Share
  • Link copied

خواطر رمضانية(18): الاستخلاف الإلهي للإنسان

حرص القرآن الكريم على حكاية قصة الإنسان من بدايتها.. من اللحظات الأولى.. من مشروع الخَلْـق: (وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)، فخاطب الحقّ سبحانه ملائكَـته بأنه سيخلق خلْقا وينزله إلى الأرض ويجعله خليفة فيها. وتعجبّت الملائكة من ذلك، وقالوا: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك!؟)، فتضمّن موقفُهم أمرين:

الأول أنهم توقعوا من هذا المخلوق الجديد أن يُفسد في الأرض ولا يصلح، من هنا استنتج بعض المفسرين أنه كان بالأرض مخلوق قبل الإنسان، وكان عاقلا بدرجة ما، لكنه أساء السلوك والتصرّف، لذا أهلكه الله سبحانه وأنهى وجوده على كوكبنا. ولو أن بعض علمائنا المسلمين المتخصصين في علم الآثار والحفريات اشتغلوا على هذه النظرية وانطلقوا منها.. ربما وصلوا لنتائج لا تخطر على بال، إذ لا يستبعد أن هذا المخلوق السابق كان يشبه الإنسان، وأن بعض آثار ما يسمى بما قبل الإنسان (أو إنسان نياندرتال) هي لهذا المخلوق الذي اندثر، فبعض علماء الحفريات يظنون أنه جدّ الإنسان الحالي بحسب نظرية التطور الداروينية أو غيرها، بينما قد يكون هو المخلوق الذي كانت الملائكة تعرفه وتعرف سوء أفعاله.. وهو مخلوق مستقل تماما عن الإنسان، لكن لا مانع أنه كان  يشبهه، بل ربما كان هذا الشَّبه المفترَض هو سبب ظن الملائكة أن آدم لن يختلف عنه. وتوجد أطروحات في الموضوع، منها ما كتبه الأستاذ عبد الصبور شاهين في مؤلَّفه أبي آدم، ومنها كتاب معروف لباحث سوداني رغم أنه موغل في التفرّد وشذوذ الرأي.

الأمر الثاني: أن المخلوق الجديد نزل إلى الأرض بصفته خليفة. والخلافة هي نيابة عن الله سبحانه في تدبير أمور الحياة والأرض: (تبارك الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا)، وإن كان الشيخ عبد الرحمن حبنكة الميداني لم يرتض هذا المعنى في كتاب صغير خصصه لهذا الموضوع. والظاهر أنه لا إشكال، إذ من عادة الله تعالى أنه يتخذ جندا وخدما، لا لحاجة أو لاستعانة، فهو الغني عن العالَمين كلهم، بل لأنه الملِك ذو الجلال والإكرام، لذا خلق ملائكة عظاما كراما هم المقربون، وهم الذين يُسمّون بالكُروبيين، ممّن ذكرهم السيوطي في الحبائك في أخبار الملائك: (وما يعلم جنود ربك إلاّ هو).. كما خلق ملائكة لتدبير شؤون الكون كما في قوله تعالى: (فالمدبرات أمرا)، فالمقصود بهم -وفق بعض التفاسير- هم بعض الملائكة..

ولمّا كان الإنسان خليفة عن الله سبحانه في أرضه، فقد خلقه الله على صورته، وهذا معنى الحديث المشهور عند البخاري وغيره: خلق الله آدم على صورته. فمن المعاني المقصودة –مع التنزيه المطلق-  أن الله سبحانه زوّد الإنسان بكل المواصفات والقدرات التي يحتاج إليها لإنجاز مهمتّه الكبيرة، وهي المهمة التي أشفقت منها السموات والأرض واعتذرن عن تحمّلها، ويسميها القرآن الكريم بـ:الأمانة. فعلّم أبانا آدم الأسماء كلها، أي أسماء الأشياء والأمور الأرضية، وقيل المقصود هي الأسماء الإلهية لأن بها قيام كل شيء في الكون، فبِها يسير الوجود وإليها يستند في كل صغيرة وكبيرة. وهذان الرأيان متقاربان، إذ نظام الطبيعة القائم على الاطراد والانسجام والعلاقة السببيّة هو في حقيقته مظاهر للأسماء الإلهية أو لبعضها، أي أن وراء كل نظام طبيعي فعلٌ إلهي. لا ندري كيف يرتبط الأمران، لكننا متأكدون من وجود هذا الارتباط. فأنت ترى مثلا ثوران بركان، فهذه مسألة طبيعية، لكنها في الوقت نفسه تجلٍّ إلهي من تجليات صفات العظمة والقوّة والحكمة.. وهذا ما يفسّر شعورنا حين نُصدم بحدَث يقع أمامنا، أو نُعجَب بمنظر طبيعي، فنقف أمامه مبهورين وفي اللحظة نفسها نتذكّر الله سبحانه أو يخطر ذكرُه على بالنا. ولهذا اتفق علماؤنا على أن الله هو خالق كل شيء. 

وهذا الموضوع الثاني، أي الاستخلاف، يحتاج لتعميق الفكر والنظر أكثر، فهو مهم من جهة، وخصب النتائج من جهة ثانية. لكن لنجاح البحث فيه لابد من الانفتاح على علوم متنوعة منها: التفسير والحديث النبوي والتصوف ومقارنة الأديان.. ومنها: علوم الإنسان من تاريخ واجتماع وسيكولوجيا.

*مفكر وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي