شارك المقال
  • تم النسخ

جدلية الحرية والسلطة.. أبعاد فرض جواز التلقيح من زاوية حقوق الإنسان وعلم السياسة

نتيجة الانعكاسات السلبية المتسارعة لجائحة كورونا، سارعت الحكومة المغربية، كما هو الأمر بمختلف دول العالم، إلى الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية وتقييد الحركة في البلاد ابتداء من 20 مارس 2020. التي واكبتها مجموعة من التدابير الوقائية والإجراءات الاحترازية، بالسرعة والاستعجال بهدف تحقيق الفعالية والنجاعة لمواجهة واحتواء التداعيات السلبية للجائحة، والحد من انتشارها وحماية الأمن الصحي للوطن والمواطنين وضمان سبل عيشهم.

وإذا كانت اغلب الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة خلال فترة انتشار الجائحة قد لقيت استحسانا وقبولا من قبل المواطنين ولم تثير أية ردود أفعال معاكسة، غير أن الأمر اتخذ بعدا أخر بخصوص “قرار” فرض إجبارية جواز التلقيح كوثيقة معتمدة حصريا من قبل السلطات العمومية للتنقل بين الأقاليم والولوج إلى المرافق العمومية والمؤسسات الخاصة والفضاءات المغلقة، بحيث تباينت آراء مواقف المواطنين ومختلف التعبيرات المجتمعية بشأن هذا “القرار” مما أثار ردود أفعال بين الرفض والتأييد كما طرح جدلا ونقاشا قانونيا وحقوقيا حول مدى مشروعيته واحترامه للمقتضيات الدستورية والقانونية ذات الصلة، من حيث الشكل والمضمون، لا سيما وان هذا القرار على مستوى الشكل ورد على شكل خبر أو قصاصة إخبارية لوكالة المغرب العربي للأنباء، عقب اجتماع المجلس الحكومي في نفس اليوم 18 أكتوبر 2021 الذي لم يصدر عنه أي بلاغ منشور في موقع رئاسة الحكومة أو غيره من وسائل النشر الرسمية الأخرى.

بالإضافة إلى ردود الأفعال التي أحدثتها تنفيذ الدورية الثلاثية لوزارة العدل ورئاسة السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، الصادرة في 10 دجنبر 2021 بخصوص فرض اعتماد جواز التلقيح كوثيقة إلزامية لولوج المحاكم من قبل كل المرتفقين، بكونها تؤدي إلى تعطيل السير العادي لمرفق القضاء، وانتهاك حقوق المتقاضين والموظفين والقضاة والمحامين، والمس بالحق في التقاضي والانتصاف والحق في الدفاع وخرق قواعد وضمانات المحاكمة العادلة، مما دفع بهيأة المحامين إلى تنظيم العديد من الوقفات والمسيرات الاحتجاجية أمام مختلف المحاكم، والتي كانت موضوع بلاغات تضامن من قبل بعض المنظمات المدنية المدافعة عن حقوق الإنسان، الرافضة لمضمون الدورية الثلاثية. وقد تزامن يوم صدور هذه الدورية مع مناسبة تخليد اليوم العالمي لحقوق الإنسان بمختلف دول العالم، وهذا ما يطرح أكثر من علامة استفهام.

فمن الناحية القانونية يجب الإشارة إلى أن قرار فرض جواز التلقيح، وكغيره من القرارات التي تتخذها السلطات العمومية لحماية الصحة العامة التي تعتبر احد مكونات النظام العام، بهدف ضمان حماية حياة الأشخاص وسلامتهم الصحية جراء انتشار فيروس كورونا “كوفيد-19″، وتفاديا للأخطار التي يمكن أن تنتج عنها. يندرج في إطار مختلف الإجراءات والتدابير التي اتخذتها الحكومة منذ الإعلان عن حالة الطوارئ الصحية والإعلان عن الحجر الصحي العام في مختلف أرجاء التراب الوطني في مارس السنة الماضية، لمواجهة الآثار والانعكاسات الصحية والاقتصادية والاجتماعية الناتجة عن فيروس كورونا “كوفيد- 19”.

وبذلك تم سن مرسومين بقانون بهذا الخصوص، بناءا على مقتضيات الفصول 21 و24 و 81 من الدستور، واستنادا إلى اللوائح التنظيمية الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، وانسجاما مع المواثيق والاتفاقيات الدولية المتعلقة باحترام وصيانة حقوق الإنسان والحريات الأساسية.

غير أن اتخاذ الحكومة لهذا الإجراء كانت له العديد من الانعكاسات السلبية، نظرا لما ترتب عنه من انتهاكات لحقوق المواطنين والمس بحرياتهم الأساسية، كالحق في التنقل، والتعليم، والصحة، والعمل، لا سيما الحرمان من المساواة بين المواطنين في حقهم في الولوج إلى المرافق العمومية الاستفادة من خدماتها الضرورية. وكذا عرقلة تفعيل مبدأ استمرارية سير المرافق العامة بانتظام وباضطراد، المنصوص عليها في الفصل 154 من الدستور والقانون رقم 54-19 بمثابة ميثاق المرافق العمومي، وكذا المادة الثالثة من المرسوم 23 مارس 2020 المتعلق بحالة الطوارئ الصحية.

بالإضافة إلى العديد من المشاكل والصعوبات التي يطرحها تطبيق هذا الإجراء، والمرتبطة بإسناد مهمة طلب الإدلاء بجواز التلقيح من قبل الأشخاص الذاتيين الذين تنتفي فيهم الصفقة الضبطية، والأهلية القانونية لمراقبة مدى احترام القانون والمقررات التنظيمية للحكومة وقراراتها الإدارية التي تستوجب الإلغاء لعيب عدم الاختصاص.

خاصة وأن التلقيح يظل اختياريا وليس إجباريا كما أقرت بذلك الحكومة، وهذه المسألة تشكل مفارقة غريبة وتناقضا بينا بين قرار يسمح باختيار القيام بتصرف معين بالإرادة الحرة، وقرار يؤدي إلى المنع من التمتع بعض الحقوق في حالة عدم القيام بهذا التصرف أو الإجراء. زيادة عن الازدحام الذي حدث بداية اعتماد القرار في بعض مراكز التلقيح، والصعوبات التي واجهتها بعض الفئات الضعيفة والهشة بخصوص تحميل جواز التلقيح اليكترونيا. والمنع الذي تعرض له بعض الموظفين من الدخول إلى مقرات عملهم، والتكييف القانوني لعدم تواجد الموظف العمومي في مقر عمله أثناء التوقيت الإداري للعمل، هل هو تغيب غير مشروع أو غير مبرر عن العمل، أم يدخل في نطاق الظروف الطارئة أو القاهرة، ونفس الأمر ينطبق عن العمال والمستخدمين الممنوعين من قبل المشغلين، للولوج إلى أماكن عملهم من اجل مزاولتهم نشاطهم المهني، والذي يعتبر طردا تعسفيا من العمل طبقا لمقتضيات مدونة الشغل.

وبالرغم من أهمية المقاربة القانونية والحقوقية في معالجة قرار فرض إجبارية حمل جواز التلقيح كوثيقة معتمدة حصريا للتنقل بين الأقاليم والولوج إلى المرافق العمومية والمؤسسات الخاصة والفضاءات المغلقة. نظرا للعديد الإشكالات القانونية والحقوقية التي آثارها هذا القرار من حيث مدى شرعيته واحترامه للمقتضيات الدستورية والقانونية وانسجامه مع المواثيق والاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان ذات الصلة، ولما له من انعكاسات وآثار سلبية، مرتبطة بانتهاك الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين والأجانب المقيمين فوق التراب المغربي.

لا سيما في سياق حرص المغرب على الالتزام باحترام، المبادئ الدستورية والمقتضيات القانونية التي تنظم تدبير تبعات الحالة غير الطبيعية و”الاستثنائية” التي فرضتها أزمة فيروس كورونا، في سياق مجموعة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحقوقية، التي دشنها المغرب منذ أكثر من عقدين من الزمن.

غير أن هذا الوضع الاستثنائي يطرح عدة إشكالات من نوع آخر تستدعي البحث والرصد والتقصي حول السياق والواقع المتعدد الأبعاد الذي فرضته الجائحة، ومحاولة الكشف عن خباياه وعن تناقضاته، من خلال التركيز عن أهداف وغايات ورهانات صانع القرار السياسي بدلا من التركيز على الخطابات الرسمية المعلنة والتبريرات القانونية والواقعية المقدمة حول هذه القرارات والتدابير والإجراءات ذات الطبيعة الإدارية في شكلها والتي تحتمل أبعاد وغايات سياسية في جوهرها.

فالإعلان حالة الطوارئ الاستثنائية غالبا ما يثير مخاوف عدة بشأن حقوق الإنسان والحريات الأساسية، نظرا للصلاحيات الاستثنائية التي تمنح للسلطات العمومية في هذه الحالة، مع ما يترتب عن ذلك من احتمال وقوع تجاوزات وانتهاكات حقوقية، لا سيما في صفوف الفئات الاجتماعية الضعيفة والهشة خاصة في البلدان النامية التي تتبوأ مراتب متأخرة في مجال حماية حقوق الإنسان ومؤشرات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.

في هذا الإطار، ومن خلال تتبع مسار القرارات والإجراءات التي تبناها المغرب كغيره من مختلف دول العالم، فيبدو هذا أن الموضوع يجب مقاربته من زاوية علم السياسية باعتباره علم السلطة والقوة الذي يهتم بقواعد ضبط موازين القوى داخل المجتمع وضمان تدبير الخلاف الناجم عن تعارض الأهداف والغايات والمصالح المختلفة لمختلف مكونات المجتمع، تكريسا لوجود علاقات فرض أمر أو قرار صادر عن الحكام وانصياع وخضوع المحكومين لهذا الأمر أو القرار داخل مجموعة بشرية معينة وذلك في إطار جدلية علاقة السلطة بالحرية.

لا سيما في ظل الظروف والأوضاع الاستثنائية التي تتمدد وتطلق فيها يد السلطة التي تسعى إلى المزيد من الضبط والإخضاع والتحكم، بالمقابل يتقلص فيها هامش التمتع بالحقوق وممارسة الحريات الفردية والجماعية، والدور الذي تلعبه حالة الأزمات الطارئة والمفاجئة التي تفرض الاستعجال والسرعة في اتخاذ قرارات متنوعة وفق خيارات مختلفة، قد تكون متعسفة ومبالغ في جدواها، وهذا ما يشكل دافعا لتعزيز الانفراد بالسلطة، والأزمات الصحية كالأمراض والأوبئة والجوائح توفر بدورها الفرصة لفائدة السلطة السياسية للتحكم في جميع الأفراد وتوسيع هيمنتها لفرض السيطرة التامة على الناس.

وهناك العديد من المحطات التاريخية التي لجئت فيها السلطة السياسية إلى استغلال مثل هذه الأزمات الصحية، لإعادة تجديد أساليب آلياتها التسلطية والقمعية. وفي هذا الصدد يشرح الفيلسوف الفرنسي في كتابه المراقبة والعقاب الدور الذي تلعبه حالة الأزمة الصحية خلال زمن الأوبئة والكوارث في مجتمع المراقبة، والفرصة التي توفرها لفائدة السلطة السياسية لاستغلال خوف الناس لتغلغلها إلى أدق تفاصيل حياتهم، للتحكم في جميع الاختيارات القسرية للأفراد وتوسيع هيمنتها لفرض السيطرة التامة على الناس وإنشاء نظام تأديبي يتضمن إعادة تشكيل فضاء نفوذها، من خلال الإجراءات والتدابير الصحية والإدارية الأمنية التي تقوم بفرضها.

بحيث أن الحكومات في جميع دول العالم حاولت استغلال أزمة وباء كورونا، وحالة الطوارئ الصحية، من أجل تمرير قوانين وقرارات وإجراءات تزيد من فرض وتقوية السلطة على حساب حقوق وحريات المواطنين، خاصة في هذه الظرفية الاستثنائية التي تقلصت فيها الحقوق الحريات. مستخدمة في ذلك جميع الإمكانيات والوسائل المتاحة بما في ذلك الوسائل الحديثة لتكنولجيا الاتصال والمعلوميات التي تتيحها شبكة الانترنت، من خلال اعتماد أدوات المراقبة الرقمية على المواطنين، وهذا ما لاحظناه بخصوص النقاش العمومي سنة 2020 في سياق أزمة كورونا، حول مشروع القانون 20.22 بشأن استعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة.

وقد سبق أن حذر بهذه المسألة الأمين العام للأمم المتحدة الذي اعتبر أن أزمة كورونا أصبحت تتحول من أزمة صحية وإنسانية إلى أزمة حقوق الإنسان التي تتيح لبعض البلدان اعتماد تدابير قمعية لأغراض لا صلة لها بالجائحة.
ولذلك ستزداد الإشكالات الحقوقية التي ستواجه علاقة الدولة بالمواطنين، في إطار جدلية ضرورات حرية الأفراد ومتطلبات السلطة السياسية، بحيث أن الدولة وظيفتها يجب أن تقوم على أساس حماية الحرية باعتبارها الغاية القصوى لقيامها، حسب نظرية فيلسوف الحرية ومنظر المجتمع المدني الليبرالي باروخ سبينوزا، الذي حذر من عواقب اعتداء الدولة على حرية المواطنين. ويأتي هذا النقاش في سياق فرض تدابير وتعليمات السلامة الصحية التي ستحد بشكل كبير من هامش تحركات المواطنين وتمتعهم بحقوقهم وحرياتهم الأساسية وولوجهم إلى الحقوق والخدمات الضرورية التي تقدمها المرافق العمومية، وذلك تحت ضغط عدم اليقين الذي فرضته الجائحة بسبب تجدد السلالات المتحورة للفيروس.

وهو ما سيعيد السلطوية من جديد في مختلف بلدان العالم التي تعرف تراجعا عن مكتسبات حماية حقوق الإنسان، مع بروز مخاوف كثيرة حول إمكانية استغلال أزمة وباء كورونا “كوفيد-19” والاستمرار في تشديد إجراءات المراقبة والتضييق على الحقوق والحريات الأساسية للأفراد، حتى بعد نهاية الأزمة الصحية التي فرضها الوباء، كذريعة للهروب من ضغط تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي ستزداد سوءا في عدد من دول العالم الثالث التي تعيش على وقع مشاكل وأزمات متعددة الأبعاد.

أستاذ باحث في القانون العام والعلوم السياسية، بالكلية المتعددة التخصصات، الناظور.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي