شارك المقال
  • تم النسخ

جدلية الدين والفلسفة من منظور ابن رشد

  تقوم الحياة في معظم صورها على تناغم جدليات متنوعة، فتبدو بادئ ذي بدء في صورة مضادة، ثم تسمو بالفهم والتحليل والقراءة المتمعنة لتبدو ذات نسب بالدم، وارتباط متين، تزيد قوته كلما حاولنا تفسير كل من أطراف تلك الجدلية على حدة.

ولقد لعبت جدلية الفلسفة والدين دوراً بارزاً في ساحة تصارع الأطراف، حتى انقسمت العديد من الآراء نحو التحيز لأحدهما دون الآخر، وذلك بالاعتداد بما يقوي رأيه من أدلة وبراهين. وحين وجد لكل منهما ما يفسر وجوده ويدعم موقفه وجدنا أن تلك الجدليات تسير لمنبع واحد تتلاقى على ضفافه، وهذا الحاصل في الانقسام بين مؤيد للدين، ومعارض للفلسفة أو العكس.

ولكن، هل على الإنسان بالفعل أن يختار أحدهما؟ وهل يؤذي الشريعة السبر في مكنونها، أو يفسد الفلسفة بيان حدود الإشكالات المحاطة بالضبابية؟ إن أقرب ما قد يبدو أنهما عنصران لمادة واحدة؛ وكما يقول الفيلسوف والمفكر ابن رشد، فإن الحكمة والشريعة، أو الفلسفة والدين أختان ارتضعتا لباناً واحداً، وهما يتعاونان في مهمة سامية تتمثل في إسعاد البشر، وري ظمأهم الفكري والمعرفي، واحترام نزعاتهم الفلسفية.

وبالتركيز على الشريعة بذاتها، نجد أن القدرة على فهمها والتغذية الروحية من خلالها بحاجة ماسة للعملية الفكرية الفلسفية، والاستعانة بالرهان المنطقي للوصول لمعرفة واضحة للخالق سبحانه وتعالى، والاستدلال على معالم قوته وقدرته وعظمته عز وجل من خلال الموجودات المحسوسة حول الإنسان، وباستخدام القياس الفلسفي، وعدم الاقتصار على الاستنباط السطحي. ولقد قدم في هذا السياق فيلسوف الأندلس في (تهافت التهافت) العديد من القراءات العميقة الفلسفية في الدين، إذ يعتبر أن النبوة حادث طبيعي، والوحي تمثيل للعقل الفعال، أو ما يسميه رجال الشريعة “مَلَكْ”، بل أنه تطرق للمعجزة باعتبارها أمراً ممكناً متناغماً وقوانين الطبيعة، ولكنها مقتصرة على الأنبياء الذين تحتمل أنفسهم وقوع تلك المعجزة، وهذا يمتنع على الإنسان العادي، فالممتنع في العقل ممكن في حق الأنبياء!

وأما فيما يتعلق بحاجة الفلسفة للدين، فهي تنبع مما يثبت من وسع المدى الملتصق ب: “الشطحات الفلسفية”، ووسع الخيال الإنساني التواق للاكتشاف والاستزادة العلمية، وتوسيع دائرة المفهوم والمعروف، مضيفاً على الدوام لحقيبته الثقافية والمعرفية دون توقف، وهذا لا يعيب العقل الإنساني وحكته المجتهدة، ولكن يبقى ذلك بعيداً عن دائرة المخاطر “المتعبة”، وبعيدة عن استنزاف الطاقة الإنسانية وإهدارها بلا جدوى، طالما تقيد ذلك في حدود واسعة معلومة، سيما ذات العلاقة بالمفاهيم الوجدانية العميقة.

إن “الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً، ويعطينا شرائع مخالفة لها”، ففي التوسط بحال معتدل بين النحو على طريقة الدين و الفلسفة، نجد أن الصورة العامة لفلسفة ابن رشد تعبر عنها في انتهاجه مقالاً مناسباً لكل مقام، سيما أنه يظهر كفيلسوف عقلاني في بعض ما يطرح، وفي موضع آخر تجده على غير ذلك، فقد كان يتمسك بالعقلانية عند حواره مع أهل الفلسفة، ويتنحى عنها إذا ما تطرق لسياقات تخص عامة الناس، فمن المعروف أنهم لا يطيقون ذلك السبر الفلسفي العقلي العميق، وبالتالي فإن التوازن في تناول الجدليات، يعبر عن الطريقة المثلى للانتقال من طور الافتراق والتحيز لطور الاتفاق والتميز في الفكر والطرح وتعميم المعارف، وكما يقول فإنه : “يظهر أن الله تبارك وتعالى قد خلق لنا قوى نقدر بها أن نكتسب أشياء هي أضداد. لكن لما كان الاكتساب لتلك الأشياء ليس يتم لنا إلا بمواتاة الأسباب التي سخرها الله لنا من خارج، وزوال العوائق عنها، كانت الأفعال المنسوبة إلينا تتم بالأمرين جميعًا “.

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي