الصيام عبادة خاصة، تختلف عن سائر العبادات من صلاة وزكاة وحج.. فهي عبادة بين الصائم وربه، إذ لا أحد يعرف يقينا هل فلان صائم فعلا أم لا.. كما أن الامتناع عن الأكل جهارا لا يمنع هذا الامتناع سرا. وهذا معنى الحديث القدسي: ” كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته وطعامه من أجلي.”
والصلاة عبادة فعلية لها أركان مادية واضحة من القيام والركوع والسجود، وكذلك الحج أعمال وسعي.. والزكاة عطاء من الغني للمحتاج.
لكن الصوم عبادة تَركية، ليس لها مظاهر مادية مرئية، وليس فيها أطراف أخرى، لذلك وعد الله تعالى الصائم بأنه سبحانه هو من سيجازيه، لأنه سبحانه الوحيد المطلع على سرائر الصائم وأحواله، وهو العارف بنياته وخلجات صدره.
وهذا جانب من عظمة هذا الدين، فالعبادة فيه أنواع، بعضها فردي وبعضها جماعي (كالذكر مقابل الصلاة)، وفيها عبادة مالية وأخرى غير مالية ( كالزكاة مقابل الصوم)، ومنها عبادة ونظافة في آن (كالوضوء والغسل).
بل إن حركة الإنسان المسلم ـ إذا صحت نيته وصفت سريرته ـ … كل حركته عبادة: وظيفته ودراسته وزراعته وصناعته.. فالصانع عابد، والفلاح عابد، والطالب عابد، والموظف ـ بإدارته ـ عابد.. الكون كله مسرح هائل للعبودية لله عز وجل.. متى قصد المسلم بعمله وجه الله، وانضبطت حركته بشرع الله. إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي اعتبر أن الزوجين يثابان ويؤجران حتى وهما يقضيان شهوتهما الجنسية، ولما استغرب الصحابة ذلك قال لهم الرسول صلى الله عليه وسلم: أرأيتم لو وضعها ـ أي شهوته ـ في حرام، أكان عليه وزر؟ قالوا : نعم، فقال : فكذلك إذا وضعها في حلال له أجر. أين هذا مثلا من المسيحية التي تعتبر الشهوة دنسا شيطانيا لا يليق بمن يريد التفرغ للفكر والعبادة وانتهاج سبيل الرهبانية؟
ورغم فردانية الصوم، فإن له طابعا اجتماعيا أيضا، وذلك بالحرص على مظاهر الإمساك في المدينة والحياة العامة، وبالتوقيت المشترك للصيام عقب مراقبة الهلال، وبتشريع صلاة التراويح، وعيد الفطر.. ونحو ذلك. إذ يحرص الإسلام حتى في مجال العبادات والشعائر على المزج بين البعدين الفردي والجماعي فيها.. مع احتمال الغلبة لأحدهما. وتصدق هذه القاعدة أيضا على صيام رمضان.
لكن إذا كان الصوم بالأساس عبادة فردية بين الإنسان وربه، فهل للمجتمع أو الدولة دخل في ذلك، وهل يمكن ترك الناس أحرارا: من شاء صام ومن شاء أفطر؟
إن الإسلام لم يوجب من الصيام إلا شهر رمضان، فهي ثلاثون يوما من ثلاثمائة وخمسة وستين يوما هي مجموع أيام السنة. وما عدا ذلك إما يحرم صومه كالعيدين، أو يستحب لمن شاء، وهو صيام النفل.
ولم يفرض الإسلام شيئا على الناس بالقوة، قال تعالى: (فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر)، وقال أيضا: (لا إكراه في الدين، قد تبيَن الرشد من الغيَ). فالإسلام يريد كسب العقول والقلوب لا مجرد فرض الأمور، لكنه يطالب أهله المقتنعين به باحترام مبادئه وتوجيهاته.
إن المجتمعات العربية والمسلمة تقبلت الإسلام منذ قرون متطاولة، وارتضته دينا لها ونظاما لحياتها.. لذلك تجد معظم الناس ـ إلا النادرـ يصوم رمضان ويفرح بقدومه ويحترم قدسيته.
