ما هو هدف التعليم؟ إن أول جواب يتبادر إلى الذهن هو أن الغاية من التعليم أيا كان هو اكتساب المعرفة التي تمكن الإنسان من اكتشاف وفهم العالم ، والترقي في مدارج الإنسانية، والخروج من ربقة الجهل والتخلف الذي هو رديف الرجعية ،والضعف والعبودية إذ لا يمكن التقدم، وتحقيق الرفاهية إلا عن طريق التعلم واكتساب المهارات العقلية والذهنية، ولذلك كان التعليم هو المدخل الأساسي والأهم للعديد من الدول والأمم، والتي استطاعت الى عهد قريب الالتحاق بركب الحضارة والتقدم، لأنها أولت الأهمية القصوى لتعليم أطفالها باعتبارهم رجال الغد، وبسواعدهم وعقولهم استطاعت الهروب إلى الأمام مئات السنوات الضوئية، ومن ذلك مثلا دولة سنغافورة والتي تحولت بشكل إعجازي من جزيرة فقيرة مليئة بالمستنقعات والبعوض إلى أقوى اقتصادات العالم وكان ذلك بفضل “لي كوان يو” رئيس وزراء سنغافورة فبعد انتخابات ديموقراطية.انضمت سنغافورة إلى الاتحاد الماليزي عام 1963 عقب الاستقلال عن بريطانيا،لكن بعد سنتين فقط قررت ماليزيا التخلي عنها،وأصبحت بذلك سنغافورة دولة مستقلة بحكم الأمر الواقع. وفي تلك اللحظة بكى “لي كوان يو”، وعزم بإرادة مليئة بالوطنية والصدق والإخلاص نقل بلاد فقيرة تغمرها المستنقعات و يملؤها البعوض و لا تتجاوز مساحتها 720كيلومترا مربعا،ولا يجمع شعبها لغة أو قومية أو تاريخ مشترك،و فوق كل ذلك لا نفط فيها و لا ذهب للبيع!. وقبل “لي كوان يو” التحدي و معه فريق من أفضل الخبراء بحكومته، في مشهد تاريخي لا يتكرر فوضع مع فريقه خطة للنهوض بالبلاد عبر جذب الاستثمارات الأجنبية و دفع السنغافوريين للتعلم بأي وسيلة،و صرف النظر عن السياسة تماما. فآمن السنغافوريين بأن “الوقت هو وقت العمل فقط، فاستطاعت سنغافورة دخول صناعات بناء السفن و هندسة المعادن و البتروكيماويات و الأدوات.
لقد نقل لي كوان يو بلده من مستوى التخلف والرجعية إلى مصاف الدول المتقدمة حتى أصبح جواز سفرها من أول الجوازات في العالم و التي يستطيع مواطنها السفر إلى كل بلدان العالم بون استثناء، ولذلك فقد فاز لي كوان يو” بمنصب رئيس وزراء الجمهورية السنغافورية وحكمها لمدة ثلاثة عقود متتالية صنع خلالها نهضة حديثة في ظل تلك الظروف الصعبة والشاقة التي شهدتها بلده.
وبذلك فقط استطاع “لي كوان يو” أن يبني نهضة اقتصادية وأن يجعل بلده من أهم بلدان العالم كما كان يحلم وقد تحقق له كل ذلك عن طريق اعتماد سياسة الاستثمار في الإنسان السنغافوري نفسه من خلال التعليم وتكثيف البعثات العلمية للخارج وتطوير المستوى الانساني والصناعي بمجملة وبذلك شقت سنغافورة طريقها معتمدة على الثروة البشرية وذوي الكفاءات، وقد رأى “لي كوان يو” أن لا نهضة اقتصادية إلا في استثمار الفرد ذاته، وتأهيله ولذلك وضع مناهج علمية حديثة ركزت على بناء المعلم لأنه القاعدة الأساسية لبناء الأجيال القادمة.
