ينافح البعض من أجل الاقناع بزعم مفاده أن أحدهم بمجرد أن يصير مشهورا ومؤثرا، أيا كان مقدار شهرته ودرجة تأثيره، فإن وضعه ذاك يجعله معصوما عصمة الأنبياء المرسلين والملائكة المقربين، ولا يمكن حينئذ حتى أن نقبل، ولو على سبيل الافتراض، أنه يمكن أن يخطئ أو يرتكب جرما في حق الغير، ليس من باب فقط الركون الطبيعي للجاني إلى تبرئة نفسه مهما انتصبت ضده الأدلة والقرائن، ولكن لأن هذا المشهور/المؤثر هو فعلا أخلاقي جدا ومعصوم جدا ويحتكر كل قيم الخير العام، ولا يجوز مجرد التفكير ولو لبرهة أنه مجرد بشر غير مستثنى من كل ما يمكن أن يقوم به البشر، بل إن الصفات إياها التي يريد إلصاقها بنفسه؛ هي الأقرب إلى الالتصاق بالقضاء ومساعديه، ولهذا تُحلِّف حتى أكثر النظم القضائية علمانية قضاءها ومعاونيه، وتحيطهم بالصفات التي يريد البعض نزعها عن القضاء وإلصاقها بأنفسهم، لا لشيء إلا لأنهم صاروا بطريقة ما “كَتَبَةً” أو “مؤثرين” أو “عُمالا جمعويين” أو حتى “محترفين نقاوبويين”.
إنه لمن أكثر الأمور غرابة أن يعيد أحدهم اجترار فكرة كهذه عشرات المرة، دون أن يكلف نفسه عناء التفكير في أي مقترب نظري ينطلق منه وهو يقدم على ذلك، وهل هو منسجم فعلا فيما يقوله مع مقتضيات الحداثة والعدالة وسيادة القانون أم لا؟، لأن طرح المسألة أعلاه يصبح كمن يصفع شخصا على وجهه، ثم يطالبه بأن لا يصدق عقله وحواسه، وأن يصدق فقط هذا المعتدي، لأنه واجب في حقه العصمة من أي ذنب، لاعتبار معين متصل بشهرته بين الناس، وبالتالي يصبح من اللازم على القضاء حينما تعرض عليه أي مظلمة من أي مرتفق، أن يبحث أولا في السجل المهني للمتهم، فإن وجده تاجرا أو موظفا أو فلاحا أو معلما باشر متابعته، وإن وجده صحافيا أو فنانا أو صانع أفلام وجب عليه سجن الضحية لكذبها على المعصوم، وكأننا أمام نفس الصورة التي رسمها الشاعر العامي المصري الراحل أحمد فؤاد نجم في قصيدة “كلب الست”، نقلا عن واقعة حقيقية أدين فيها الضحية فقط لأنه اتهم المطربة أم كلثوم في مسؤوليتها التقصيرية عن حراسة حيوان تمتلكه.
وإذا كان منطق العدالة والانصاف في الدولة الحديثة يقتضي النظر إلى مرفق العدالة باعتباره عامل التوازن بين الحق والضرر، بما يقتضيه ذلك من منحه الحصانة اتجاه أي اتهام يطال ذمته الحقوقية، لاسيما حينما يتعلق الأمر بدولة لا تكف عن الإصلاح وإصلاح الإصلاح، فإن بعضا من مروجي خطاب التشكيك ذاك، يغريهم كثيرا القفز بين حيثيات القضاء التي لا تتكلم لغة خارج لغة القرائن والشهود الإثباتات والمواجهات بين الضحايا والجناة، -القفز بين ذلك وبين التفسيرات الأقرب إلى علم الغيب، وليس فقط إلى حقل التأويل والاستيهام، من قبيل القول بأن الأمر يتعلق بخطة مدروسة تريد من خلالها كائنات شابحة، يعرفها فقط المعصومون، النيل من أصحاب النبالة والعصمة، فقط بسبب آرائهم التي تكاد تفلق القمر من شدة قوتها وجدارتها، بل وإنه يجري مصادمتهم بضحايا الأكيد في نظر الانبياء المعصومين الجدد أنهم ضحايا كذبة متآمرون.
ولو وسع هؤلاء نطاق الحديث قليلا ليشملوا يتصنيفاتهم “العصموية” تلك حتى المسؤولين الذين يتابعون في الكثير من جهات المغرب، وبتهم خطيرة أحيانا، ومنهم كثيرون يوجدون في السجن، لجاز لنا أن نقول أن هؤلاء المعصومين فعلا منسجمون مع أنفسهم، لأنه نفس القضاء الذي يريدون إقناعنا أنه قد جارَ عليهم، هو نفسه الذي لا يتوقف يوميا عن إنفاذ القانون في حق كل من يخالف ذلك القانون أو يحدث ضررا ماديا أو معنويا في حق الأشخاص أو المؤسسات أو الممتلكات العامة والخاصة، وذلك متى ما توفرت أركان الاتهام، وبالمقابل لم يسجَّل على القضاء أن قام بمتابعة اشخاص آخرين لديهم أيضا مواقف سياسية من ذات اللون الذي يزعم المعصمون أنهم ينتمون إليه، بل إن منهم من يتبنون مواقف سياسية تصل إلى حد الترويج لأطروحة البوليساريو ومنهم من لا يكف عن مناقشة مقتضيات دستورية وسياسية تتعلق بالمؤسسة الملكية، ومنهم من يوجه معظم نقده إلى معتقدات المغاربة الدينية، ومنهم طيف لم يتوقف عن ترويج ذات الحكاية الاتهامية للقضاء المغربي في صلة بملفات المعصومين والملائكة المقربين ذاتهم. كل هؤلاء لم يتابعهم القضاء، لسبب بسيط هو أنه لم يقم أحدهم بارتكاب جناية في حق شخص معين، ولم يعرض على القضاء أي تظلم يطال ذمتهم، لكن المعصومين طبعا لن يتحلوا بقدر من الانصاف والنزاعة ليعتبروا هذا الجانب ضمن خطاباتهم الممجوحة المكرورة.
مازال بعض من هؤلاء، يسير وراء إديولوجياه، ويطالب الآخرين بالتخلي عن إيديولوجياهم، للسير وراء الاتهام السياسي الذي يوجهه هو إلى مرفق العدالة، متحدثا لغة غير اللغة، ومتمترسا داخل إيدلوجياه التي كلما نازعه عقله مطالبا إياه أن يأخذ بعين الاعتبار معطيات أخرى، تصر الآيديولوجيا على تثبيت حواجب الرؤية على جانبي العينين، ولهذا سيستمر المعصومون في النظر إلى العقاب باعتباره ظلما أو تعذيبا أو تشفيا أو انتقاما، تبعا للتاويلات السياسية والاستيهامات النفسية المشتهاة، وبدل التركيز على واقعة العفو الملكي باعتبارها لحظة أنسنة عميقة تذكر بأن العقاب هو حق وإنصاف وعدل وليس انتقاما ولا نكاية، ثم شكر جلالة الملك على مبادرته الأبوية كما فعل الصحفي توفيق بوعشرين، واصل المعصومون اجترار كلام فضفاض لا طائل من ورائه، ولا يضع أصحابه أقدامهم على أي أرضية نظرية يمكن مناقشتهم انطلاقا منها.
عموما حمدا لله على سلامة كل من عانق الحرية وشمله العفو الملكي الكريم، وأطلق الله سراح كل مسجون وفرج كربته، وأقر الله عين كل مظلوم تركت اعتداء الظالم المعتدي في نفسه نارا لا يهدأ أوارها، وفرج الله كربة السجن عن بعض العقول، لأنه يبدو ان اعتقال العقل أسوأ بكثير من سجن الأجساد، وانتحار العقل أخطر بكثير من مغادرة الروح للجسد.
تعليقات الزوار ( 0 )