أود هنا أن أسجل ملاحظة تتعلق بنا، وهي أن في موقف الفكر الإسلامي المعاصر من المسيحية شيئا من الاستعلاء واللامبالاة. أما الاستعلاء فمفهوم، لأنه ينبع من عقيدتنا الإسلامية التي تثبت تحريف المسيحية، وأيضا من ملاحظة تناقضاتها العقلية وأخطائها التاريخية… أعني أنه عادي جدا أن يعتقد المؤمن بدين ما أن ديانته أفضل وأرقى من أديان غيره.
لكن ما لا نفهمه هو الإهمال واللامبالاة. نحن مثلا لا نعرف كبير شيء عن البابوات الراحلين، ولا عن البابا المستقيل، ولم نهتم بهم وبدراسة أفكارهم وأعمالهم وأدوارهم في عصرنا، رغم أنهم من الشخصيات المؤثرة في عالم القرن العشرين… ما هي مثلا الدراسات العربية عن البابا يوحنا بولس الثاني، واحد من أهم بابوات القرن العشرين؟ وكذلك لا نعرف شيئا عن البابا بينيديكتوس، ولا شيئا عن البابا الحالي.
تظل المسيحية –رغم كل شيء- مؤثرة في عالم اليوم، ولها حضورها النوعي والعددي، كما لها تأثيرها في مجريات الأحداث.. تأثير كثيرا ما يكون خفيا غير بارز. فالواجب إذن هو دراسة عالم المسيحية باستمرار، لأنه ليس من الماضي فقط، بل هو حاضر أيضا. ولا يجب أن تقتصر هذه الدراسة على النواحي العقدية فقط، وهي التي يقوم بها علم مقارنة الأديان، بل أيضا تدرس سياساتها وأفكارها الحديثة وتجاربها وكيفية مجابهتها لقضايا عصرنا…
ومن ناحية أخرى يوجد اليوم فكر مسيحي معاصر، كما يوجد الفكر الإسلامي المعاصر، وكلاهما يشترك – بحكم خلفيتهما الدينية- في مجابهة أسئلة حرجة واحدة، كما في قضايا المرأة، والدعوة أو التبشير، وتطورات علم الإراثة، وحقوق الإنسان، والنزعة الفردانية، وحوار الأديان، ومشكلة اللادينية… ونحو ذلك. أعني أنه توجد إمكانيات واعدة للاستفادة المتبادلة بين الفكرين. فمن لهذه المهمة ومتى نقوم بها؟
ونضرب هنا مثالا لتطور خطير تعرفه المسيحية، ورغم ذلك لم نتابعه بالدرس والبحث.
بروز البروتستانتية
وقد خصصت مجلة “تاريخ وتراث” الفرنسية أحد أعدادها لهذا الموضوع. وفي الحوار الذي أجرته المجلة مع الأستاذ والأكاديمي المتخصص في الموضوع فيليب جوتار، نجده يعلل نجاح البروتستانتية بتوافقها مع الفردانية الحديثة. ولكنه غير مطمئن للصعود السريع الذي تعرفه اليوم الكنيسة الإنجيلية، وهي أهم الكنائس البروتستانتية (حوالي 400 مليون منتم مقابل 312 مليون شخص محسوب على الكنائس الأخرى كالكالفنية والتعميدية…). فهي تخلط بين التبشير العادي وبين رؤية سياسية خاصة تبغي السيطرة.
ويرى المحاوَر أن بين الإنجيليين –في المسيحية- وبعض السلفيين –في الإسلام- شبها كبيرا، فعندهما معا نجد: أجوبة بسيطة لعالم معقد، وقراءة حرفية للنصوص، وتفكير مانوي يقسم الناس إلى ناجين وهالكين.. ولذلك يخشى جوتار على السلم العالمي من الكنائس الجديدة التي تنبت كالفطر، في أمريكا خاصة.
وتنبه مقالات أخرى على ظاهرة التقدم السريع للإنجيليين، وهو تقدم أسرع من الإسلام، كما يقول سيباستيان فاط الاختصاصي في الحركات الإنجيلية، والذي كتب مقالا ثانيا عن التأثير الذي يمارسه هؤلاء على السياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة في عهد الرئيس بوش الابن.
وتقول ناتالي لوكا –الباحثة بالمركز الوطني الفرنسي-: من مظاهر هذا النجاح الإنجيلي أن 25% من سكان كوريا الجنوبية أصبحوا بروتستانت إنجيليين، وكذلك ما يقدر بخمسين مليون صيني.
تقصير الفكر العربي-الإسلامي هنا
والحقيقة أننا –معشر العرب والمسلمين، خاصة أهل الفكر والعلم منهم- قصّرنا حين لم نتعرف في الزمان المناسب على التطورات التي كانت تعيشها البروتستانتية منذ حوالي نصف قرن.. حتى فوجئنا بقوتها اليوم، وبأن لأكبر فروعها تأثير مهم على حاضرنا ومصائرنا.
ومما يعلل هذا التقصير هو أن الفكر الإسلامي الحديث المهتم بالأديان نسي في غمرة انشغاله بالكاثوليكية وعقائدها أن يوجه بعض جهوده لفهم البروتستانتية وتتبع أحوالها، حتى إنني لا أعرف لمفكر أو مؤلف عربي كتابا عميقا وواسعا في موضوع البروتستانتية.
فلعل في الباحثين والمؤسسات الفكرية من يسد هذه الثغرة الخطيرة.. ببحوث حرة، أو أكاديمية.. بل حتى بمجموعة مقالات… تُحرّك هذا السكون الخطأ.
*مفكر وأستاذ جامعي
هناك تقصير من أصحاب الفكر الإسلامي في هذا الموضوع كما أشرتم، وبالمقابل نجد المفكرين الغربيين لم يتركوا سنة (بجميع أطيافها) ولا شيعة (بكل مذاهبها) إلا كانت عندهم دراسات حولهما قديما، ودراسات أخرى معاصرة متجددة ممتدة عبر الزمن…