Share
  • Link copied

حين يفكر الإنسان من قلبه!

لم ينجو أحدنا من التعرض لموقف حازم، يتأرجح فيه معلقاً بين قلبه وعقله، متأثراً بالصورة اللصيقة برجاحة العقل، في مقابل “عاطفية” القلب، ليبدو كل منهما وكأنه نقيض للآخر ف” القلب بنى البناء والعقل نَقَدَه، والقلب أحيا الشعور والعقل حده” كما يصف الكاتب أحمد أمين.

وإن الإمعان في طبيعة السلوك الإنساني، وترابط وظائف مكنوناته، يجعل من حالة التناقض “السطحية” المعبرة عن علاقة القلب بالعقل مستهجنة، إذ كيف يتعاضد بكل ما فيه ويتنافر باثنتين من أهم وأبرز أساساته “المعرفية” و”اليقينية”؟ 

لقد نجحت الدراسات ذات الصلة في إحداث ضجة تزعزع من “الصورة النمطية” لكل من القلب والعقل، بعدما أثبتت أدوار وظيفية “مصيرية” تنتج عن القلب، وقدرته على التحكم بالقرارات العقلية وتوجهاتها. وفي تقريب نقاط الاشتراك والتفرق، يمكن القول بأن التضاد الوارد بين العقل والقلب، لا يعتبر كلياً، سيما بوجود تناغمية تكاملية تتمثل في صفات كل منهما، وهذا ما يفسر جواب ابنِ عَباس حين سئل: “بِماذا نلتَ العلمِ”، فأجاب:” بِلسانِ سَؤول وَقلبِ عَقول “. فالإنسان في تكوينه وبنائه السيكولوجي، لا يمكنه أن يعتمد على الصلابة المطلقة، ولا أن يمتطي اللين اللامحدود، بل أن يجمع بينهما في تكوين قراراته وسلوكه.

وكما قيل فإن: “مثل العقل في القلب كمثل السراج في وسط البيت”، وإن تحقيق الموازنة بين كل من العقل والقلب، لا يعتبر بالأمر الهين، سيما أن العقل يمثل “لب المعارف”، ومنبع الفكر والتفكر، واليد اليمنى للعملية الفلسفية والإيمانية الوجدانية، والقلب “مخ المشاعر”، ومصنع الطمأنينة، والتصالح النفسي والفكري. ولذا نجد أن النص القرآني أولى اهتماماً في العديد من المواضع مشيراً لتناغمهما، كقوله سبحانه وتعالى: “ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ”، فالعدل مبني على إقرار عقلي حكيم وقوي، والإحسان نابع من الرحمة والود. 

وفي هذه التشاركية والتكاملية، بين العقل والقلب، نلتفت لجامع أكثر سمواً وهو الروح، وأما بالتركيز على القلب، فنجد أن فيه ما لا يكتمل للعقل وظيفة دونه، وهذا مصداقاً لقول النبي الكريم صلى الله عليه وسلم:” ألا وإنّ في الجسَدِ مُضغةً إذا صلُحَتْ صلُحَ الجسَدُ كلُّهُ وإذا فسَدَت فسَدَ الجسَدُ كلُّهُ ألا وهيَ القَلبُ”، مما يدل على محورية وظيفته على الرغم من وجود مكونات غيره للإنسان لها ما لها من دور بارز ومهم، ولكنه لا يستقيم، ولا يعد حافزاً كافياً، بدون “صوت” القلب.

وفي تناول ما فسره العديد من الفلاسفة من جدلية قائمة بين القلب والعقل، نجد أن المضغة الغضة التي يتصل بها صلاح سلوك الفرد من انحرافه، ترتبط بشكل مباشر ب بناء وتسيير عملية الفهم والإدراك، وهو ما يصدق قوله تعالى: ” لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا”، فحين تحدد منبع الإدراك من القلب، وافق ذلك نتاجاً علمياً دقيقاً يعترف بوجود ما يقارب الأربعين ألف خلية عصبية في القلب، أي أننا نقترب لوصف القلب بأنه “عاقل”، مما يعني تغير موقع العقل الذي تعارف الإنسان عليه مستقراً في رأسه، أو وجود عقلين لكل إنسان! أوليس الله عز وجل من قال وقوله الحق: ” أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”؟، وبالتالي فإن الإدراك والمشاعر المرتبطة به باتت  تشق طريقها من بين حجرات القلب، فالقلق -على سبيل المثال لا الحصر- تعتبر أحد المشاعر التي يفتقدها من يقوم بزراعة قلب صناعي، وذلك لانتفاء وظيفة القلب الحقيقي في الشعور بالخوف والرغبة وغيرها، فالقلب يطمئن ويجل، وكذلك نجد في قوله عز وجل: ” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ”.

تتمثل العودة في تدارس ماهية العقل والقلب مراراً وتكراراً، كاستجابة لما تمليه التحديات الإنسانية الكبرى، التي وإن اختلفت مجالها (سياسي، اقتصادي، ثقافي، اجتماعي، تربوي)، إلا أنها تقف ثانيةً على أساس مركزي هو السلوك الإنساني وتوجه تفكيره وبنائه المعرفي، مما يؤكد ضرورة الدفع بالإنسان ليفوز ب “رهان الموازنة العقلية القلبية”، وبالتالي تنظيم سريان المنظومة الأخلاقية والبناء عليها.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

Share
  • Link copied
المقال التالي