في الإجازة المدرسية الماضية ( إجازة فصل الربيع) قمت بزيارة أخ لي يقيم في مدينة فرنسية تسمى (Oyonnax)، تقع في مقاطعة أين Ain (أوفيرني-رون-ألب Auvergne-Rhône- Alpes) وتبعد عن جنيف السويسرية ب 38 كلم. تحيط بالمدينة جبال شاهقة تعرف جغرافيا بسلسلة جبال الألب الممتدة من البلقان شرقا إلى خليج جنوة بين إيطاليا وفرنسا غربا.
أمضيت برفقة أسرتي الصغيرة أياما ممتعة في هذه المنطقة التي حباها الله بأصناف من الأشجار والنباتات تمنح السكينة والطمأنينة للنفس. المنطقة مترامية الأطراف بلغت من التنوع في أراضيها ومشاهدها ما جعلها تعرض للرائي كل أنواع المواقع وتحتمل كل أنواع النباتات والمزروعات، فيها حقول وبساتين وبحيرات ومزارع تحفها الشجيرات من كل نوع. شعرت بأحاسيس ومشاعر عارمة تغمر قلبي تذكرني بأجواء الماضي البعيد عندما كنت طفلا أقف أتأمل طبيعة “أيت حذيفة” بكل ما تحوي من هضاب و سهول ومراعي، أسمع هدير السيول المنحدرة من الجبال وصرخات العقبان وشقشقة الطيور المتقطعة.. حقا أحيت هذه الرحلة في نفسي ذكريات جميلة من ذلك الماضي البعيد والسعيد!!
في طريقنا إلى مدينة جنيف مررنا بقرية تسمى “فرني فولتيرFerney Voltaire “. لفظة فولتير ذكرتني أيضا بماض بعيد لكن ليس بماض سعيد إنما هو ماض مظلم ساد فيه قمع وقتل المخالفين في الرأي والاعتقاد!.. لجأ الأديب الفرنسي فولتير إلى هذه القرية السويسرية في جبال الألب فارا بجلده من عيون جواسيس النظام الملكي في باريس التي ألهمته طبيعتها إنجاز كثير من أعماله الأدبية والفلسفية، خاصة روايته الشهيرة ” التفاؤل Candide”. الرواية عبارة عن عمل هجائي satire ينتقد فيه فلسفة الحتمية المتفائلة للكاتب الألماني “لايبنتز Leibniz “.
كثير من الباحثين يرون أن أفكار فولتير من الأفكار التي مهدت للثورة الفرنسية. عندما سقط الملك لويس السادس عشر وقام بتصفح كتابات فولتير وروسو قال: ‘إن هذين دمرا فرنسا‘ وهو يقصد بالطبع أسرة البربون Bourbon وكنيسة البابا.
للأفكار قوة جارفة تأتي على الباطل والظلم، تفترسه افتراسا مهما طال وساد!.. عانت فرنسا من ويلات الطغيان والفساد ردحا من الزمن، وزهقت ملايين من الأروح في سبيل تحقيق حرية الاعتقاد وكرامة الإنسان.
الأفكار الأصلح تمكث في الأرض، تتحين الفرصة لتضرب ضربتها التي لا تبقي ولا تذر، تقتلع جذور الفساد والاستبداد وتطهر الأرض من دنسه! للأفكار طريقتها الخاصة، هي بطيئة ولكنها فعالة، تعمل خفية في غضون الزمن لا يعلمها إلا الراسخون في العلم! وهذا ما حصل بالضبط مع لويس السادس عشر! لم ينتبه من نشوة السلطة والملك إلا وطوفان أفكار فولتير وروسو قد غمرت نظامه وقضت عليه قضاء مبرحا.
كان فولتير شغوفا بالقراءة والكتابة منذ أن كان شابا يفعا. هذه القراءات جعلت منه إنسانا صاحب الروح اليقظة، ينتقد الأوضاع ويدعو إلى الإصلاح والمساواة وحرية العقيدة والكرامة الإنسانية. وبسببها دخل في مشكلات مع النظام الحاكم في باريس وسجن في سجن الباستيل. لميثنيه السجن عن نشر أفكاره التي تدعو إلى حرية التعبير والتسامح الديني، كان خصما لدودا للكنيسة الكاثوليكية، لعب فكره دورا مهما في إنضاج وتهيئةالأوضاع للثورة الفرنسية… اسمه الحقيقي هو (فرانسوا ماري أروويه François-Marie Arouet)، فولتير اسم مستعار اضطر لاتخاذه بعد سجنه للمرة الأولى في سجن الباستيل، سجن أكثر من مرة في هذا السجن اللعين، وهذا هو شأن كل من ينتقد الأوضاع الاجتماعية التي تستعبد الإنسان وتجعل منه أداة طيعة هينة للطغاة والفسدة. لم يكن لفولتير بدا ولا اختيارا للبقاء في فرنسا، أجبر على الخروج من البلد الذي أحبه وناضل من أجل خيره، خرج منه خائفا يترقب موليا وجهه شطر بلد بريطانيا الذي أعجب بتسامحه مع المخالفين في الرأي والاعتقاد فكتب رسالة في التسامح على غرار الرسالة التي أصدرها الكاتب الإنجليزي (جون لوك) عن التسامح الديني. جاءت هذه الرسالة كتتويج لواحدة من كبرى معارك فولتير التي قادها في حياته الفكرية، دعا فيها إلى التسامح ونبذ التعصب وقبول الآخر المختلف دينيا وطائفيا. وعلى الرغم من انتمائه إلى الأغلبية الكاثوليكية في فرنسا نجده يقف مدافعا عن حق (الهوج نوت Huguenot) البروتستانت في الاعتقاد. رسالة في التسامح هي مرافعة جريئة في وجه التعصب الديني يوم كانت الطائفة البروتستانتية في فرنسا مضطهدة محرومة من ممارسة عقائدها الدينية.
في الفصل الأول من رسالته يروي قصة مواطن من الطائفة البروتستانتية عاش في مدينة تولوزToulouse، يدعى (جان كالاس Jean Calas ). كان رجال الدين الكاثوليك يتمتعون بسلطة مطلقة في المدينة ولا يسمح لأي بروتستانتي أن يمتهن مهنة أو حرفة أو تولي مسؤولية في المدينة، كما حرم على الكاثوليك بالاستعانة بأي خادم أو كاتب بروتستانتي، فهي خطيئة كبرى لا تغتفر! فالويل ثم الويل لمن يقدم على تشغيل الكافرين المرتدين!
وفي يوم من الأيام حدث ما لا يحمد عقباه: شنق أحد أبناء (جان كالاس) نفسه بسبب الإحباط في سوق العمل، ولكي يتجنب الأب هذه الفضيحة خرج بوثيقة تقول: إن ابنه مات ميتة طبيعية، ولكن إشاعة رهيبة انتشرت في البلاد كانتشار النار في الهشيم مضمونها أن الابن لم يشنق نفسه بل إن أباه قتله حتى يحول بينه وبين اعتناقه الكاثوليكية. ألقي القبض على الرجل وعذب عذابا نكرا حتى الموت!.. هربت عائلته إلى منفى فولتير في فيرني لتقص عليه الحادثة، ومن مكان منفاه أطلق صيحته المشهورة “اسحقوا العار”
كانت الكنيسة الكاثوليكية تعتبر فولتير من ألد أعداءها، هرطقيا ملحدا زنديقا فاسدا، مخربا للعقيدة الصحيحة وهداما لتعاليمها بل وصل بها الأمر إلى إصدار مرسوم تحرم فيه أعماله الأدبية والفلسفية و كل من يقرأ كتبه ويروج لأعماله المسرحية والأدبية ملعون بلعنة الرب إلى يوم القيامة. كل هذه الاتهامات الخطيرة كانت تكال وتحاك له من قبل الكنيسة بمباركة النظام السياسي في باريس.
لم يتوقف فولتير عن الشجب والتنديد باستبداد وطغيان الكنيسة ومن والاها من الأنظمة السياسية الفاسدة، ولعله من المفكرين القلائل الذين قضوا حياتهم في المنفى من أجل أفكارهم وقيمهم الإنسانية، أنتج ما يقارب 100 كتاب في مختلف فروع المعرفة من مسرح وأدب وفلسفة، عاش 83 عاما وسجن في سجن الباستيل مرتين، وبتوصية من أحد النبلاء ضربه الغوغاء من العوام ضربامبرحا كاد يود بحياته. وهذا الحدث يذكرنا بحدث فيلسوف قرطبة ابن رشد عندما أراد الصلاة في أحد المساجد هو وابنه فتعرض لهما الغوغاء وأهانوهما ومنعوهما من الصلاة. قال ابن رشد عنها إنها من أصعب الأوقات التي مرت عيله في حياته!.. لم يكتف النظام الحاكم قط في قرطبة بالمضايقة وإثارة الغوغاء عليه بل اتهمته ايضا بطانة السوء وعلماء القصر بالزندقة والعبث بالدين فكانت فرصة ليبعده النظام الفاسد في قرطبة ونفيه خارج وطنه كما هو معروف في التاريخ إلى (الليسانة) ليقضي فيها بقية عمر شيخوخته، شريدا طريدا، مدحورا منبوذا متهما في عقيدته وفكره!
التشدد وعدم التسامح يعملان ضد قوانين الكون التي تقوم على التوازن، واختلال التوازن يؤدي حتما إلى اختلال الكون. والتدين لا يشذ عن هذه القوانين للكون. الفكر المتشدد يلحق بالقواعد والنظم الاجتماعية ضررا كبيرا، التشدد يشوه حقيقة الدين الذي جاء لخير الإنسان وسعادته.
كتب المؤرخ الأمريكي (ديورانت) في كتابه قصة الحضارة يقول: إن فولتير دشن عصر التنوير بشعاره المشهور في جدال المختلفين: “مع كل اختلافي وتناقضي معك في الرأي فأنا مستعد أن أموت ليس من أجل رأيك، ولو كنت أعتقد سخفه، ولكن من أجل تمكينك من التعبير عن رأيك”. هذا الشعار هو بمثابة ميثاق في التعامل مع المخالف في الرأي والاعتقاد، أتي أكله في المجتمعات الأوربية التي عانت قرونا من ويلات بطش الكنيسة وجبروتها ومحاكم التفتيش والقبض على الملايين ووضعهم تحت أدوات التعذيب الجهنمية للاعتراف. لكنها في الأخير هزمتها أفكار فولتير وروسو في فرنسا، و(جيوردانو برونو Giordano Bruno) في إيطاليا (أحرقته محاكم التفتيش لرؤى رآها تخالف رأي الكنيسة)، والراهب (جون هاس John Huss) في تشكوسلوفاكيا (اعدم حرقا بسبب أفكاره الإصلاحية)، وفي القرن 17 تم طعن (باروخ سبينوزا(Baruch Spinoza الهولندي على يد متعصب يهودي بسبب مخالفته لأحبار اليهود، وفي عالم العرب أعدم محمود طه في السودان على يد زبانية النميري الفاسد وباسم الشريعة الإسلامية !..
لا يمكن فهم اقتراف هذه الجرائم في حق الإنسان بدون فهم الجو السائد آنذاك من بطش الكنيسة وجبروتها ومحاكم التفتيش والقبض على المخالفين في الرأي والاعتقاد وإخضاعهم لآلة التعذيب الرهيبة. وهو ما نعيشه نحن اليوم في عالم العرب والمسلمين من تعريض الانسان لأشكال السجن والتعذيب، مما يجعلنا نوقن أننا نعيش هذا الجو الخشن لمحاكم التفتيش بمسميات جديدة.
الدين في جوهره يسمح للمختلف أن يبقى على قيد الحياة، ولا يدعو إلى سجن وقتل الانسان بسبب آرائه ومعتقداته، بل فرض الجهاد لحماية المختلف ليدلي بما يعتقد بحرية وأمان “وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر..”.
الكون أحدثه الخالق مبنيا على التعددية، ومبرمجا على الاختلاف “ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين..”، لأن صلاح الكون واستقامته وجماله يكون بالتنوع والتعددية، فهذا هو السر المخفي في ولادة النظام من التعقيد، والوحدة من التنوع.
وإذا كان الكون لا يستقيم إلا بالتنوع والتعدد، فلم يشعر البعض أن من الواجب تكميم الأفواه، ولجم الآراء المختلفة، وتطويقها ومنع انتشارها بزعم أنها تفسد الدين أو تفسد عقول الناس أو أفكار باطلة.. مع أن الباطل يحق له أن يعيش بنص الآية “قل جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد..”.
المشكلة ليست مشكلة قتل الباطل، بل فهم معنى آيات حرية الرأي ووعي الانسان بها لتصير عنده سلوكا، وبالتالي خلق مجتمعا آمنا سلميا، يتسع لجميع الآراء والمعتقدات والأفكار، مجتمع الرشد والتواصي بالحق. فالأفكار الأصلح التي تنفع الناس في حياتهم تمكث في الأرض، وأما الأفكار الباطلة، فتندحر وتموت من تلقاء نفسها “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا..”
لا يمكن خنق الأفكار مهما طال الزمن، الأفكار كالماء اللين العنيد، سيجد له في النهاية طريقا لشق الصخر القاسي والتعبير والانبجاس. إنه القانون الأزلي الذي يشير إليه القرآن في أكثر من موضع: ” بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق” (س. الأنبياء)، وفي سورة الاسراء: “وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوق”.
كل الإجرام الذي يقترف في حق الانسان هو باطل مهما طال وساد ستدمغه الأفكار الحقة وتزهقه ولا يمكث في الأرض إلا ما ينفع الناس، هذا وعد الهي ليت علماء الدين ينتبهون إليه ويسخروا جهودهم للدفاع عن المظلومين والمخالفين في الرأي ولا يكونوا عونا للمستبد في اضطهادهم وتكميم أفواههم!!
تعليقات الزوار ( 0 )