وكذلك فعلت ماليزيا مع رئيسها وصانع تقدمها مهاتير محمد والذي بدأ في تطبيق رؤية اقتصادية لتحقيق نهضة شاملة، عن طريق القيام بتغييرات ثقافية وفكرية حينما شارك في قيادة حراك شبابي وجماهيري منذ أن أصبح رئيسا لاتحاد الطلاب المسلمين بجامعة سنغافورة قبل تخرجه من كلية الطب سنة 1953، وتخصيص نصف وقته لمعالجة الفقراء في عيادته كجراح، وفوزه بعضوية مجلس الشعب عام 1964، وتم انتخابه “سيناتور عام 1970، واختياره وزيرا للتعليم عام 1975، ثم مساعدا لرئيس الوزراء عام 1978، ثم رئيسا للوزراء على مدار خمس فترات انتخابية متتالية منذ عام 1981 وحتى عام 2003، ليصبح صاحب أطول فترة حكم في آسيا.
وفي نظام التعليم، جعل مهاتير محمد مرحلة ما قبل المدرسة الابتدائية (الروضة) جزءا من النظام الاتحادي للتعليم، واشترط أن تكون جميع دور الرياض وما قبل المدرسة مسجلة لدى وزارة التربية، وأنشأ الكثير من معاهد التدريب المهني، التي تستوعب طلاب المدارس الثانوية وتؤهلهم لدخول سوق العمل في مجال الهندسة الميكانيكية والكهربائية، كما أنشأت الحكومة الماليزية العديد مما يعرف بالمدارس الذكية التي تتوفر فيها مواد دراسية تساعد الطلاب على تطوير مهاراتهم واستيعاب التقنية الجديدة؛ وذلك من خلال مواد متخصصة عن أنظمة التصنيع المتطورة وشبكات الاتصال ونظم استخدام الطاقة التي لا تحدث تلوثا بالبيئة.
وبلغ إجمالي ما أنفقته الحكومة الماليزية على التعليم في عام 1996 2.9 مليار دولار بنسبة 21.7% من إجمالي حجم الإنفاق الحكومي، وازداد هذا المبلغ إلى 3.7 مليارات دولار عام 2000 بما يعادل نسبة 23.8% من إجمالي النفقات الحكومية.
وبواسطة التعليم والتربية استطاعت الصين أن تصبح أقوى اقتصاديات العالم وكذلك الشأن بالنسبة لليابان وكوريا الجنوبية، وكذلك العديد من دول أوروبا كسويسرا وفنلاندا وألمانيا، وهو ما تحقق لبعض الدول الأفريقية كاثيوبيا ورواندا وأنغولا والكوت ديفوار والتي كانت تعيش إلى عهد قريب التخلف والمدابح والمجازر العرقية.
وبالتالي فإنه يتبين مما تقدم أن التعليم ومحو الأمية والقضاء على الجهل هو المدخل الأساسي للتقدم وتحقيق مجتمع الرفاهية، والاستثمار في الإنسان كقيمة في حد ذاته عن طريق نظام التحفيز والتربية ، وغرس القيم والأخلاق من أجل خلق المواطن الصالح الحر، العقلاني الذي يفسر الظواهر الطبيعية والكونية عقلانيا ، وليس عن طريق الاسطورة والخرافة، وهو ما تبين واضحا من خلال تعامل المواطن المغربي مع جائحة كورونا وتفسيره الوباء تفسيرات قدرية جبرية لا مهرب منها، وعدم انخارطه في تنفيذ مجهودات الدولة من أجل الحد من انتشار الفيروس عن طريق الالتزام بالتدابير الاحترازية، وكان من الصعب خلق مواطن متعلم وواعي ومتفهم، فجأة بدون مقدمات تاريخية تبني على التعليم والوعي والمعرفة، فلم تزرع الدولة العلم والمعرفة فلم تجني إلا العناد والجهل ، فكانت المناطق الشعبية الاقل تعليما هي المناطق الأكثر خرقا للحجر الصحي والتمرد على أوامر السلطة رغم حملات التوعية عن طريق البرامج التلفزية والإشهارية وفي مشهد ساخر ومبكي في نفس الآن، خرج أحد أشهر مقدمي البرامج التلفزية حول كورونا إلى الشارع، سائلا الناس عن مقدار استفادتهم من هذه البرامج التوعوية فكانت أحد الإجابات صادمة تمثلت في ردهم أنهم فعلا أستفادوا من الدعم المالي، فسؤاله كان في واد والأجوبة في واد آخر، وذلك كان نتيجة طبيعية وحتمية وغير مفاجئة، لأن الدولة لم تستثمر في الإنسان وتخلت عن التعليم فعم الجهل والأمية وبالتالي فإن الدولة لم تجد مواطنا متعلما مثقفا يفهمها ويستجيب لنداءاتها، إلا بنسبة قليلة، وبالتالي لم يوجد المواطن الذي ينتهج سلوكيات منطقية محسوبة، العواقب، لأنه لم يحصل الوعي لدى الفرد المواطن ويتعمق لديه الفهم بكون القانون هو من إفراز ه، عن طريق مؤسساته التشريعية والتي هي في نهاية المطاف تعبير عن إرادته ، وأن التزامه بها هو التزام بإرادته التي قررها مشرعوه المنتخبون بأصواته ،والذين هم في نهاية المطاف ممثلوه، والمتكلمون بلسانه ولو تحصل هذا الوعي لما حدث العصيان والفوضى من طرف أغلب الشعب المسحوق، لأنه كان سيفهم أن إرادة الدولة، هي في الحقيقة تعبير عن إرادته ، وأن الدولة ما هي إلا شخص معنوي متشكل من الأشخاص الطبيعيين الذين يجمعهم هدف واحد و َمصير واحد ويجمعهم التراب والجغرافية والحدود والسيادة، والتاريخ المشترك، رغم تعدد عرقياتهم وأديانهم ولغاتهم لأنهم يجتمعون على هدف واحد هو البقاء والتعايش المشترك وتحقيق مجتمع الرفاهية.
والتعليم لوحده ليس كافيا بل لابد أن يقترن بالتربية التي تعتبر مسألة أساسية لصنع الإنسان الصالح ولا يمكن أن تتم العملية التربوية إلا وفق تصور موحد ورؤية واضحة تكون مؤسسة على عقيدة مذهبية أو فكرية أو دينية أو أيديولوجية، يسارية أو ليبيرالية أو علمانية،
أي أن التربية لا بد أن تكون وفق مخطط أمة ولا يمكن للقطاع الخاص بتنوعه واختلاف أهدافه ومراميه ومنه الوطني والاجنبي أن يحقق هذا الهدف، رغم َجود بعد المؤسسات الخاصة ذات البعد المناظل والوطني.
ولذلك وجدنا خلال الثلاثين سنة الماضية أن الأجيال الجديدة افتقدت في الأغلب والآعم إلى الحس الوطني والارتباط بالقيم الدينية أو الفكرية التي اتسمت خلال مرحلة ما بعد الاستقلال بالالتزام السياسي والأخلاقي، وهذا كله أثر على المشهد الفكري والثقافي وحتى المشهد السياسي والحزبي، وهذا ما أدى إلى اختفاء الحس النظالي واختفاء المناظلين، الملتزمين بخط فكري وسياسي معين، وظهرت أجيال منهارة لا تؤمن بالمستقبل ومفتقدة للأمل وبدون طموح، طبعا لا يمكن أن تزغم أية قراءة علمية التعميم والآطلاقية، فهناك طبعا فئات من أبناء الطبقة المرهفة والبورجوازية والأرستوقراطية، التي اغتنت في ظروف معينة بطرق مشروعة أو بطرق غير مشروعة عن طريق الفساد والريع ، وحققت تراكما غير منتج، وكذا بعض فئات الطبقة المتوسطة الذين استطاعوا تحقيق الإنجاز التعليمي العالي لأبنائها بشكل فردي ساهم في الترقي وتوسيع الفوارق الطبقية التي تزيد من صعوبة تحقيق الحلم المشترك لكل أبناء الشعب مما يكرس الأنانية الفردية والإيمان بالخلاص الفردي، وهذا لم يساعد طبعا على الرقي أو التقدم المجتعي، وظلت الدولة تعاني من الأحباط في الوصول إلى ركب الدول المتقدمة وتراكم الفشل تلو الفشل في تحقيق مستوى من النمو يؤدي إلى مجتمع الرفاهية، وظلت الديمقراطية تراوح مكانها وتدور في فلك الانتظارية والمرحلة الانتقالية، لأن الديمقراطية تعني الاختيار بالإرادة الواعية والحرة ، وطبعا لم يتحقق هذا الإنجاز الحلم لأن تثلاثة ارباع أبناء الوطن يعانون من التخلف والجهل الذي يعيق إرادتهم ويجعلهم في وضعية الاحتياج والجهل وسوء الفهم مما يدفع الجموع إلى انعدام الثقة في الفاعل السياسي وفي الواقع والمستقبل مما يؤدي بالتبعية إلى استفحال الجريمة والاستكانة والكسل والرضى بالقدر والمكتوب والإيمان بالغيبيات والخرافات والأساطير ، والانتحار وفقدان الأمل، فيصبح الوطن كسيحا متخلفا لا يستطيع النهوض وذلك شيء طبيعي ومنطقي لأنه لا يمكن بالضرورة أن ينهض الوطن بربع أبنائه ممن تتلمذوا ودرسوا من المدارس الخصوصية، ذات الجودة العالية وتعلموا اللغات العالمية، فماذا باستطاعتهم هؤلاء أن يفعلوا ، ولو تعلموا وتحصلوا على أعلى الشهادات ، فغاية ما يحصلون عليه هو الحصول على حياة رغيدة وفيلات فسيحة وسيارات فارهة وأرصدة بنكية كبيرة َوجولات سياحية عبر العالم، ومنتديات التباهي الاجتماعي فتهدر الجهود في البروتوكول والمظاهر والكليات، ولذلك غالبا ما تحدث مواسم هجرة الأدمغة إلى الشمال حيث تقدر الكفاءات العلمية ومثال ذلك ما حصل مع العالم المغربي منصف السلاوي الذي درس في بلجيكا وعاش بأمريكا الذي تلقفته وكلفته بأعلى المناصب العلمية من أجل مكافحة وباء كورونا.
ولهزالة التعليم وانهيار التربية وصل البحث العلمي في المغرب إلى الصفر وأصبحت المنظومة التعليمية بدون هوية أو قيم وطنية أو فكرية أو دينية أو أيديولوجية يجعلها المواطن عقيدته التي يدافع عليها ويضحي من أجلها.
ماذا باستطاعة القلة القليلة من المتعلمين في المدارس الخاصة وهم بدون رؤية تربوية واضحة محكمة، ماذا بإمكانهم أن يفعلوا وليس بأيديهم اية إمكانيات أو خطة عمل وطنية ، وثلاثة أرباع المواطنين من أترابهم ومجايليهم لا تستطيع فهمهم أو التواصل معهم، وتعيش في الوهم، غائبة عن الواقع إما بالمخدرات أو الدين المشوه .
لابد من التفكير في خطة وطنية ثورية نهضوية من أجل الخروج من عنق الزجاجة والتخلف ولن يكون ذلك إلا عن طريق التعليم والتربية، وفق رؤية موحدة.
لا يجادل مغربي منطقي مع نفسه وعاقل أنه ليس التعليم الخصوصي هو سبب فشل المنظومة التربوية، فهو إنما جاء لملأ الفراغ، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه بعد أن أعلنت الدولة تخليها عن المدرسة العمومية، عبر مجموعة من المحاولات الإصلاحية التي أهدرت فيها مليارات الدراهم، على مشاريع تبين فشلها فيما بعد، يجب إعادة الاعتبار للمعلم والمدرسة العمومية، وتأسيس نظام شبه عمومي مختلط ويتحمل فيه المواطن جزءا يسيرا من العبء، كفرض ضريبة على الجميع بإستثناء عديمي ومحدودي الدخل ، أو أن يؤدي الجميع أقساط شهرية تراعي الظروف الاجتماعية والاقتصادية، بشكل تصاعدي حسب الطبقات والفئات الاجتماعية، بحيث يصبح كل التعليم شبه عمومي يتداخل فيه القطاع الخاص مع العمومي عن طريق المستثمر الذي يشتري أسهم في مدرسة عمومية، فتصبح المدارس على شاكلة شركات، أو أن تمنح الدولة الامتياز لأحسن العروض على غرار الصفقات العمومية، أو أن يكون الخواص أعضاء في مجلس الإدارة بحيث تحتفظ الدولة بالحصة الأكبر لكي تضمن استمرار العملية التربوية وفق نظام موحد ورؤية تربوية واضحة تساهم في استعادة المعرفة والعلم و الأخلاق وقيم الوطنية والمواطنة وتحافظ على المساواة بين جميع المواطنين حتى يكون كل التلاميذ المغاربة سواسية في ولوج المدارس العليا ويتم تبعا لذلك منح المتفوقين منهم منحا ودعما وهكذا يمكن تجاوز هذه الازدواجية التي تقسم الوطن إلى نصفين وفئتين فئة الشماكرية المجرمين وفئة المتفوقين من الجنس الراقي المعتمرين مواطنين من الدرجة الأولى.
تعليقات الزوار ( 0 )