وقد يرى بعض الناس في مجتمعاتنا رأيا آخر، بل قد يرفضون صيام رمضان رفضا باتا، ولهؤلاء نقول كما قال تعالى:(لا إكراه في الدين)، وفي الصيام خاصة، لأنه كما سبق شرحه عبادة بين العبد وربه. فيستطيعون أن يفطروا ويأكلوا ويشربوا.. هنيئا مريئا.. لكن من وراء الأبواب. والإسلام لم يأمرنا بالتلصص على الناس ولا بتركيب الكاميرات في بيوتهم للاطلاع على حياتهم الشخصية.
إن حرية بضعة آلاف في عدم الصيام تقابلها حقوق الملايين في أن تحترم عقيدتهم ولا تنتهك مقدساتهم. وطالما أن هذه الملايين تقدس شهر رمضان فمن حقها أن تمنع انتهاك حرمته جهارا نهارا، لأنها ترى ذلك استفزازا صريحا لها ولكل ما تقدسه وتؤمن به.
لم تصل القوانين الوضعية في العالم أجمع إلى فكرة “النظام العام” عبثا.. بل للحاجة الماسة إليها في حفظ أمن المجتمعات واستقرارها. فهذا المبدأ من أهم الأفكار التي توفق بين حقوق الأفراد وحقوق الجماعات.. فللأفراد أن يفعلوا ما يشاؤون، لكن من حق الجماعة أن تحافظ على نظامها العام الذي توافقت على احترامه والالتزام به.. فهذا ما تشاؤه.
تُرى لماذا أيد بعض الناس عندنا قوانين منع الحجاب ثم النقاب بأوربا بدعوى أن من حق الدول الأوربية أن تفرض نظامها العام.. ولا يؤيد هؤلاء حق الدول المسلمة في أن تفرض نظامها العام أيضا، ومنه احترام شهر رمضان؟
لماذا يطالبوننا باحترام حق البلدان الأوربية أن ترخص للمساجد متى شاءت وتمنعها متى شاءت، وأن تتفق كلها على منع الآذان ولو في النهار، ولو بصوت خافت لا يزعج أحدا، ولو في مناطق بعيدة عن السكان.. ولا يعطوننا الحق نفسه؟
لماذا من حق سويسرا أن تمنع بناء مئذنة: مجموعة من الطوب والحجارة لها شكل هندسي معين، لا تهدد البيئة ولا البشرية، ولا تتدخل في الحياة العامة ولا الخاصة.. وليس من حقنا أن نمنع التطاول على مقدساتنا؟
بل إن أكثر الغرب أدخل تحريم مناقشة الهولوكست ـ تحت أي ظرف ـ في نظامه العام، بحيث سجن مواطنون وباحثون وأساتذة جامعيون على هذه الخلفية.. وفي فرنسا لا يسمح بتأسيس حزب ملكي منذ الثورة الفرنسية قبل قرنين رغم أنف حرية التعبير والاعتقاد.. لأن ذلك يخرق نظامهم العام.
يا أيها الناس، لكم نظامكم العام، ولنا نظامنا العام. ولا تسألون عما تعملون ولا يتدخل أحد فيما تعتقدون، وكذلك لا نسأل عما نعمل ولا نقبل التدخل فيما نعتقد.. لكم دينكم ولنا دين.
إنه بينما تعيش مجتمعاتنا العربية والإسلامية تحديات هائلة في بناء الدولة الحديثة ومؤسساتها، وعقدة العلاقة مع الغرب، وقضية فلسطين، ومشكلات التنمية والتعليم والبطالة ، والأزمات الاقتصادية المتتالية.. يأبى بعض الناس إلا إشغال العباد وتأزيم البلاد بقضايا مخترعة لا توجد أي حاجة إثارتها.. وكأنها هواية لتمضية الوقت وتزجية الفراغ.
من أحب أن يصوم فمرحبا، ومن أراد أن يفطر، فنقول له: “بصحتك” يا بطل، دع الناس تأكل من المغرب إلى الفجر، وكلْ أنت من الفجر إلى المغرب بلا توقف.. لكن من وراء الأبواب.
*مفكر مغربي وأستاذ جامعي
تعليقات الزوار ( 0 )