إن الصدى الذي أثارته إستخدامات مفهوم الإصلاح وإستعمالاته المختلفة، وحده كفيل بالتعبير عن إستحالة الحديث عن حضور مضمون موحد من ورائه. و تختلف وظائف هذا التعبير النظري، بإعتباره أداة تحليلية من داخل تاريخ الأفكار والعلوم الإجتماعية و النظرية السياسية، أو بإعتباره مفهوما معياريا في البعد النقدي لهذه العلوم نفسها. فعودة المفهوم المتكررة و طرح نفسه في كل مرة كراهنية، منذ القرن السابع عشر في أوروبا، تعني في كل مرة شيئا مختلفا، لأنها تأتي في سياق متغير بنيويا و تاريخيا،و يولد في الآن حاجات جديدة، و أسئلة حديثة، يحاول المفهوم بين الفينة و الأخرى الإجابة عنها. و إذا أضفنا الى ذلك تطور النظرية و تراكم المعارف الإنسانية، فإننا سنجد بلا محالة، أن دعوة المفهوم من غيابه التاريخي، أو إحياءه، يأتيان في كل فترة و حين في تقاطع محورين أساسيين ألا وهما: محور التطور التاريخي و محور تاريخ النظرية ذاتها، و يشكل هذا التقاطع بإستمرار سياقا جديدا، لتفسير و تأويل لمفهوم ،و علينا الا ننسى أن مفهوم الإصلاح هو نفسه جزء من السياق التاريخي بمحوريه، و هو بدوره يسهم في ذات السياق و في تأويله. (1)!
قبل الشروع في معالجة بعض القضايا و الافكار و الميكانيزمات، التي حكمت ولادة و نشوء و تطور المفهوم ” الإصلاح”، في السياق الأوروبي وفي علاقته بالمجال التداولي الإسلامي، أرى أنه من اللازم اللازب الوقوف لهنيهات عند بعض القضايا التي تهم المفهوم ذاته، فأقول، أن المصطلح، أو ما يصطلح عليه، عادة ما يصاغ لتثبيت فكرة عن ظاهرة عينية، حيث يعكس ما هو ثابت في الصيرورة، و ما هو عام في الجزئي. و بذلك ينقل الجزئي المتعين الى مجرد(2)، أي الى مصطلح يتوافر الحد الأدنى من الإتفاق شأن ما يعنيه.
كي يصبح المصطلح مفهوما يجب أن تكون له قدرة تفسيرية. و تختبر قدرته التفسيرية على الظواهر المختلفة في أنه في تجريده ما يدل على أنموذج نظري في فهم المتعين بشكل يمكن من إعادة إنتاج الظاهرة نظريا. و لهذا فإن التوتر قائم في صيرورة مستمرة من المفردة الى المصطلح بواسطة التجريد من الجزئيات، ثم من المصطلح المجرد الى المصطلح العيني بواسطة إنتاج الظاهرة نظريا، آخذين بعين الإعتبار السياقات التاريخية و تطورها،لكن من دون محاكاتها نظريا. و تلك هي آالية النمذجة النظرية في العلوم الإجتماعية. يفترض أن يطور المفهوم من دون الوقوع في وهم أن تطويره من المصطلح المجرد إلى المفهوم ( أي المجرد الركب العيني) هو تصوير للتطور التاريخي عينه،فهو ليس أكثر من نمذجة نظرية له، كما أن التوتر يبقى قائما بين التاريخ المفتوح من جهة، و مفهمة الأفكار بشكل نمطي، أي بناء مفاهيم و نماذج نظرية، من جهة أخرى، و لا سيما حين تتخطى المفاهيم و النماذج حدودها التفسيرية و التحليلية الى الحدود المعيارية على صيرورة التاريخ. و هذا التوتر يكثف إشكالية العلاقة بين المفاهيم التاريخية المنمذجة و التاريخ بإعتباره صيرورة تتجاوزها(3).
ثمة عدد كبير من المفاهيم التي أقحمت إقحاما في مجالنا التداولي، هذه المفاهيم تندرج ضمن عملية من التشويه الإصطلاحي و اللغوي و هي كما تبدو من خلال شحنها بدلالات و معان إيديولوجية. من هذه المفاهيم، مفهوم الإصلاح، الذي يصف التحولات التي عرفها العالم الإسلامي أثناء و بعيد الهيمنة الأوروبية المباشرة و غير المباشرة. فهو – عنيت مفهوم الإصلاح- و هو بشكل أو بآخر يفصح عن مختلف المواقف السياسية و الإيديولوجية، التي تنطوي على إفتراض متأهل مفاده أن الحضارة الإسلامية و مقوماتها و على رأسها الشريعة بشكل عام، قاصرة و محتاجة الى تصحيح و تنقيح و تحديث(4).
فالمفهوم” الإصلاح” يستبطن تحولا، في إحدى مستويين، من مرحلة ما قبل العصر الحديث الى المرحلة الحديثة، و تحولا، في المستوى الآخر، من عدم التحضر الى التحضر، و هو مؤطر بفكرة المركزية و التاريخانية الكونية التي يندمج فيها تاريخ الآخر في الأحداث الكبرى و المحددة للمسيرة الحضارية الأوروبية أي بمعنى آخر الكونية و تمثل الكونية، و هي ترجمة مفهومية أيضا، لما كان يطلق عليه يوما ما إسم الإمبريالية الأنطولوجية،بإعتبارها أداة إحتواء للآخر داخل الذات من خلال عدد من التعديلات التي ترمي دائما الى تغيير ماهية الآخر(5).
وبذلك، يدل مفهوم” الإصلاح” دلالة معرفية على حكم غير قابل للإستئناف على تأريخ كامل و ثقافة شرعية يراد تجنبها، بل محوها من الذاكرة و العالم الرمزي و المادي معا. فإذا ما غمرت دراسة الإصلاح على هذا النحو في هذه الترابطات الأيديولوجية، فعندئذن من الممكن القول أن مسار و برنامج الإصلاح مقرر سلفا، و كل مايحتاج الى فعله سوى أن يبين كيف ؟ الإصلاح الذي ألهمه الغرب من أجل إنقاذ الخاضعين لشرائع ة ثقافات ونظم معرفية للإستبداد الديني و السياسي، بكلمة إستبداد الماضي، و ذلك بهدف الأخذ بأيديهم في درب التحديث و الحداثة و الديمقراطية. فإذا نظر الى الإصلاح على أنه أحدث المراحل عهدا في تاريخ الشريعة، أمكن القول عندئذن أن هذا التأريخ قد نسج و نظم و حبك في إطار حكاية أو سردية لا خيار لها سوى تقديم خاتمة مخصوصة، لمسرحية تعد مقدرة سلفا منذ البداية الأولى نفسها لتأريخها الذاتي. فلا يتحقق تناول موضوع الشريعة إلا بوصفها أثرا من آثار ماض ميت لا يعرف له إنتساب صحيح و لا إستمرار في المكان و الزمان، و إن التنظيم المعرفي للتأريخية من وجهة نظر ” الإصلاح” يؤلف جزءا مكملا، و إن لم يكن الجزء الأهم، لحقل خطابي أوسع يواصل إنكار علاقته المعرفية و الثقافية بالإستعمار، و من ثم لا يندمج فيه(6).
ومن منظور آخر، بإمكاننا القول إن إيديولوجيا ” الإصلاح” قد ناغمت أيضا الخطاب البحثي، مؤثرة فيه بطرائق أساسية، في البيئتين الأكاديميتين الغربية و الإسلامية على حد سواء. في هذا الإطار أود أن أشارككم نصا لمشيل فوكو يبين بشكل واضح الآليات و الميكانيزمات التي حكمت هذا الخطاب عنيت الخطاب الأكاديمي.
” على المعرفة أن تصارع عالما بلا نظام، و بلا شكل، وبلا جمال، وبلا حكمة، وبلا إنسجام، وبلا قانون، و هذا هو العالم الذي تتعامل المعرفة معه. و ليس في المعرفة ما يمكنها، بمقتضى أي حق، من معرفة هذا العالم، وليس من الطبيعي للمعرفة أن تعرف. و بذلك، لا يجد المرء تواصلا بين الغرائز و المعرفة، بل يجد بدلا من ذلك علاقة صراع، و هيمنة، و عبودية، و توطيد. فكذلك، لا يمكن أن تكون ثمة علاقة تواصل طبيعي بين المعرفة و الأشياء التي على المعرفة أن تعرفها. و كل ما يمكن أن يوجد هو علاقة عنف، و هيمنة، وسلطة،وقوة، أي علاقة إنتهاك، فالمعرفة أن تكون إدراكا أو تمييزا، أو تشخيصا، لهذه الأشياء أو معها”(7).
ولذلك، نجد لدى نيتشه الفكرة الدائمة التكرر التي مفادها أن المعرفة… تيسر، وتتجاوز الإختلافات، و تجمع الأشياء بعضها الى بعض معا، بلا أي تسويغ في ما يتعلق بالحقيقة.إن أكثر الحقائق مركزية و حسما في ما يتعلق بالحقل الأكاديمي هي أنه – شأنه شأن كثير من الحقول المهيمنة على البيئة الأكاديمية في أيامنا هذه- قد ولد في نطاق المغامرات العنيفة لأوروبا في القرن التاسع عشر ومن رحمها، و هي مع ذلك مغامرات ساعية الى المجانسة بقوة. و قد ولد في سياق مشروع عالمي للهيمنة. فالنص المقتبس آنفا، لا يشير إلا إلى البنى المعرفية للسلطات السياسية و الإقتصادية، و الثقافية، التي في كنفها تطورت قضايا ماضي و حاضر و مستقبل المسلمين، نشأـ و ترعرت بوصفها حقلا بحثيا، و يمكن أن يعبر عن ذلك بالضد فيقال إنه ما كان ليكون بناء التأريخ الإسلامي حديثا، بمعزل عن المعايير الخطابية لأوروبا في القرن التاسع عشر، و خارج عنها، ضمن رحم بلا نظام، و بلا ترابط و بلا شكل، إخترعت أوروبا المعرفة التي هي الثقافة الإسلامية الحديثة.(8)
ولم تظهر خطابات السلطة التي شكلت هذا الحقل المخترع، بمظهر الكيان الموحد البتة، بل كانت إختلافا كبيرا أو متناقضة تناقضا داخليا في أغلب الأحيان، و قد نافحت هذه الخطابات عن مصالح إستعمارية مخصوصة، و تصورت في الوقت نفسه الثقافات و المجتمعات الإسلامية بطرائق مختلفة إختلافا مثيرا. و أنتجت تواريخ للعلم و جغرافيات، و مقاربات لدراسة العالم الإسلامي كثيرة كثرة ما بوسع الإنسانيات و العلوم الإجتماعية أن تحشده. بيدأن خطابات السلطة هذه، على الرغم من تنوع توجهاتها، كانت في الوقت نفسه أحادية الوضوح و إتخذت مسارا ليسعى إلى خدمة مجموعة تتشاطر أهدافا متكاملة و متماسكة على نحو تبادلي.
هذه الخطابات التي تلح على مسالة، ضرورة نظر الشعوب العربية و الإسلامية و فهم تاريخها المحلي في إطار الماضي الأوروبي، لأن هذا هذا الماضي هو الذي وضع التاريخ الشامل من خلاله. ويرى هذا التاريخ أن تأريخ الشعوب الغير الغربية تاريخ ” محلي” ، أي تاريخ ذو حدود، و قد عومل تاريخها المعاصر وفق هذا النهج او النحو بالضبط. فالغربيون ينظرون الى تقاليد الأمم غير الغربية من وجهة نظر التنوير الأوروبي في العادة. و هي نظرة تنحو الى تقييم التقاليد بحسب قربها من التنوير و النموذج الليبيرالي أو بعدها منه.(9)
فلا تزال حدة العلاقة بين المعرفة و السلطة صعبة السبر، بيدانه لا توجد ظاهرة يمكن فهمها حق الفهم إذا كانت هي كل ما يعرفه المرء. فلا يمكنني أبدا فهم ما تعنيه الرحمة و تثيره من أحاسيس إذا لم تكن لي أي خبرة بقسوة المشاعر، ولا يمكنني قطعا إدراك المعنى الفعلي للإرتواء إذا لم أشعر بالعطش الحقيقي. فالمقابلة – و ليس المقارنة فحسب- هي أداة معرفية ذات كفاءة مدهشة. فمن دون المقابلة يمكن للمرء أن يقضي عمره في دراسة مجال الواقع الذي يبرز التداخل بين المعرفة والقوة دون أن يفهم قوتها الكاملة أبدا، ناهيك عن بنيتها و إستثنائيتها و تفردها و نسبها. إن هذا الغياب للمنظور و المقابلة و المقارنة حمل منهك للفهم. فحتىحين حلل فوكو بحيويته جمة نشأة الظواهر الأوربية ( كالقوة و المعرفة و المراقبة و ما الى ذلك) كان إطاره المقارن يقع في السياقات الأوروبية السابقة التي تتجلى آثارها الصاعقة و المخيفة مثلا في تحولات أشكال العنف و العقوبة و التعذيب.
يسمح هذا الغياب المنظور و الآثار المصاحبة له بتعميم كوني سهل للظواهر، تعميم يسقط هذه الظواهر على التاريخ كله، أوربيا كان أو غير أوروبي، حداثيا أو غير حداثي. و بما أن مشكلة أغلب التخصصات الأكاديمية هيموقعها في تلك العلاقة، فمن الضروري أن نسأل عن ذلك ا لشيء الذي يجعل التلازم العضوي بين القوة و المعرفة ممكنا في المقام الأول.(10) من هنا، فإن نموذج الدولة الإسلامية توصف بأنها دول ذات نظام إستبدادي لا تعرف النقد، من هنا يمكن أن نفهم كيف ظل ميل الشريعة الأخلاقي، شوكة في جنب الإستعمار، شوكة يتعين نزعها. هكذا يلخص القضاء على الشريعة في القرن التاسع كل شيء، لم تستطع الحداثة و دولتها أن تقبلا، و لا يمكن لهما أن تقبلا، الشريعة بمعاييرها، لأن هذه المعايير أخلاقية و ذات نزعة مساواتية بصورة عميقة، بينما أنزلت الدولة الأخلاق منزلة النطاق الثانوي، بإختصار شديد، كان النطاق المركزي للإستعمار هو الإقتصادي و السياسي وليس الأخلاقي، الذي إعتنت به الشريعة أيما إهتمام و جعلته في قمة إهتماماتها، كما يظل الإقتصادي و السياسي هو النطاق المركزي للحداثة اليوم ولعولمتها المتزايدة، غير أن الشريعة تبقى اليوم، على الرغم من آثار الإستعمار المدمرة، محل النطاق المركزي للأخلاقي، فبينما تقادمت كثير من مؤسساتها و تفسيراتها و شخوصها وتلاشت و إندثرت، لا تزال آثارها الأخلاقية صامدة بإصرار لا يتزعزع، و يمكن لهذا النظام الأخلاقي، و هو رأس مال لا يقدر بثمن، أن يدعم و يدفع بعجلة التغيير ومن ثم الإستئناف الحضاري الذي ننشده . (11)
بكلمة إن هذا الأمر ينطبق عل كل المفاهيم و المؤسسات الكبرى التي تحكم العالم الإسلامي اليوم. في المقابل قدمت النطاقات المركزية للإسلام ما قبل القرن التاسع عشر نماذج راسخة لهذه المقابلات، و قد دمرت الكولونيالية هذه النطاقات تحديدا لأنها وقفت على النقيض من أهداف نطاقات أوروبا المركزية. لقد أخذ مؤرخوا أوروبا في القرنين السابع و الثامن عشر، يذكرون كيف أن تشكيل الدولة الحديثة تطلب الإعادة القسرية لتعريف الدين بأنه الإيمان، وبجعل أمور الدين و العواطف و الهوية الدينية أمورا شخصية تنتمي الى فضاء الحياة الشخصية الآخذ بالظهور، في مقابل بروز فضاء عام و حياة عامة تحكمها روابط و شروط و ضوابط مغايرة. فقد أثبتت إضطرابات حركة الإصلاح من وجهة نظر أولئك الذين رغبوا في إيجاد دولة مركزية قوية، وأن الإيمان الديني كان مصدرا للعواطف التي تصعب السيطرة عليها داخل الفرد، و لهذا السبب فإن هذا الإيمان لايمكنه أن يكون أساسا مؤسسا لأخلاق عامة، ولا لإيجاد لغة عامة للنقد العقلاني(12).
لهذا لم يتهيب هوبز مثلا من القول أن الدين مؤسسة تخدم مصلحة فئة من الناس، وأنه يجب لذلك أن يخضع للقيصر، نلحظ لدى حديثنا عن كانط، كيف تحول الدين للحياة الخاصة، قوامه الألفة الإجتماعية، يحل محل دين للعامة قوامه الإعتقاد المشوب بالعاطفة، و قد غدا من نافلة القول بين مؤرخي أوروبا الحديثة، أن الدين إضطر للتخلي عن حقل القوة العامة للدولة الدستورية، و عن الحقيقة العامة للعلوم الطبيعية، و لكن ربما كان بإمكاننا أن نقول ايضا، أننا في هذه الفترة نحصل على الدين و قدتحول الى شيء جديد تحكمه ظروف تاريخية محددة: شيء ينبع من التحررية الشخصية، و يمكن التعبير عنه بعبارات إعتقادية، و يعتمد على المؤسسات الخاصة، و تجري ممارسته في وقت الفراغ. و هذا التصور للدين يضمن حصره في جزء مما هو غير أساسي لأنشطتنا السياسية و الإقتصادية و العلمية و الأخلاقية المشتركة(13).
وفي هذا الإطار، يقرر “غوشيه” أن الدين المتقلب في أطوار، ولو أنه إستطاع أن يستقل بتنظيم المجتمع كله،فإن مؤسساته لابد أن يكون مآل دورها الإجتماعي هو الزوال، و هذا القول يكذبه تزايد الحاجة الى الدين في الوقت الحاضر، ولم يسع غوشيه إلا أن يقر بهذا الرجوع و لو أنه ينكر أن يعيد تشكيل الفضاء المجتمعي خارج نطاق الحداثة و على نسق النمط الديني القديم، من المنطقي أن الدين إذا عاد لايمكن أن يعيد صوغالمجتمع خارج الظروف التي عاد فيها، لكن هذه الإعادة لا تعني بالضرورة، كما يظن بعضهم، أنها صياغة تسطح التدين، فلا ترقى الى تدين المتقدمين، بل يحتمل أن تكون صياغة تعمق التدين حتى منافسة تدين المتقدمين، فلم لا يجوز أن يكون العمل الروحي محكوما بقانون التراكم، كما يحكم تطور العمل العلمي، بحيث تتزايد المعرفة بأسراره كما تتزايد المعرفة بقوانين العلم.
فإذا سلمنا بمبدإ التراكم هذا، فلا يبعد أن يكون ما يدرك من المعاني الروحية في كل طور من أطوار الإنسانية يتسع لأكثر مما أدرك في الطور الذي سبقه، فيكون مستقبل التدين أفضل من ماضيه، إلا أن يكون العالم الروحي يخضع، هو الآخر، لما يخضع له العالم المادي من دورات حضارية تبدأ بالصعود، ثم تبلغ ذروتها، ثم تأخذ في النزول.(14)
أختم الكلام عن الدين و الفضاء العام، بفيلسوف حديث الا وهو هابرماس، الذي أكد في كتاباته المتأخرة على ضرورة تطوير موقف ما بعد علماني يأخذ في الإعتبار حيوية الدين في المجتمعات المختلفة، و لا يهمل إنجازاته المتراكمة على مستوى الهوية و الأخلاق معا. فوجهة النظر الدينية و حيويتها قد تساهمان في مواجهة مخاطر عدة مثل الرأسمالية المعولمة و تذر الأفراد بحثا عن مصالحهم الفردية و غيرها. لكن كي تدخل مثل هذه الإنجازات على الفكر الديني في المجال العام لا بد من ترجمتها الى لغة عقلانية متاحة للجميع، المتدين و العلماني معا، ممن يتشاركون في الإستخدام العمومي للعقل كما في نظرية الفعل التواصلي. والمجال العام عند هابرماس هو مضمار للجدال العقلاني النقدي. و السماح بدخوله مسألة قدرة و رغبة في المشاركة في مجال مفتوح، أما الأفكار الدينية فمتاحة لأصحابها من تقليد محدد فقط، و بالتالي لا بد من ترجمتها الى لغة العقل العام. المشكلة أن هذه الأمور قد تكون دعوة الى الإحتواء، و المشكلة الثانية أن ترجمة الأفكار مسألة غير متكافئة، و كجواب عن هذا الإشكال يقارب تيلور مسألة الدين في المجال العام عبر المعاني المتنافسة للعلمانية مؤكدا الأخوة التي تتضمن الإحترام المتبادل و التسامح.(15)
يرى بعض الباحثين أن التسامح الديني كان وسيلة سياسية لتشكيل الدولة القوية، التي إنبثقت عن الحروب الطائفية في القرنين السادس عشر و السابع عشر، و لم يكن منحة خالصة قصد منها الدفاع عن التعددية. كان من راي لبيسيوس الكاتب المتشكك في مجال الدين، الذي كان له تأثير كبير في أواخر القرن السادس عشر، أن على الأمير أن ينتهج أي سياسة تضمن السلم الأهلي بغض النظر عن التحفظات الأخلاقية او القانونية، و إن بإمكان إزالة التعددية الدينية بالقوة، فذلك قديكون خير وأبقى، أما إذا إستحال ذلك فإن على الدولة أن تجبر الناس على التسامح، و كان الدافع وراء موقف جون لوك الشهير من التسامح الديني بعد قرن من الزمان، هو الحرص على وحدة الدولة و قوتها، فقد عارض التسامح مع الكاثوليك و الملحدين لأنه إعتقد أن معتقداتهم، تشكل خطرا جامحا على السلم المدني الداخلي.(16)
في الوقت الحاضر تتخذ الدولة الحديثة ( العلمانية)، بناء على التصويت أو إنطلاقا من تقديراتها الخاصة، قرارات محددة أو قوانين مسطرة تضبط بها أة تراقب جوانب من حياة الأفراد، ساحبة لها من الدائرة الخاصة التي كانت تعد جزءا منها إلى الدائرة العامة، وهذا يعني أنها قرارات أو قوانين تقوم بما سماه الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن ب” عوممة” الحياة الشخصية. فيردف قائلا و حسبك شاهدا على هذه العوممة القوانين الفرنسية المتعلقة بمنع إرتداء الحجاب في المؤسسات التعليمية و الأمكنة العمومية، فالدولة بحسب طه عبد الرحمن في هذه الحالة ترتكب مخالفتين: أولاهما مخالفة مبدإ إختيار الإتجاه الوجودي، بحيث أن الدولة تسعى الى مواعدة مواطنيها، بأن لهم الحرية المطلقة في إختيار معتقداتهم و أن حرية العقيدة و التدين أمر كفله الدستور، حتى أنهم إذا أرادوا مشاركتها إصلاح تدبيرها، و ذلك عن طريق إستنزال المعاني الغيبية لمعتقدهم، لم تتردد هذه الأخيرة بنقض العهد و الإنقلاب عليهم، أما المخالفة الثانية فهي ما يسميه : مخالفة مبدإ المنهج التدبيري، حيث أن الدولة تلزم مواطنيها بتدبير معتقداتهم بما يضاد التدبير الذي يرتضونه لأنفسهم، و بهذا الممارسة تكون الدولة قد أتت أشد أنواع العنف، و فتحت الباب على مصراعيه، لممارسة العنف الروحي و هوأشد من العنف النفسي و هذابدورهوأشد منالعنف البدني، بينما يظل عنفهم هم، لو فرضنا وجوده، عنفا نفسيا، لأنه عنف سياسي، مادام أن السياسي هي الصفة التي تناسب دائرة العام.(17)
الهامش:
1 وائل حلاق، الشريعة النظرية، و الممارسة، و التحولات، ترجمة كيان أحمد حازم يحيى، دار المدار الإسلامي، ط الأولى، 2018
2 عزمي بشارة، المجنمع المدني، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط الأولى،2016
3 عزمي بشارة، مصدر سابق
4 وائل حلاق، الدولة المستحيلة، الإسلام و السياسة و مأزق الحداثة الأخلاقي، ترجمة عثمان عمرو، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، ط الرابعة، 2016
5 وائل حلاق، مصدر سابق
6 وائل حلاق ، مصدر سابق
7 وائل حلاق، مصدر سابق
8 وائل حلاق مصدر ساببق
9 وائل حلاق مصدر سابق
10 وائل حلاق، قصور الإستشراق، ترجمة عمرو عثمان، صفحة 45 – 46
11وائل حلاق، الدولة المستحيلة، ترجمة عمرو عثمان، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، طبعة 2016
12 عزمي بشارة، الدين و العلمانية في سياق تاريخي، الجزء الأول، المركز العربي ، المركز العربي للأبحاث و دراسة السياسات، ط الأولى، 2013
13 عزمي بشارة، مصدر سابق
14طه عبد الرحمن، روح الدين، المركز الثقافي العربي، ط الأولى، 2012 صفحة 187 – 188.
15عزمي بشارة، مصدر سابق
16عزمي بشارة، مصدر سابق
17 طه عبد الرحمن، مصدر سابق
تعليقات الزوار ( 0 )