجب على المسلم أن ينوي من صيامه التعبد لله ابتغاء التقوى، فإذا أضاف بعد ذلك نية طبية أو صحية فلا بأس بذلك.

إن رمضان درس للعالم المتخم الذي يعاني من الإفراط في الأكل.. درس بأن الدين يعلمنا ألا نخضع للفاست فود ولا يستعبدنا الطاجين فود.. المسلم فوق إغراء طعام الشرق والغرب، وليس أسيرا لبطنه، يجره هذا البطن بكثرة الطحن والخلط والمضغ والبلع إلى حتفه.. إذ ما أكثر شهداء البطون في عالمنا اليوم.. فلا تكن منهم.

*مفكر مغربي وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي