لا يعلم المستوطنون المتطرفون الذين شنّوا هجماتهم الإرهابية الحارقة على حوارة قبل أيام، أن البلدة المستهدفة بالنار والبارود، كانت تقع على الطريق الروماني القديم الذي يربط “شكيم” في نابلس بمدينة القدس، وهذ يعني أنها كانت أساسا طريق القوافل عبر التاريخ الطويل في المنطقة التي شهدت صراعات واحتلالات كثيرة.
لقد ذهبت احتلالات وإمبرطوريات كثيرة طوال تاريخ فلسطين القديم، لكن البلدة بقيت راسخة بفعل انبساطها من جانبها الغربي على شريط من سهل ضيق، واتكائها على جبل في جانبها الشرقي، وبقيت تقوم بذات الدور الحيوي المتمثل في كونها الممر الرئيسي، شبه الوحيد، ما بين شمال الضفة الغربية ووسطها وجنوبها.
وكأنها عنق زجاجة، المرور منه إجباري للمواطنين الفلسطينيين وكذلك المستوطنين المتطرفين.
وبحسب طايل عودة (الحواري) أحد رجال أعمال البلدة، وهو عضو سابق في غرفة تجارة وصناعة نابلس، فإن ذلك الأمر تحديدا شكل قًدر البلدة الذي منحها الكثير، لكنه بالمقابل أخذ منها الكثير أيضا.
لقد تحولت هذه البلدة التي يبلغ عدد سكانها (8 آلاف نسمة) إلى اسم في الأخبار، ولا سيما بعد هجوم مئات المستوطنين عليها قبل أيام، وتأكد حضورها مع تجدد أحاديث الحرق والمحو لهذه البلدة في تصريحات وزراء كبار في حكومة الاحتلال المتطرفة، أبرزهم وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش.
فما حكاية هذه البلدة الصغيرة التي أصبحت عنوانا وهدفا للمشروع الاستعماري في الضفة الغربية وتحديدا في مناطق جنوب نابلس؟
قَدر البلدة
يفسر سكان البلدة وبعض مراجع التوثيق في فلسطين كلمة “حوارة” بأنها من اللغة السريانية؛ وتعني البياض، أي الندية أو البقعة البيضاء، وذلك نسبة لتراب موقع البلدة، الذي يعرف بالعامية بكلمة (حُوَّر).
وبحسب رجل الأعمال الحواري، فإن حوارة فرضت نفسها بصفتها شارعا رئيسيا تجاريا يضم ما يقرب من 370 محلا تجاريا تقدم الخدمات لآلاف المواطنين يوميا، “فهناك ما يقرب من 80% من المواطنين الراغبين بالانتقال من شمال الضفة إلى وسطها وجنوبها، يمرّون عبر البلدة”.
ويضيف: “لكن المشكلة الأكبر تتمثل في المستوطنات ما قبل حوارة وما بعدها، فهي ممر للمستوطنين، وهو ما يجعلها مركزا لتواجد الجيش الإسرائيلي الذي يمارس القمع اليومي بادعاء توفير الأمن للمستوطنين”.
ويشير الحواري إلى أن البلدة ذات تاريخ عريق، فهي تتكون من ثلاثة حمائل هي: عودة، الضميدي، وخموس. فيما تعيش ما لا يقل عن 500 عائلة (ما يقرب من 2500 مواطن) من سكانها في الولايات المتحدة الأمريكية.
ويشدد أن البلدة خلال أيام حصارها، تخسر ما لا يقل عن (2 مليون شيقل// نحو 547 ألف دولار) بفعل سياسة الإغلاق ومنع التجول التي يمارسها الاحتلال.
وترتفع البلدة عن سطح البحر ما يقرب من 500 متر، وتقع على مساحة عمرانية تقدر بـ990 دونما، من ضمن أراضيها البالغة 7,980 دونم. (الدونم= 1000 متر مربع). وتحدّها من الشرق قريتا أودلا وبيتا، ومن الغرب بلدة عينابوس وأراضي بلدة جماعين، ومن الجهة الشمالية الغربية أراضي عصيرة القبلية وبورين، ومن الجهة الشرقية الشمالية بلدة عورتا.
بلدة حافلة بالعلامات
بحسب الباحث في التراث الفلسطيني حمزة عقرباوي، فإن المهتم يجد في بلدة حوارة الكثير من المعالم التي تدلل على حضورها التاريخي الطويل، ومن ذلك “بير كوزا” القريب من بلدة بيتا جنوبي حوارة، إلى جانب أبراح أثرية تحمل جميعها علامات وشواهد على أن البلدة كانت ممرا للطريق الرومانية القديمة.
ويؤكد عقرباوي المؤرخ والمختص بالتراث والتأريخ الشفوي، أن البلدة التي تمتد على مساحة 3 كيلومترات، تعتبر مليئة بالخرب والآثار، كما أنه عاين فيها نصوصا وكتابات من الفترة اليونانية القديمة.
ويضيف عقرباوي أن ما تمتاز به هذه البلدة، هو أنها تقسم منطقة جنوب نابلس لقسمين، الأول المشاريق، أي القرى والبلدات التي تقع نحو الشرق من شارعها الرئيسي، مثل: عورتا وأودلا وبيتا..الخ، والمغاريب أي القرى والبلدات التي تقع نحو الغرب من شارعها الرئيسي مثل: جماعين وبورين وعوريف… وهو ما جعلها في فترات تاريخية سابقة جزءا مهما من صراعات النفوذ والمشيخة والإقطاعيين وحروب الزعامة.
أما باتجاه الشمال من البلدة، حيث الشريط الذي يشكّل السهل الزراعي الرفيع، فيقع المعسكر الوحيد، حيث بدأ معسكرا لجيش الاحتلال الإنكليزي في فترة الحرب العالمية الأولى وصولا حتى الحرب العالمية الثانية. وبحسب عقرباوي، فقد كان المعسكر في وسط السهل كله، بحيث كان يضم خيما وتحصينات، أما بعد انسحاب الاحتلال البريطاني، فقام الجيش الأردني بتأسيس معسكر حوارة على قمة التلة الصغيرة المجاورة للسهل، حيث ترك السهل للمزارعين الفلسطينيين وبنى فيه مسجدا ما زال قائما حتى اللحظة، إلى جانب خنادق ومعسكرات للجنود.
وعلى الجانب الآخر من البلدة، والحديث لعقرباوي، فإن أرتال الجيش العراقي التي توجهت عام 1948 إلى طولكرم وجنين كانت تعسكر في منطقة “بير كوزا” حيث انطلقت في حربها ضد عصابات الجيش الصهيوني من هناك.
ويكمل في حديثه عن معسكر حوارة، أنه وبعد عام 1967 واحتلال الضفة الغربية، تحول المعسكر الأردني إلى معسكر وسجن لقوات الاحتلال الإسرائيلية، وهو الأمر الذي ما زال قائما حتى اللحظة.
وبحسب عقرباوي، فإن حوارة يُنظر لها على أنها “قرية أم” أي توزعت في كل المناطق، حيث نجد كلمة الحواري نسبة لحوارة ملحقة بأسماء مواطنين لهم امتداد في البلدة في كثير من المدن الفلسطينية.
والناظر في خريطة هجرة سكان البلدة، سيجد أن عائلات كثيرة هاجرت باكرا، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية. وهو الأمر الذي جعل من أهالي البلدة يمتازون بأنهم ذوو وضع مالي جيد، حيث اهتموا مبكرا بالتجارة وتحديدا تجارة الذهب والأموال عبر محلات الصرافة.
إسهام وطني
يشدد عقرباوي أن “حوارة” كانت دائما حاضرة بإسهاماتها الوطنية منذ ثورة عام 1936 وحتى اللحظة. لقد التحق الكثير من عائلاتها بالعمل الفدائي، وهو أمر استمر وتواصل مع الانتفاضتين الأولى والثانية وحتى اللحظة الراهنة.
وتعتبر حوارة (8 كيلومترات جنوبي نابلس) من القرى الفلسطينية التي تمتلك خصوصية تشكلت بفعل طول الطريق الرئيسي الذي يشطرها إلى نصفين (3 كيلو مترات)، وعن ذلك يقول عقرباوي، إن القرية عادة ما يكون نواتها بيت، فيما إلى جواره تبنى المنازل الأخرى، وهكذا حتى تصير القرية على شكل مربع أو دائرة، لكن “حوارة” من القرى التي لا نواة لها، فهي تأسست على طول الشارع الرئيس، وهو ما منحها ميزة إيجابية وأخرى سلبية.
من الناحية الإيجابية، فإن هذا يمنح البلدة إمكانية لتكون سوقا مفتوحا أمام المواطنين من كل المناطق، أما من السلبيات فإن ذلك جعلها عرضة لاعتداءات المستوطنين على طول الشارع الرئيسي، فهي ساحة مفتوحة من دون أن يكون لها مركز، “إنها سوق من دون مركز محدد”.
ولطبيعة تكوين البلدة على شارع الرئيسي الذي يربط مجموعة من المستوطنات، فإن ذلك منحها دورا كبيرا في المقاومة الفاعلة خلال الانتفاضتين الأولى والثانية.
ويعود عقرباوي إلى الانتفاضة الأولى (عام 1987) حيث كان شارعها الرئيسي مقسما على فترتين، الأولى في النهار مخصصة للفلسطينيين وسياراتهم، أما في الليل فكان يخصص الشارع للمستوطنين الذين دوماً ما كانوا عرضة للضرب بحجارة المقاومين، فيما كانت المسامير الكبيرة تلقى في الشارع لتعرقل مرور سيارات المستوطنين.
ويرى عقرباوي أن أي فعل عقابي يتمثل في إغلاق شارع البلدة الرئيسي، يؤثر سلبا على كامل تجار البلدة ومحلاتها التجارية دفعة واحدة، “فالبلدة تعتمد على التجارة كمصدر أساسي للدخل، والإغلاق يعتبر عقوبة إضافية حيث تتعطل المصالح التجارية”.
ويعتمد اقتصاد البلدة على التجارة حيث يغلب على تجار البلدة العمل في بيع الذهب.
ثلاثة مقامات
في معرض حديث عقرباوي يكمل بحماس الحديث عن البلدة، مشيرا إلى أن فيها ثلاثة مقامات، الأول: مقام “النبي صاهين”، وهو أحد أنبياء الذهنية الشعبية (غير معروف ولا يمكن التحقق منه)، وكذلك مقام عكاشة، وهو على شكل صخرة. ويقال إن الولي عكاشة استراح على صخرة ضخمة، ولاحقا بني عليها المقام.
أما المقام الثالث فهو مقام سلمان الفارسي، وذلك نسبة للصحابي سلمان الفارسي الذي سمي دوار البلدة الرئيسي باسمه، ومنه تنطلق هجمات المستوطنين المتطرفين القادمين من مستوطنة يتسهار والمستوطنات القريبة على أهالي البلدة والمارّين منها.
ويقع مقام سلمان الفارسي بالقرب من حاجز حوارة، حيث يمكن رؤية جبل مرتفع، يتربع المقام على قمته.
وعن قصة المقام، يفتخر عقرباوي بأن المقام أدى دورا مهما، حيث كان له دور حربي ما بعد التحرير الصلاحي لبيت المقدس (نسبة لصلاح الدين الأيوبي) حيث يقع على مدخل مدينة نابلس، إذ عمل الجبل والمقام دورا مهما كنقطة مراقبة ومرابطة وثغر عسكري لمنع عودة الصليبيين.
وفيما يبدو، ومع ما تتعرض له البلدة من هجمات مستمرة للمستوطنين، فإن قَدر البلدة، ذات التراب الأبيض، يتجدد، مستمدا ذلك من تاريخها البعيد والقريب أيضا. وما تتعرض له البلدة من هجمات حارقة ودموية ومتوحشة، وما تمارسه من حالة نضالية، يؤكد أنها تنتصر لقَدرها الذي كان لأهلها نصيب منه، فيما تكفلت الجغرافيا بالباقي.
(سعيد أبو معلا/ القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )