Share
  • Link copied

جغرافيا الصراعات والمنافسات العالمية.. هل ينتهي الاحتكار الغربي للقوة؟

لم يعد الغرب يحتكر القوة في النظام الدولي الراهن، إذ تشهد الهيمنة الغربية التي سادت طوال القرنين الماضيين تراجعاً مضطرداً بدأت ملامحه تتبلور بشكل أكثر وضوحاً في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، فثمة مواجهات متزايدة على قمة النظام الدولي، كما لم تعد هذه المواجهات قاصرة فقط على الأبعاد السياسية والعسكرية، لكنها باتت تنطوي أيضاً على جوانب اقتصادية وحضارية، وقد أضحت القارة الأوروبية تشكل بالفعل واحدة من ساحات القتال الرئيسية إثر نشوب الحرب الروسية الأوكرانية.

في هذا السياق، يقدم المؤرخ الفرنسي ورئيس مجلة “Conflicts”، جان بابتيست نوي في كتاب جديد له حمل عنوان “انحدار العالم: الجغرافيا السياسية للاشتباكات والمنافسات في عام 2023″، فهماً للعالم الجديد الناشئ في القرن الحادي والعشرين ودراسة المكانة الخاصة لأوروبا في ظل الاضطرابات التي يشهدها النظام الدولي، حيث يستهدف الكتاب عرض الصدامات والحروب الراهنة باختلاف طبيعتها، مع محاولة التنبؤ بمساراتها المستقبلية.

العولمة والتفكك

تشكل الجغرافيا السياسية، إحدى المحددات الرئيسة لمفهوم القوة في العالم، لكنها تأخذ أشكالاً جديدة في القرن الحادي والعشرين، خاصة مع الانتقادات التي تعرضت لها المدرسة الكلاسيكية للجغرافيا السياسية القائمة على أفكار ماهان وماكيندر والفكر النازي. فعالم اليوم يبدو وكأنه عودة إلى القرن التاسع عشر، فهو متحد من خلال العولمة والتقنيات العالمية، وفي الوقت ذاته يتسم بحالة من التفكك والتشرذم، من خلال تصاعد حدة الرفض للغرب وعودة الثقافات المحلية وإحياء الإمبراطوريات الآسيوية. 

هاتان الظاهرتان – الاتحاد والتشرذم – ليستا متناقضتين، فالعولمة في الواقع فريدة من نوعها حيث إنها تذوب الثقافات الضعيفة وتقوي نظيرتها القوية، كما أن إحياء الهويات الأصلية ليس معارضاً للعولمة، لكنه أحد إفرازاتها، فهو يعكس إرادة العديد من الشعوب والدول في الوصول إلى التطور التكنولوجي (الحداثة)، مع رفض التغريب؛ لذلك هناك ظاهرة مزدوجة تتمثل في التوحيد والتشرذم، فكلما زاد التقارب والتشابه، زادت الحاجة إلى التمايز.

تبدو النزعة المتزايدة الرافضة للتغريب موجهة بالأساس إلى أوروبا أكثر من الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تشكل البيئة الأصلية ومهد الثقافة الغربية. بالتالي، فإن مساعي مواجهة التغريب موجهة بالأساس لأوروبا، وتعكس المعطيات الراهنة في النظام الدولي أن العالم يشهد حالياً حرباً عالمية، تجري بطريقة منظمة وفي مناطق جغرافية مختلفة، وعلى الرغم من اختلاف أهداف كل منها، سواءً سياسية من أجل السيطرة على السلطة، أو ثقافية للسيطرة على الهوية، أو اقتصادية للسيطرة على الموارد، فهذه الجبهات الثلاث تمر عبر قلب أوروبا.

الديمقراطيات والحرب

ثمة إشكالية وجودية لدى الديمقراطيات الأوروبية مع الحرب، فهي غير قادرة على التفكير فيها حتى إنها تنكرها، وتذهب إلى حد القول إن أوروبا هي السلام، وأنها لم تشهد حروباً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1945 وحتى نشوب الحرب في أوكرانيا في فبراير 2022. لكن هذه الديمقراطيات تعيش على الأساطير، إذ يتحمل دعاة السلام قدراً كبيراً من المسؤولية عن إشعال الحروب بسبب رفضهم تسليح بلادهم ومعارضة القوى الخطرة، واعتقادهم الساذج بأن رغبتهم في السلام ستنعكس على الآخرين أيضاً وهو ما أسهم في انفجار الحرب في أوروبا. 

لكن المفارقة أن العاطفة في الجغرافيا السياسية هي التي تهدد القارة الأوروبية وتؤدي بدورها إلى إشعال الحروب، فقد أبرزت الحرب في أوكرانيا أن السياسيين اليساريين الذين كانوا حتى ذلك الحين مناهضين للعسكرة أصبحوا من أشد المؤيدين للحرب. لقد أرادوا أن تتدخل فرنسا مباشرة في أوكرانيا وأن يتدخل حلف “الناتو” في كييف في حرب مباشرة ضد روسيا، مما قد يؤدي إلى امتداد الصراع إلى نطاق أوسع في قارة أوروبا. في هذا السياق، يمكن تصنيف الحروب التي تؤثر في القارة الأوروبية على النحو التالي: 

– حروب الطاقة: أدى وقوع أوروبا في قلب خطوط أنابيب الغاز من إفريقيا وآسيا وروسيا إلى تمتعها بوفرة من الطاقة، وهو ما دفع دول القارة إلى إغلاق الكثير من محطات الطاقة النووية والمفاعلات التي كانت تعتمد عليها كمصدر رئيس للطاقة. بيد أن الحرب الأوكرانية وما تمخض عنها من توترات في سوق الغاز أعاد بلورة أزمة الطاقة بالنسبة للقارة الأوروبية، ودفعها لإعادة البحث عن الوصول الآمن وغير المكلف لمصادر الطاقة، إلى جانب إعادة الاعتماد على الطاقة النووية. من هذا المنطلق، اختارت أوروبا التنازل طوعاً عن استقلالها بفضل التطورات التقنية والصناعية، ووفرت لسكانها الراحة التي لم يسبق لها مثيل في التاريخ، لكن جاء ذلك على حساب استقلالية الدول الأوروبية والاعتماد على مصادر الطاقة الخارجية.

– حروب الأراضي: حيث يشكِّل بحر البلطيق نقطة الاحتكاك بين الاتحاد الأوروبي وروسيا، وقد أصبح هذا البحر مرة أخرى منطقة ساخنة في أوروبا، إذ يمثل وجود جيب كالينينغراد شوكة في خاصرة دول البلطيق، فعدد السكان الروس كبير هناك، ويقرب من 20% في دول البلطيق، كما أن العلاقات التجارية مع موسكو قوية وقديمة، وهو ما دفع “الناتو” لإجراء تدريبات عسكرية بشكل منتظم هناك. 

على المنوال ذاته، لا تشكل الحرب الأوكرانية الراهنة صراعاً مستجداً، لكنه بدأ منذ مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع تصاعد التوترات بين الحكومات الموالية لروسيا والمؤيدة لأوروبا. لذلك جاء الهجوم الروسي على أوكرانيا في فبراير 2022 تتويجاً لسلسلة من الخلافات والتوترات التي بدأت في عام 2004. فمنذ ذلك التاريخ، كانت أوكرانيا مسرحاً لتنافس حاد بين الولايات المتحدة وروسيا، حيث لم يرغب أي من الطرفين في الاستسلام للآخر. من ناحية أخرى، عكس عدم تمكن الأوروبيين من تطبيق “اتفاقيات مينسك” أو إيجاد حل قبل اندلاع الأعمال العدائية مؤشرات مهمة بشأن مدى الضعف الأوروبي.

– حروب الخارج القريب: إلى جانب الحروب والصراعات القائمة على الأراضي الأوروبية، ثمة أزمات خارجية تشكل تهديداً بالنسبة لأوروبا، لعل أبرزها سوريا وناغورنو كاراباخ.

العودة الصينية

استمر الاحتكار الغربي للقوة منذ مطلع القرن الثامن عشر مع الانتصار على الأتراك وانتهى في بداية القرن الحادي والعشرين بعودة الصين. كان هذا الاحتكار تقنياً وعسكرياً وفكرياً ودينياً أيضاً، وبدأت هذه القوة الفكرية في التآكل مع انتشار الماركسية منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن يبقى الحدث الأكبر هو عودة الصين للمنافسة على قمة النظام الدولي.

مع ذلك، هناك العديد من الأخطاء التي ارتكبت فيما يتعلق بالصين، يتمثل الخطأ الأول في الحديث عن ولادة الصين أو الحداثة الصينية فيما يتعلق بقوتها. فما تعيشه الصين اليوم هو عودة إلى قوتها السابقة، وليس ولادة، فنادراً ما تتمكن إمبراطورية منهارة ومحتلة ومجزأة من استعادة مكانتها وقوتها، فقد أعادت الصين اليوم إحياء المكانة التي احتلتها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. أما الخطأ الثاني، فيتمثل في التفكير في أن الصين لم تعد شيوعية، فقد كانت الصين ولا تزال شيوعية، ويقدم رئيسها شي جين بينغ نفسه على أنه خليفة ماو تسي تونغ. 

بينما يرتبط الخطأ الثالث بالاعتقاد بأن الصين لا تُقهر، فهي موجودة اليوم من المحيط الهادئ إلى أوراسيا، ومن إفريقيا إلى المحيط الهندي، مدفوعة في ذلك بقوتها الديموغرافية الهائلة، لكن في المقابل فإن سكانها يتقدمون في السن، كما أن هذه الإمبراطورية الصينية الاقتصادية والمالية باهظة الثمن ومتسعة الجغرافيا ولا يمكن الحفاظ عليها على المدى الطويل.

من ناحية أخرى، ومع استمرار الحرب في أوكرانيا لا يمكن التنبؤ بالمكانة التي ستحتلها روسيا في رقعة الشطرنج العالمية، بعد عزلها من قبل الغرب بفعل العقوبات الاقتصادية الصارمة. إذ فقدت روسيا، من خلال هجومها على أوكرانيا المصداقية والاحترام اللذين نسجتهما بصبر على مدى عشرين عاماً في أوروبا الغربية، كما أثبت الجيش الروسي أنه أقل قوة مما كان يعتقد الكثيرون، بيد أن هذا لا يعني التقليل من مستقبل موسكو في النظام الدولي الجديد.

الاقتصاد وتحدي العولمة

إلى جانب التحديات الجيوسياسية التي تواجه الهيمنة الغربية على قمة النظام الدولي، ثمة تحديات اقتصادية متزايدة، فقد أعادت الحرب الروسية الأوكرانية إحياء حرب العملات بين القوى الكبرى في النظام الدولي، حيث بدأت الصين تشتري الغاز والنفط الروسي باليوان الصيني، كما فتحت الهند مفاوضات مع روسيا لدفعها بالروبية، فيما عرضت المملكة العربية السعودية على الصين شراء نفطها باليوان، وهو ما يعكس مؤشرات مهمة بشأن إعادة تعريف كامل للعولمة.

من ناحية أخرى، ثمة اعتقاد سائد عند العديد من الفرنسيين مفاده أن تراجع التصنيع والبطالة وفشل الأعمال له سبب واحد هو العولمة، لكن غالباً ما يتعارض التاريخ الاقتصادي مع هذه القناعات السائدة. ذلك أن عمل المؤرخين الاقتصاديين ميشيل هاو وفيليكس توريس يجعل من الممكن تبديد هذه الأطروحات وفهم أفضل للأسباب التي أضعفت النسيج الصناعي الفرنسي في السبعينيات والثمانينيات. 

ففي عام 1944، اختارت فرنسا دولة الرفاهية، لتمويل النموذج الاجتماعي لاسيما الضمان الاجتماعي، وكان هذا التمسك بالاشتراكية جماعياً وتشاركه اليسار واليمين، حيث تم فرض ضرائب على الشركات بشكل متزايد، وبذلك كانت تفتقر إلى رأس المال لتمويل تحديثها وتطويرها التكنولوجي. ومنذ الستينيات تخلفت الشركات الأوروبية عن الركب، وكانت صدمة النفط عام 1973 هي الضربة الأخيرة، بسبب ضرائبها وإدارتها الزائدة عن الحد، فلم تتمكن من الصمود أمام المنافسة الدولية التي تسببت في العديد من حالات الإفلاس. بالتالي، لا يكمن الخطأ في العولمة، بل في العبء الضريبي المتزايد باستمرار الذي أُجبرت على تحمله.

وعندما أدركت السلطات العامة نقص موارد الشركات الفرنسية، فضلت مضاعفة برامج المساعدة بدلاً من خفض الضرائب، ومنذ عام 1945 حتى الآن، ظل إجمالي الفائض التشغيلي للشركات الفرنسية أقل من المتوسط الأوروبي باستمرار، فنادراً ما يتجاوز معدل الهامش الخاص بها 30% خلال كل هذه العقود، بينما يصل إلى حوالي 40% في ألمانيا وهولندا، ويتراوح بين 30 و40% في جميع دول أوروبا الغربية. وبدلاً من الاعتراف بفشل سياساتهم، يلقي الاشتراكيون اليساريون باللوم على العولمة، التي تعتبر عدواً مناسباً مندمجا ًفي رأس المال الكبير والتمويل الدولي.

بناءً عليه، يبقى التذكير بالتغيرات التي طرأت على المجتمع الفرنسي على مدى العقود القليلة الماضية أمراً ضرورياً لفهم قوة أوروبا، وبالتالي أصولها في الحروب الحالية في النظام الدولي الناشئ وكذلك في ظل التنافس الداخلي بين دول القارة الأوروبية ذاتها. فعلى سبيل المثال شكَّل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صدمة كبيرة بالنسبة لفرنسا، حيث تُركت بمفردها في مواجهة ألمانيا، فلطالما كانت لندن بمثابة ثقل موازن في المعادلة الأوروبية، ولا تتمتع ألمانيا الآن بالقوة المطلقة في أوروبا فحسب، بل إنها في طريقها لتقويض قواعد القوة الفرنسية من خلال استخدام الطاقة والتنمية المستدامة.

هل تسقط الصين؟

على المستوى العالمي، لا تسعى الصين لنشر الشيوعية، كما حاول الاتحاد السوفيتي أن يفعل في وقته، فالشيوعية بالنسبة لبكين ليست سلعة تصدير، وإن كان الفكر الشيوعي يشكل هيكلاً للسياسة الداخلية بالنسبة لبكين، إلا أنه ليس حاسماً في سياستها الخارجية، إذ يقوم تحرك الصين الدولي بالأساس على قوتها الاقتصادية وجاذبيتها للدول النامية.

كل ما تفتقر إليه الصين الآن هو القوة العسكرية، وهذا ما تركز عليه حالياً، من خلال اتجاهها لتطوير قوة بحرية حديثة وقوية بشكل متزايد، بحيث تكون قادرة على إبراز نفسها عالمياً. فقد أظهرت العديد من التقارير مدى صعود البحرية الصينية في جميع المجالات والغواصات والفرقاطات وحاملات الطائرات، وذلك بالتزامن مع تآكل القوة الأمريكية في هذا الشأن، فقد شهدت رئاسة أوباما السابقة انخفاضاً واضحاً في القوة البحرية الأمريكية.

مع ذلك، تشير بعض التقديرات إلى احتمالية سقوط الصين بحلول عام 2049، استناداً إلى تجربة سقوط الاتحاد السوفيتي، حيث تشير هذه التقديرات إلى أن ثمة تشابهاً بين التجربتين، فالصين حالياً تفتقر إلى الموارد ولا تتسامح مع الحريات، وهو ما يجعلها في نفس وضعية الاتحاد السوفيتي عام 1989، وبالتالي فإن سقوط بكين على المدى المتوسط قد يكون أمراً ممكناً. 

كذلك، ثمة قصور بشأن معرفة الواقع الاقتصادي الحقيقي للداخل الصيني، فالأرقام الرسمية عن الصين سواءً كانت عن الإنتاج الزراعي أو الصناعي أو التنمية الاقتصادية لا يمكن التأكد من مدى مصداقيتها، في ظل الاعتماد فقط على البيانات الرسمية، وهو ما يعيد تكرار تجربة الاتحاد السوفيتي. ومن عوامل الهشاشة الأخرى بالنسبة للصين التركيبة السكانية، إذ ستؤدي سياسة الطفل الواحد إلى انخفاض حاد في عدد السكان وشيخوخة سريعة للغاية، كما يعد التدهور البيئي أحد التحديات الرئيسة التي ربما تزيد من حالة الضعف الصيني مستقبلاً.

ختاماً، من الصعب التنبؤ بالمستقبل لكن يبدو أن العالم بصدد تشكيل عدة أقطاب متنافسة، أبرزها القطب المتموضع حول الصين، ومن ناحية أخرى يتوقع أن يتسم النظام الدولي الجديد بوجود دول قوية في المناطق الإقليمية المختلفة، بالتزامن مع تفكك المجتمعات في أوروبا وتنامي قوة الشبكات الدولية، ولاسيما الشبكات الإجرامية المنظمة.

المصدر:

Jean-Baptiste Noé, Le déclin d’un monde, géopolitique des affrontements et rivalités en 2023, L’Artilleur / Bernard Giovanangeli Éditeur, Paris, 2022.

دينا محمود، مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة

Share
  • Link copied
المقال التالي