بداية لا يمكن اختزال العمليات السياسية /الانتخابية في التصويت كسلوكيات بسيطة ومفهومة وواضحة المعالم،وإنما تنطوي على أكثر من ذلك بكثير ،ويجب أن تتضمن وتستحضر مناقشات حول الشرعية والتفاعل البشري ، خاصة من خلال حاسة اللمس touch sense of،ذلك أن الآثار العميقة للفيروس التاجي الجديد تتجاوز الترفيه وروتين الحياة اليومية المألوف والتواصل الاجتماعي. إن التغيير في السلوك التفاعلي /اللمسي ، الذي نشهده نتيجة للوباء سيغير بدون شك وبشكل كبير وظيفة الديمقراطية في العديد من الدول،ذلك إن المسافة البعيدة الملموسة اللازمة لإبطاء أو احتواء الفيروس التاجي تؤثر بالفعل على الطقوس السياسية لأي دولة، بحكم أن الكثير من رجال الدولة والمسؤولين والمواطنين انخرطوا بشكل فعلي في فترة قد تمتد طويلا، لإجراءات الابتعاد الاجتماعي والعزل الذاتي الذي هو ضروري لإبطاء انتشار الفيروس.
إذ لم يعد ممكنا التواصل بين رؤساء الدول والقيام بالزيارات الرسمية التي تخضع للتواصل المباشر وبروتوكولات رسمية ،و التباعد قائم حتى على مستوى الحكومات والبرلمانات داخليا وخارجيا أيضا بفعل غلق الحدود واتخاذ تدابير الوقاية وتقوم الدول بتأجيل الانتخابات بمختلف أنواعها ، والكثير من الأحزاب السياسية تعمد إلى تأجيل مؤتمراتها ، ويتم إلغاء الكثير من الأحداث السياسية على المستوى الوطني و المحلي،ومعها سيغير الفيروس التاجي بشكل كبير العديد من جوانب السياسة الانتخابية ، وليس أقلها تقاليد “اللمس السياسي politics touch “الذي يفرضه منطق السير الديمقراطي للتواصل السياسي والانتخابي بغض النظر عن الخلفيات التي تؤطر هذا اللمس سواء كانت صادقة أو خادعة .
إن استخدام الاتصال الجسدي من قبل السياسيين والقادة – إما لنقل الدفء والثقة أو لإضفاء الشرعية على مطالبات الحكم – له تاريخ طويل. ففي أوائل أوروبا الحديثة ، اشتملت تقاليد “لمسة الملك” The touch of the king على تقديم المرضى إلى الملوك، ثم يضع الملك يديه على المريض في محاولة لعلاج المصابين ،وفي كثير من الأحيان ، تزول الأورام من تلقاء نفسها وتتراجع – مما يعطي مظهريا أن لمسة الملك كانت علاجية، مما كان يوحي بأن الملك لديه سلطات خاصة/استثنائية ، وهذا الحق الإلهي – الاعتقاد بأن الله أعطى الملك الحق في الحكم – يتم عرضه من خلال جسد الملك ، الذي كان قادرًا على شفاء المرضى،وهذا الاعتقاد مازال ساريا في الوقت الحاضر وان كان وفق مساقات أخرى ،حيث نجد الكثير من المواطنين يقفون في صفوف متراصة لمصافحة الزعماء وسط حشد وتدافع كبير، وهذه السردية تنهل من فكرة أن أولئك الذين في السلطة لديهم أنواع من الكاريزما – وهي كلمة قد تعني في الأصل قوة ممنوحة إلهياً – يمكن الشعور بها من خلال اللمس.
كثيرا ما يقوم السياسيون باستخدام “اللمس” ليس لغرض التحرش أو الترهيب ولكن للتواصل والمشاركة والإلهام، وعلى إشراك الأمة وتوجيهها،لقد ظلت الثقافة السياسية للعديد من الدول تقدر اللمس عن طريق المصافحة أو العناق منذ فترة طويلة كعلامة على آداب السلوك السياسي والاجتماعي. على سبيل المثال ، فضل الكويكرز (الصاحبيون أو جمعية الأصدقاء الدينيين ،وهي مجموعة من المسيحيين البروتستانت نشأت في القرن السابع عشر في انجلترا )المصافحة على نزع القبعات والانحناء لأن الفعل كان له دلالة ديمقراطية ، مما يشير إلى المساواة التقريبية.
وفي التاريخ السياسي لقادة الدول مثلا كان الرئيس الأمريكي لينكولن مصافحا مذهلا ، وزاد من سمعته كرجل متساوٍ ومتواضع ، ويحسن التواصل مع المواطنين ،حيث كان يقوم بجلسات مصافحة ماراثونية في نيويورك في فبراير 1861 لدرجة تضرر يده من ذلك، وحتى بعد انتخابه رئيسًا ، وفقًا لـ J.G. Holland في عام 1866 ، التقى لينكولن مع الحشود التي كان يقوم بمصافحتها باليد … والمشهد كان أمرًا مخيفًا” مع العلم أن “كل رجل في الحشد … حريص على الضغط على يد ابراهام لينكولن،مما أعطى انطباعا جيدا للغاية.كما استخدم لينكولن المصافحة البسيطة للمساعدة في إشراك الأمة وتوجيهها خلال فترة صعبة للغاية من الحرب والاضطراب الوطني. هذا تذكير ودليل على أن اللمس المناسب يلعب دورًا مهمًا في الثقافة السياسية الأمريكية.
كما انه في الوقت الذي أفسحت فيه الملكيات المجال للحكومات المنتخبة ، ظل اللمس السياسي Political touch وسيلة فعالة يحتفظ بها السياسيون بإحساسهم بالشرعية كرجل أو امرأة من الشعب،وعليه أضحت المصافحة طريقة شائعة يتعامل فيها السياسيون في مختلف الدول الديمقراطية وغير الديمقراطية على حد سواء ، وعلى وجه التحديد ، مع الناخبين على المستوى الشخصي خلال فترة الحملات الانتخابية، كما غدت المصافحة أيضًا عنصرًا أساسيًا في السياسات الحزبية في القرن العشرين ، سواء في صفقات الغرف الخلفية أو بين السياسيين ودوائرهم،حيث هناك مشهدية تتجسد مع الكثير من السياسيين تظهر لحظات مصافحة وعناق مختلف مؤيديهم خلال فترة الانتخابات مما يساهم في تعزيز منسوب الشعور بالثقة بين الأشخاص الذين يصبحون مرتبطين ارتباطًا وجدانيا/عاطفيا وثيقًا بالرئيس المستقبلي.
ومن جهة أخرى ، في الطقوس الثقافية والسياسية أيضا ، يجب توخي الحذر من لمس شخص ما(المصافحة أو العناق،أو الوقوف جنبا إلى جنب ) محفوف بالمخاطر السياسية أو غير مرغوب فيه حتى لا تزعج أو ترسل رسالة خاطئة، أو يمكن فهم رفض المصافحة مثلا أنها “إعلان للعداء”.كما أن قبضة يد شديدة للغاية قد تعبر عن نزعة “الاستبداد” ، أو قد تكون نتاج إما قوة غير مقصودة أو نية خبيثة. كما أن السياسي الذي يمد يده بشكل انتقائي غير عادل ، قد تعبر عن ازدراء بارد .
وفي زمن فيروس كورونا سوف يتلاشى دور المصافحة في إضفاء الشرعية على الثقة، وستنقضي تلك الحميمية السياسية ،وستتعطل هذه المكنة بفعل بداية الحديث عن إجراء الانتخابات عن طريق استعمال التصويت الالكتروني، وقد يحول الوباء عملية الاقتراع إلى عملية تصويت بالبريد، أو القيام بتقييد مختلف العمليات الانتخابية (الحملات الانتخابية،الاقتراع)،وسط إجراءات وتدابير وقائية ،خصوصا وان هناك انتخابات رئاسية ومحلية في العديد من الدول غير قابلة للتأجيل حتى مع استمرار الخطر والذعر والخوف والقلق،سيفرض فيروس Coronavirus قيوده على اللمس السياسي ، وسينتقل الناس للتصويت. المخاوف من الحشود في أماكن الاقتراع والمخاوف بشأن إبقاء أدوات الاقتراع والأقلام وبطاقات الاقتراع خالية من الفيروس،و لا شك أن هذا الأمر سيؤثر على نتائج الانتخابات ، حيث ستقل حتما نسبة المشاركة.
إن فقدان اللمس في السياسة ستترتب عليه تغييرات جمة على مستوى التقاليد السياسية /الانتخابية المتعارف عليها،مما سيؤثر بشكل كبير على طبيعة العلاقات السياسية على المستوى الداخلي والخارجي للدول وعلى مستوى سير مؤسساتها،وعلى القيمة التنافسية للكثير من العمليات الانتخابية في ظل سياسة التباعد الاجتماعي ، حيث يعزل الأفراد عن التفاعل البشري الميداني الذي يكون له النفع الوفير على علاقة السياسي/المترشح ،بالمواطن/الناخب ، خصوصا مع ازدياد المخاطر التي تفرضها المتاهة الرقمية .
.
تعليقات الزوار ( 0 )