Share
  • Link copied

خواطر رمضانية (13) الموت: الحقيقة المزعجة أو الموت اللذيذ في الإسلام

        اتخذ الشعور بالموت في عصرنا الحديث منحى أكثر حدة وأشد هولا من الماضي. جاء في كتاب ” الموت في الفكر الغربي”: “وهذا بالخصوص في الحضارة الغربية التي وجدت نفسها في مأزق كبير بتركيزها على القيمة اللامتناهية للكائن البشري الفرد، فلم تستطع التوفيق بين هذه الفكرة الأساسية وبين فناء الفرد الذي يبدو لها شاملا في الموت.”

   حقيقة الموت في الإسـلام

    الموت -في المذهبية الإسلامية- مجرد رحلة عابرة، وليس شيئا ثابتا أصيلا في الوجود؛ حتى وجود الإنسان في القبر هو وجود حي لا موت فيه، ومع ذلك فهو مؤقت ينتهي بالحشر والانبعاث. جاء في الأثر: إنكم خلقتم للأبد، وإنما تنقلون من دار إلى دار. قال القرطبي: “الموت ليس بعدم محض ولا فناء صرف، وإنما هو  انقطاع تعلق الروح بالبدن ومفارقته  وحيلولة بينهما، وتبدل حال وانتقال من دار إلى دار”.

     أما حقيقة هذا التغير وماهيته فمن شؤون الغيب المستور، لكن الشارع ضرب لنا مثلا قريبا إلينا، فقال النبي الكريم: “النوم أخو الموت”. ولذلك جاء في القرآن الكريم الربط بين الأمرين: (الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها، فيمسك التي قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى. إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون).

     الموت : قيامة الإنسان وأول مراحل الآخرة

    إذا كان الكون سينتهي بانهيار شامل يكون إيذانا بمرحلة جديدة في الوجود، يسميها الكتاب الكريم بـ”الآخرة”، كما يسمي هذا الانهيار بـ “القيامة”.. فإن موت الفرد بمثابة إعلان لقيامته هو، وهي قيامة خاصة تسبق يوم القيامة الكبير. ولذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: الموت القيامة، فمن مات فقد قامت قيامته.

   إن الموت- هذه القيامة الصغيرة- هو أول منازل الآخرة، كما أنه آخر مراحل الحياة الدنيا، ولذلك فهو فاصل ما بين الحياتين وحدُّ ما بين العالمين. فبالموت تبدأ حياة البرزخ، وهي عالم القبر، ثم البعث، فالحشر، فالحساب، وأخيرا يستقر كل واحد في الجنة أو في النار، في خلود أبدي. ونظرا لخصوصية الموت على هذا الوجه -أعني كونه أول مراحل الحياة الأخرى- قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه صاحبه فما بعده أيسر، وإن لم ينج منه فما بعده أشد.

    الدخول في عالم الغيب

    ولما كان الموت تغّير حال ليس إلا، ورجوع إلى عالم الغيب، فإن بصر للإنسان يحتد وينكشف له  بموته أشياء كثيرة من المغيبات التي سُترت عن حواسه. ولذلك يقال له – كما أخبرنا القرآن-: (لقد كنت في غفلة من هذا، فكشفنا عنك غطاءك، فبصرك اليوم حديد).

   ولما كان العالم الآخر أجلّ وأكبر، فيه تنكشف للإنسان حقائق الوجود… مثّل السلف الدنيا بالنوم والموت بالاستيقاظ منه، فقالوا: “الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا”.. وكتب رجل إلى أخ له: “أما بعد، فإن الدنيا حلم والآخرة يقظة، والمتوسط بينهما الموت، ونحن في أضغاث أحلام، والسلام”.

   المذهبية الإسلامية في الموت تفاؤلية

   إن روح الدين في هذا الموضوع روح متفائلة وإيجابية، ولذلك ثبت -في تاريخ البشرية الطويل- أن الإنسان ما وجد عزاء في قلقه الدفين من الموت كما وجده في التدين. ومن خصائص عقيدة الأديان السماوية عن عالم ما بعد الموت أنها قدمت البعث كمجموعة بعوث فردية، أي أن الإنسان لا تعود روحه إلى شيء كبير تذوب فيه، مثل “العقل” لهيجل، أو “الإنسانية” لكونت، أو “روح الكون”.. ونحو ذلك من التصورات الفلسفية.  بل الإنسان -في الأديان السماوية-  يعود إلى نفسه، فهو لا يعود بالجسد نفسه الذي كان له، لكن وعيه وذكرياته.. تبقى، أي أن شخصيته المستقلة لا تنقرض. بل إن  الإسلام يقدم البعث باعتباره بعثا عاما لكل الإنسانية: الأقارب والأبناء والأصدقاء.. كلهم سيبعثون على صعيد واحد. لهذا كان المستقبل الأخروي الإسلامي هو الأكثر تفاؤلا وانسجاما مع الرغبة العميقة للإنسان في الخلود الشخصي.. من كل التصورات الدينية والفلسفية الأخرى.

    ولهذا لا يكره المؤمن الموت ولا يرتعب منه، فهو يدرك أن الدنيا مرحلة عابرة، وأن موته هو خروج من عالم إلى آخر أوسع منه وأطيب، وقد أحسن الغزالي التعبير عن هذا المعنى حين قال: “اعلم أن المؤمن ينكشف له عقيب الموت من سعة جلال الله ما تكون الدنيا بالإضافة إليه كالسجن والمضيق، ويكون مثاله كالمحبوس في بيت مظلم فتح له باب إلى بستان واسع الأكناف لا يبلغ طرفه أقصاه، فيه أنواع الأشجار والأنهار والثمار والطيور، فلا يشتهي العود إلى السجن المظلم”. فتبارك الله العظيم، الذي خلق الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملا، وهو العزيز الغفور.

*مفكر وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي