Share
  • Link copied

خالد شيات: هل تتربع الصين على عرش الاقتصاد العالمي؟

“الحرية تطرح العديد من الصعوبات، والديمقراطية ليست مثالية، لكننا لم نكن في حاجة أبدا لبناء جدار لتطويق شعبنا وlمنعه من المغادرة”

جون كيندي، برلين 26 ينويو 1963

كان قلة من المحللين يتنبؤون بكارثية الآثار التي يمكن أن تسببها أزمة صحية عالمية، لاسيما عن طريق فيروس يتحول في غضون أيام، بفعل عوامل التنقل الأكثر تطورا التي تستعملها الإنسانية اليوم، إلى جائحة عالمية، حسب تصنيف منظمة الصحة العالمية، وتدفع الدول إلى إغلاق حدودها وتبني سياسات متطرفة فيما يخص الحجر الصحي لحماية الصحة العامة، غنها ازمة عالمية، وهذا يعني، مع استرجاع قراءة تاريخ العلاقات الولية، تحولات جذرية على مستوى التوازنات التقليدية التي كانت تحكم هذا العالم الناشئ عن انتهاء الحرب الباردة التي غطت مسارا زمنيا استمر تقريبا طيلة القرن العشرين، مرحلة امتدت ثلاثة عقود بشرت فيها الإنسانية بنهاية التاريخ لصالح منظومة ليبرالية خرجت منتصرة من الحرب الباردة السابقة.

هذا الوضع الاستثنائي الذي يعيشه العالم اليوم، مع انتشار هذا الفيروس المسمى “كوفيد 19″، يتسم بالفجائية، أي أن حتى الدول الأكثر تقدما لم تكن على استعداد تام، أو نسبي، للتعامل، على الأقل عدديا، مع جحافل المرضى والمصابين الأكثر هشاشة والذين وجدوا أنفسهم أمام منظومة مختلة لم تراع الحاجة الأولية لضمان بقائهم أحياء.

وفي هذه الفوضى غير المتوقعة، أو السيئة الاستعداد من طرف المنظومات الصحية للدول في الغالب، وضعت أسئلة الحياة إلى جانب أسئلة أخرى منها سؤال الهيمنة والريادة، أو سؤال الحفاظ على هذه الهيمنة والريادة، أو سؤال الحفاظ على مسافات تتيح اللحاق بدول تصنف في خانة الدول المهيمنة والرائدة؛ لذلك في مقابل استراتيجية الحماية المطلقة للصحة العامة بالنسبة للأنظمة ذات أولوية الاستقرار الاجتماعي وغير المعنية بطبيعة الترتيب الريادي العلمي، كان هم القوى الكبرى عدم السقوط في هاوية الأزمة الاقتصادية والتفاوت التنموي الذي يمكن أن يكلف قوة، كالولايات المتحدة الأمريكية، الكثير في نسق استراتيجيتها العامة.

هذا العالم الأكثر ضبابية الذي رسمه الفيروس يخبأ بعد انقشاعه صورا متشابكة للمآلات التي يمكن أن تنتهي بها منظومة الزعامة الدولية، وبالتالي الريادة، أخذا بعين الاعتبار استعمال كلمة هيمنة بالمعنى المشتق من مرتكزات المدرسة الواقعية، وأخذا بعين الاعتبار تحولات كبيرة على مستوى بنية الصراع المفترض حولها.

إن البعد الوحيد المتاح حاليا هو البعد التصوري، أو النظري أيضا، أي أننا بعيدون حقا عن إمكانية نسج رؤى متكاملة لطبيعة المنظومة الدولية في المستقبل القريب، وطبيعة الترابطات التي يمكن أن ينتجها، هذا البعد يبدو أنه يوحي أنه يرتكز على متحولات أساسية يمكن إجمالها في نسقين؛ الأول مرتبط ببنية وقدرة الدول المهيمنة تقليديا، والثاني يرتبط ببنية الدولة أو الدول المرشحة لخلافتها.

1-الليبرالية الجريحة في الغرب

كتب عن الليبرالية وعن أعطابها وإمكانيات إصلاحها الكثير، لقد خرجت هذه البنية المتشكلة من البعدين الكبيرين، السياسي والاجتماعي الثقافي، والقائمة على منظومة الحرية اقتصاديا، منتصرة من مسار طويل بعد تناطح قاتل مع بنية مضادة إبان الحرب الباردة، حيث تم التهليل بنهاية التاريخ المضاد لها أو التاريخ المعاكس لطموحاتها، والإعلان عن بقاء الإنسان الحر والمستهلك والمتنافس من أجل الكسب باعتباره إنسانا أخيرا لا مكان للتطور بعده، وبشر الآخرون بحتمية القضاء على كل العداوات الثقافية والحضارية المناقضة، وبدأ الحملة التبشيرية القاسية والمكلفة سعيا نحو استفراد ثقافة واحدة إنسانية معولمة لا تقبل انخراط وتكامل الفعل إلا بداخلها وحولها. لكن أعطاب الليبرالية كانت هذه المرة بنيوية. نعم لقد استطاعت أن تتكيف مع التحولات التي حدثت عبر تاريخها الطويل المعاصر، لكن لقد كان ذلك بفضل الاجتهاد النظري القوي الذي طرحه منظروها، أو حتى أعداؤها، عندما استفادت من النقد واستطاعت أن تبني، في مرحلة الحرب الباردة مثلا عدالة نسبية في التوزيع أدى إلى شراسة في الدفاع عن قيمها.

مع انهيار المعسكر الشرقي الشيوعي تجلى بوضوح العجز في النظرية والسير الحثيث نحو الكمية دون مراعاة للدورات الاجتماعية، حيث تقلصت بشكل كبير مؤشرات الرفاهية المجتمعية لصالح أرقام النمو والمستوى المعيشي المتطور لفئات لا تمثل سوى نسبة قليلة محظوظة من المجتمعات الليبرالية عموما. وبدون تعميم ذلك، يمكن القول مع الانتقال المفترض من التصورات الكلاسيكية التي كانت في حدة النقاش والصراع أيضا مع المدرسة الاشتراكية التي طرحت فيها الماركسية بدائل أكثر عدالة اجتماعيا، أن مجمل النظريات والأطروحات الاقتصادية كانت تنهل من محورية الإنسان وخدمة الجوانب الأساسية للحفاظ على كرامته، لكنها انتقلت إلى التصورات النيوليبرالية العقلانية القائمة على تعزيز القدرة العلمية لبناء الدولة الليبرالية، خاصة مع تعدد الأزمات سواء السياسية كما هو الحال بالنسبة للحربين الكبيرتين أوائل وأواسط القرن العشرين، أو الأزمات الاقتصادية أواخر العشرينيات من نفس القرن. وكانت هذه المحاولة تكيفا كبيرا ومحوريا في بناء مفهوم المجابهة بعد انهيار المنظومات الشوفينية الوطنية التي قدست الهويات ثقافيا لبناء الهيمنة على امتداد مجال واسع جغرافيا، رغم أنه يصعب نزع التصورات الفاشية من المنظومة الليبرالية، بحيث إنها في الأخير، منتوج ليبرالي خالص، ورغم أنه متشنج للقومية والوطنية، وهو الأمر الذي لم يكن يختلف فيه مع باقي المشارب المناقضة له سواء في أوربا أو الولايات المتحدة والتي كانت تحالفاتها تتغير بين وضع وآخر، ليس لاعتبارات إديولوجية ولكن مصلحية بالأساس. إلا أن الخلاصة هي أن كل ذلك أدى إلى كمون سلبيات وتناقضات الليبرالية على مستوى عدالة التوزيع الاجتماعي بالخصوص.

إن هذا الوضع الذي سينتج فيما بعد صراعا قائما على الوجود بين منظومتين مختلفتين سيجد المجال متاحا للتوسع بحكم الحاجة للصراع، لذلك لم تطرح قضايا التوزيع في نظم الرفاهية الغربية إبان الحرب الباردة لأنها كانت تحقق النفع الاجتماعي كما النفع السياسي والقدرة على المجابهة إديولجيا، لقد كانت الديمقراطية عاملا أساسيا في وضع الثقة في المجتمعات، وكانت الحلم الذي تتوق إليه الشعوب في وضع مترد نتج عن السعي نحو إرضاء الأنظمة المستبدة والمتخلفة للبقاء في منظومة الغرب أو الشرق.

مع تعري الليبرالية أمام وهم العداوة، بعد انهيار المعسكر الشرقي، تبين أن الغطاء الإيديولوجي لا يصمد في وجه الترهلات الكثيرة على مستوى الممارسة السياسية والتوزيع الاقتصادي للمزايا المواكب لها. لقد اعتمد هذا التصور، بعد تطور نظري وتصوري كبير، على منتهى العولمة التي ستجعل الرفاهية والمزايا كونية، نظرا لأن الانتقال عبر الحدود سيكون أسهل وغير خاضع للحواجز الجمركية أو غيرها، بل إن الانكار الكبير الذي ستتعرض له الحدود كان على مستوى تطور نظريات الاندماج عمليا، حيث تم الانتقال إلى مستوى الاتحاد في التجربة الأوربية. ونظرا لهذا التسارع الكبير في هذا النسق المعولم كان الاعتقاد أن الريادة لن تخرج عن المنتصرين في الحرب الباردة إيديولوجيا، أي أولئك الذين كانوا يصارعون من أجل استدامة قيم الليبرالية على تناقض تام مع التوجهات الاشتراكية والشيوعية، وفي كل حال سيكون من السخيف أن تنتهي هذه الحرب بانتصار عملي أو ميداني لكنه بدون أفق أو بدون برنامج، وكذلك يمكن اعتبار السعي نحو العولمة مسعى بدون نهج، بل إنه ربما تطاول على مستوى التطور النظري لليبرالية حيث يمكن اعتبار انتقالها إلى الليبرالية الجديدة العلمية وكذا انتهائها بالاتجاه المعولم مجرد عودة للأفكار أولية بدون نظرية، اجتماعية على الأقل، فلم يكن ما بعد انهيار المعسكر الشرقي ذا أهمية سوى من الجانب العملي، ولم تكن إجابات مبهرة كالعولمة قادرة على تنظيم المجال الاقتصادي بتعقيداته الكثيرة في ظل تناطح قيم الدولة الوطنية والسعي نحو الاندماج، وكذا في ظل التخبط في مسار العدالة الاقتصادية بين هذه المكونات أي الدول بالأساس وانعكاسات ذلك على الوضع الاجتماعي داخلها.

إن هذه الليبرالية الموروثة عن صراع شرق غرب لم تكن حرة بالطريقة التي كانت تبشر بها القوى الليبرالية أثناء صراعاتها مع منظومة الاشتراكية، فهي حافظت على تراتبية دولية للاستغلال، أي أن العالم لم يجن من التحول سوى مزيد من التسلط من طرف قوى بقيت وحيدة بدون منازع على مستويات الريادة السياسية والاقتصادية، وتقوم بتنطيق مصالحها من خلال مؤسسات افتقدت القدرة على تحقيق العدالة بين الدول، ليس فقط بمنطق مصلحي بل أيضا بمنطق استعماري، كما حدث في العراق الذي دخلته قوات الولايات المتحدة بعد إزاحة النظام القائم فيه بذريعة امتلاكه لأسلحة تمتلك هي أضعافها من حيث قوة التدمير. لقد غاب أسلوب اللين وتم وضع أسلوب قاس للحفاظ على المصالح بعيدا عن القيم التي تؤطر المؤسسات الدولية، ومنها المنظمات العالمية كالأمم المتحدة، بل زاد منطق الحرص على تدعيم الوقائع خارج منطق الشرعية الدولية في كثير من القضايا، ومنها على سبيل المثال القضية الفلسطينية وقضية القدس ضمنها.

وفي خضم هذا النشاط المفرط لتأثير المصالح على المواقف تراجعت الدولة ومؤسساتها لصالح قوى تمثل نفس المنطق الدولي بصورة مصغرة، لقد أصبحت الدول متاهات لمنظومة تضم طبقتين متوازيتين تغيب عنها صفة التطابق ويميلان للتقابل بشكل كبير، طبقة مسيطرة على الرأسمال وعلى أدواته الإنتاجية التي تجاوزت العامل البشري، وطبقة أقل اتفاعا، وعريضة، وخاصة لا تتمتع بأي شكل من أشكال الرفاهية في دول الجنوب، الشيء الذي خلق موجات هائلة للهجرة تنصلت منها في الغالب الدول المتقدمة مدعية أن ذلك يؤثر على بنيتها الاجتماعية والثقافية، وعلى أدائها الاقتصادي. وفي الشمال، فئات اجتماعية على خط الرفاهية في الدول المتقدمة أصبحت في الغالب مجالا للتعبير عن التنفيس الليبرالي سياسيا، أي أصبحت أدوات انتخابية وقاعدة كبيرة لمقايضة المزايا باستمرار النموذج المنعكس في الدولة والمجال الاستراتيجي الدولي غير العادل وغير الفعال، والذي يؤدي بداهة إلى تناقضات منطقية في علاقة الإنسان بالوجود، وبذلك ارتفعت معدلات الاستعباد والاتجار في البشر وحالات تعود إلى ما قبل التنظيم المسمى دولة، الشيء الذي يعني أن النموذج العام فاشل، وهو الشيء الذي سيؤثر على بنيات الدول في الجنوب الفقير عموما، ولن يكون له صدى على مستوى الشمال إلا بالتعبير القاسي لمفهوم المتاريس الاستراتيجية التي لعبتها أفضية معينة لصالح بقاء “هدوء” الشمال، وذلك من طرف زوار منهكين قادمين من الجنوب.

لم يكن أي كان بمقدوره أن يتنبأ أو أن يتحدث عن مسارات هذا الوضع المختل ولا مداه، لكن عامل واحد سيزعزع هذه المنظومة، ليس الكونية أو العالمية، بل المنظومة القابعة في أنظمة ودول معزولة عن الأزمة التي تضرب العالم نظرا لعوامل كثيرة، ولا سيما فشل البشارة التي سميت بعد انتهاء الحرب الباردة بالعولمة، وهذا العامل هو الأزمة، أزمة الاقتصاد في خضم عدم وجود أي تنافس إديولوجي لا تعني شيئا سوى أن النموذج بنفسه يعاني من خلل كبير على مستوى التصور، أي أن الليبرالية مريضة جدا لحد يمكن أن يقال معه أنه على فراش الموت.

هناك تساؤل دائم حول جدوى النموذج السياسي المتربط نسقيا بالليبرالية وهي الديمقراطية، كثير من التساؤلات حول هذه الآلية انتقلت من سؤال التجويد إلى سؤال الجدوى، ليس بأسلوب فظ يرفض الديمقراطية كنموذج مقدس ولكن بمفهوم المقارنة بين الأنظمة الأكثر تحكما في البنية الاقتصادية العالمية واستراتيجياتها وبين المنظومات الديمقراطية التي تسجل تراجعا كبيرا. لقد كانت الإجابات في كثير من الأحيان بتشرنق حول ذات الدولة وبنيتها الثقافية الرافضة للآخر والمتمحورة حول التضحية بالنماذج الاندماجية التي تجاوزت الدولة الوطنية في البناء والهيكلة ووضعت تحديات كبيرة لمفهوم الرفاهية التي هي محور الأزمة نفسها، إذ أن الأزمة ليست سوى تراجع في كفايات اقتصادية للأفراد في المنظومة الليبرالية المترهلة والتي تشهد تحديا على مستوى نموذج الدولة السياسي من طرف قوى صاعدة ومنافسة بقوة على المجال الاستراتيجي التقليدي للقوى الغربية بالخصوص. هذه الاستجابة الأولى كانت من داخل البناء الديمقراطي بتوجيه الناخبين نحو أحزاب يمينية جديدة تتبنى العودة لقيادة الدولة لمفهوم البناء الاقتصادي والمالي، أي استعادة المجد المرتبط بالرفاه الفردي في الحد الذي تم تحديده سابقا في بنية داخلية تعرف تجاوز الرأسماليين لحدود الترف بكثير.

أما الاستجابة الثانية فهي على مستوى التنظير، أي أن التساؤل حول بنية التعادلية والتي يحققها النموذج السياسي الديمقراطي، وطبيعة التحولات التي يمكن أن يشدها لتعديل الميزان العادل في نسق عقلاني، فالليبرالية لم تؤد إلى نقص الموارد بل إلى خلل توزيعها؛ مؤشرات كثيرة رقمية أو إحصائية تبشر بقوة الاقتصادات ونجاعتها، لكن لم يكن هناك أي تأثير على مستوى البنية السفلى في هذه المنظومة الليبرالية المنتمية للشمال، لقد خلقت الانتخابات عمليات متكررة للسلوك الديمقراطي الناضج والمتخم حتى في هذا النموذج، لكنه بقي بدون أثر على مستوى التوزيع الناتج عن بنية السلطة القائمة على عملية الانتخابات، لقد بدا أن منظومة المصالح خارج نسق السياسة، وبدا معها أن السياسة لم تعد تعطي مخرجات كبيرة على مستوى التأثير في الفعل الاقتصادي الذي تحول إلى استقلالية منعزلة بل ومأثرة في السياسي نفسه.

هذا الخضم الذي تعقد باستمرار تغلغل الأزمة الاقتصادية، التي هي بالمناسبة أيضا مجرد عمليات إحصائية وأرقام ومعاملات مالية، سيتم تنزيله إلى مستوى الفعالية التي يختلط فيها أداء الدول برفاهية المجتمعات، لقد تحقق مبدأ الفوضى من خلال غياب نموذج لفرملة الأزمات، أو حتى نموذج لكبح النسق التقليدي للمصالح التي لا يغيرها السلوك الديمقراطي الانتخابي لأنها بعيدة عن تأثيره. ومن ذلك كله توضح أن حجم الأزمة كميا وواقعيا كبير إلى الحد الذي أثر على السلوك الاجتماعي للإنسان وعلى التجمع وغاياته في منظومة تحوز كل أشكال القوة المادية والعسكرية ولا تجد أصلا للصراع ولا تفسيرا له، لأن كل البدائل المفترضة للعداوة كانت مجرد فقاعات ليس إلا، ومنها صناعة أوهام العدواة الثقافية والدينية بالخصوص.

إن الليبرالية في مأزق، لم تستفد من بنية العولة وتوجد على حافة إفلاس واقعي وليس فقط ضبابية نظرية.

2-البديل الصيني وتوازن الإقليمة والقوى التقليدية

خرجت الصين من مسار الصراع شرق غرب بدون خسائر تقريبا، لقد تعلمت بسرعة أن صناعة الدول الأقمار والاستغراق في الصراعات العسكرية سيكلف حتما على المدى البعيد في قوتها الاقتصادية؛ ففي حين ربطت الولايات المتحدة قوتها بالهيمنة العسكرية التدخلية وما يوازي ذلك من تكلفة، رغم تحول نظرتها الاستراتيجية للعالم من حيث تقليص النفقات الذاتية وإرغام دول أخرى بذلك، بحيث أن ذلك يخل في منظومة اللاعدالة التي سبق أن أشرنا إليها، فإنهاـ أي الصين، قامت بتطليق هذا المنهج دون التخلي عن بناء القوة العسكرية طبعا، فلم يشهد العالم أي تدخل مباشر أو غير مباشر للصين عسكريا منذ الحرب الكورية وحرب فيتنام أواسط القرن العشرين، وهو ما يعني أن استغلال القوة كان بالأساس في منظومة أكثر هدوءا، وهذا يعني أيضا أنها استغلت فضاء العولة لتكون أكبر قوة اقتصادية استفادت من ذلك.

إن المنظومة السياسية للصين تتجاوز “تعقيدات” الديمقراطية الموسعة وذات التقنيات أو الإجراءات المعقدة، فوقوفها خلف نظام صارم وأحادي القطب خولها أن تستغل الكثير من المزايا التي حفزت الاقتصاد بشكل مباشر نحو مزيد من التغلغل في التنافسية الدولية، وأول هذه المزايا الانضباط الكبير الذي يميز التخطيط الاستراتيجي للصين، إنها قوة اقتصادية بالأساس لأنها تستطيع أن تحرك مجموعة كبيرة من الكفاءات واليد العاملة بتكلفة بسيطة وقليلة، وهذا راجع بالطبع، أيضا، للكثرة العددية للسكان، وإن كانت نفس الظاهرة موجودة في نظيرتها، وندها الهند، التي تتغلغل بهدوء أيضا لتزاحم القوى الدولية اقتصاديا، إلا أنها لا تقوم على نفس الثنائية التي تجمع المنهج بالتدبير السكاني، فالصين تمتاز بقدرة كبيرة على التكيف مع تحولات الاستهلاك العالمي، وهو ما استطاعت من خلاله أن تفرض التوازن بواسطة قوتها العسكرية وموقعها المهم في خريطة التأثير الدولية بدون نزعة تدخلية.

هكذا ساهم النظام السياسي في تشكيل خريطة واضحة للولاء على المستوى الداخلي بالأساس، ويسر الانسلال بقوة في طبيعة منظومة الصدارة القائمة على التوزيع الاقتصادي للقوة عالميا، وهذا النموذج يوجد أيضا في روسيا ويحاول أن يستجيب للطلب الآني للانخراط في الصراع على المواقع في العالم بدل بناء منظومة ديمقراطية لا تجدي نفعا حتى في دول كانت مهدها في العالم المعاصر. ذلك أن نقاش الديمقراطية في الصين هو نقاش مغلف بطبيعة النظام وأيديولوجيته، وهنا يطرح التساؤل حول ماذا يمكن أن تصدر الصين في حال هيمنتها دوليا، هل نموذجها القار اقتصاديا أم نموذجها السياسي المغلق؟

لا يمكن للصين أن تحول الدفة نحو صراع إيديولوجي قائم على منظومة الصراع بين الاشتراكية والليبرالية حتى لو تمكنت فعلا من قيادة العالم فعليا في الغد المنظور، ذلك أنها ستفقد كل مقومات قوتها و تعود إلى لعبة الهيمنة التي استنزفت القوة الأمريكية بعد الحرب الباردة. إن العالم الذي يمكن أن يخوض حربا إيديولوجية متوازنة أهون من العالم الذي يعرف صراعات مفككة، لذلك يمكن لأي دولة أن تغرق في تتبع كل مصالحها في بنيات دولتية هشة عبر علاقات لا تحكمها قواعد ثابتة لا داخليا، أي في الدول نفسها، ولا خارجيا. كما أن غنى الصين الاقتصادي سيتضرر بشكل كبير وستستغرق في المجالات الاستراتيجية والبنيات المترهلة التي لا تجدي نفعا اقتصاديا بتكاليف كبيرة.

ستكون الصين في حاجة لمنظومات إقليمية واسعة نسبيا، لأن الاقتصاد وحده لا يضمن الهيمنة على العالم، لذلك يمكن أن يتم تشكيل أو إعادة تشكيل كتل إقليمية متناغمة مع المصالح الاقتصادية للصين، وفي كل حال، إن العالم لن يقبل أن تكون هناك قوة مهيمنة واحدة في المستقبل، ليس لأن الولايات المتحدة ستفقد مزيدا من نفوذها على أقاليم كانت تعتبرها في حكم التبعية المطلقة، بل لأن القوة ستعيد التشكل بنفسها، بحيث أن السيطرة على العالم لن تكون بامتلاك أسلحة مدمرة فقط بل أيضا بامتلاك القدرة على الحسم في الصراعات، والعالم يتجه نحو إمكانية تمديد المقومات التي يمكن أن تعبر عنها دول بعينها، وهي من يقود المنظومات الإقليمية مستقبلا، ولا مناص آنذاك من التعامل معها بهذا الشكل ليس فقط لتقليص التكاليف بل أيضا لضمان المصالح.

لن تكون بعض الدول لعقود ربما قادمة قارة على استعادة القدرة على الفعل المباشر على المستوى الداخلي والدولي تبعا لذلك، وهي بؤر لها مخرجان؛ الأول يحدد تبعا لأهميتها الاستراتيجية، وبذلك يمكن أن تعرف اهتماما بمجال الإقلاع الاقتصادي كما هو الحال بالنسبة لسوريا بعد الحرب الأهلية الطاحنة، والتي لن تكون إلا من خلال الرؤية الروسية التي تحتل فعليا هذه البقعة، وتبعا لذلك تظهر الحاجة للطبيعة الاستراتيجية في نفس النموذج، حيث تعتبر مجالا حيويا لكل من تركيا وإيران، اللتان تتدخلان فعليا لضمان مصالحهما بهذه الدولة. إن هذا النموذج يبين الحاجة الملحة للقوى الإقليمية بالنسبة للقوى المحتملة الهيمنة كالصين وروسيا، وهذا يفسر أهمية التدخل وقوته بالنسبة لكل طرف، ويبين بشكل واضح أن الأزمات العسكرية ليست في صالح القوة الصينية التي تفقد مربعا مع كل حرب في عوالم الدول الدنيا.

أما المخرج الثاني فهو مجال أقل أهمية أو بدونها، وهذا الفضاء سيكون مرتعا لمزيد من الصراعات المحلية والإقليمية التي لا أفق لانتهائها تبعا لتداخل عوامل دينية أو إثنية أو غيرها في تأجيج الصراع واستمراره، ونظرا للضعف البين للمؤسسات الدولية والمنظمات الدولية كالأمم المتحدة التي يجب أن تكون على استعداد لإرسال مزيد من المبعوثين لكي يقدموا تقاريرهم لأمينها العام.

إن هذا العالم لن يمر أسفل أقدام القوى التقليدية، لذلك سيكون من مصلحة الصين أن يبقى الاتحاد الأوربي في شكل متجدد لكن بدون أن يقود جبهة مضادة لمصالحها الاقتصادية، وفي تباعد مع مصالح الولايات المتحدة التي تتنافر مصالحها أكثر فأكثر مع الاتحاد الأوربي بعد التضييق الذي أحدثته القوة الصينية في منظومة التجارة العالمية، لذلك فالمساعي التجارية وحروبها لن تكل بين الولايات المتحدة والصين، وسيكون على الاتحاد الأوربي أن يختار بشكل قاطع المصالح التي ترتبط بقوى أخرى غير الولايات المتحدة وعلى رأسها الصين، وهذا يعني أن مجموعة المواقف التي تتماهى اقتصاديا مع الولايات المتحدة يمكن أن تنهار، وكمثال على ذلك النسيج الشفاف والمتين الذي يجمع الصين مع إيران يمكن أن يكون عاملا لتحول مواقف الأوربيين من إيران، كما يمكن أن يحدث الأمر بشكل مشابه مع كوريا الشمالية، وسيكون ذلك أسرع مع التشكل النهائي لقوة هذه الدول. إنه عالم يقدم بشكل واضح القوى الإقليمية التي ستلعب دورا محوريا في المستقبل القريب.

وماذا عن الولايات المتحدة الأمريكية التي تعادي الصين اقتصايا في نفس الوقت الذي تجد أن جل مصالحها قد ارتبطت بها فعليا؟

ستبقى القوة الأمريكية كقوة وسيطة، أي قوة مؤثرة في عالم الاقتصاد بشكل كبير، فالانتقالات لا تحدث بطريقة آنية في العلاقات الدولية إلا من خلال الحروب الشاملة، التي تنتهي بالانتصارات والهزائم، فالعالم المقبل لن يعرف منتصرين كبارا ولن يكون فيه مهزومين بالكامل، ذلك أنه عالم متشكل يحافظ على محورية إمكانية بلقنة العالم من طرف القوى التقليدية، بدون ضرورة لحرب مباشرة مع الصين كما يبشر بذلك بعض المحللين، لذلك سيكون التوازن ببقاء القوى التقليدية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مع سطوع أكبر لنجم صيني، وهو مرهون تماما بالقدرة على الحفاظ على سلمية أكبر في العلاقات بين الدول، ولا تستطيع الصين أن تضمن هذه السلمية إلا من خلال شراكاتها مع القوى التقليدية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، إنه عالم يبدو أنه لا أحد يريد أن يسعى فيه للهيمنة بمفهوم المدرسة الواقعية على الأقل، لأن الهيمنة الشاملة تعني التنحي الشامل أيضا عن الفعل والتأثير في العلاقات الدولية.

إن الملامح الكبرى تتشكل من خلال التحولات التي تبشر بها الأزمات، ونحن لا نتحدث فقط عن الأزمة التي جاءت عقب فيروس عالمي، بل أيضا عبر عشرات المظاهر التي يمكن أن تغدي الأزمات في عالم يفقد السيطرة على آليات تنتج هذه الأزمات ويضعها في أياد متعددة يمكن أن لا يكون لها علاقة بالدولة أو بالصراع بين الدول، ويمكن أن تكون مجرد مجموعات همجية ترى العالم بنظرة حاقدة، لذلك لن تنتهي اللعبة فقط لأن هناك من أراد أن يفتعلها أو لأن هناك من سيربح أكثر من خلالها، فالتحولات قمينة بأن تعطينا، عبر الأزمات، دروسا أخرى بليغة.

*أستاذ العلاقات الدولية

Share
  • Link copied
المقال التالي