تعيش الثقافة العربية والاسلامية، التي تعرضت لضغوط عنيفة خارجية وداخلية، حالة من الصراع الذي لم يحسم منذ أكثر من قرن، فهي لم تفصل بعد في إعادة تجديد أسسها، وتوحيد عناصرها، وإخصاب بنياتها، كما أنها لم تنهار بعد نظرا لقوة تراثها الروحي وميراثها المادي، ولم تسقط في دائرة الانحلال والتبعية النهائية للحداثة الغربية، وما زال الصراع من أجل إثبات الذات وتأكيدها في وجه المدنية السائدة يتداخل و الصراع الاجتماعي والامتثال الأهلي لإعادة هيكلة نظمها وتثبيت كيانها٠
فجراء هذه الوضعية المأزومة قبل الفكر العربي والاسلامي أن يعيش في ثنائية دائمة ،وأن لايرى نفسه ولايعيها إلا من خلال هذه الثنائية المعممة في الوعي، والعقل، والممارسة: ثنائية الحديث و القديم، الأنا والآخر،السلفي والمتجدد، الأصالي والمعاصر، الدياني والعلماني،وفي جل المحاولات النظرية التي تعرضت لهذه الأزمة يبدو التأكيد على هذا الجانب، أوذاك، أو الدفاع عن ضرورة التوفيق بينهما، التزاما أساسيا لدى مختلف الأطراف، ولكن قليلة هي الدراسات التي سعت إلى الذهاب أعمق من ذلك، لتحليل وتفسير الظواهر الكامنة وراء هذه الثنائية، والنظر في الأصول المعرفية و الإبستمولوجية التي تستمد منها وجودها واستمراريتها٠يرى الأستاذ أبو يعرب المرزوقي في كتابه الموسوم بآفاق النهضة العربية، “أن الإنقسامات الراهنة والسجالات الحادة التي تصل بالمرء أحيانا مرتبة التقاتل، ماهي إلا تعبيرات سطحية أي طافية على السطح لتمزقات أعمق و أشد قائمة في صميم الوعي العربي، كوعي فردي وجمعي،وعي لايزال يعيش ظروف الحرب الأهلية الدائمة٠”
يبدو منذ الوهلة الأولى أن البحث في هذا الموضوع، بحث في الإشكال المحددبحسب تعبير الفيلسوف الكبير المرحوم محمد عابد الجابري، ويكتسي هذا الإشكال أهميته لكونه طرح من داخل الإصطلاحية العربية طيلة القرون الماضية في إطار السؤال النهضوي العام الذي حكم الفكر العربي، السؤال الذي انتشر وذاع بالصيغة التالية: لماذا تأخرنا وتقدم غيرنا؟ وبالتالي كيف ننهض؟ وكيف اللحاق بالركب٠ركب الحضارة الحديثة، و في نفس الإطار يعرف الدكتور برهان غليون النهضة بقوله:”إن النهضة هي مجرد وصف لحالة أو لإشكالية هي إشكالية مبنية على طرح مثيل المفاهيم والأزواج المفهومية :التقدم والتأخر، الأصالة والمعاصرة، العرب والغرب،العلم والدين،العقل والدين”.إن فكر النهضة ليس فكرا متجانسا لكنه ظل يعالج الإشكالات التي ذكرناها، أي اشكالية كيف يستطيع العالم العربي أن يحدد نفسه، ومكانته في هذه الفترة من الزمان بالمقارنة مع ما حصل في الغرب، و بالتالي فالعالم أصبح الى حد كبير محكوما بتاريخ الغرب وهيمنته.
و قد جرى الاصطلاح منذ ظهور كتاب آلبرت حورانيً الفكر العربي في عصر النهضة مطلع الستينات على اعتبار غزوة نابليون لمصر( 1798ـ 1799) بداية لدخول المشرق الاسلامي في الحداثة، ومن ثم بداية نهضته وتقدمه. وما تلا ذلك كله من أحداث ووقائع وتغيرات بعد الجلاء وتولي محمد علي باشا الحكم في أرض الكنانة، ومانتج عن ذلك من تطورات سياسية وبعثات طلابية،وتحديث للجيش والمؤسسات الأهلية والعسكرية، ومن ربط للعلاقات الدبلوماسية وغير ذلك، ومن ثم كانت الصدمة في المشرق إيذانا بميلاد جملة من التساؤلات، تتعلق بالٱسباب التي دفعت الى الهزيمة حيال الآخر المستعمر، وما حقيقة هذا الآخر وما مكامن القوة والضعف عنده، وأخيرا ماهي أسباب التأخر التاريخي هاته، أما في المغرب فكانت عقب هزيمة معركة إيسلي المعروفة في( 14 غشت 1844)، هذه المعركة التي كان الأمير محمد بن عبد الرحمان يعتقد أن فرنسا ستكون فيها لقمة سائغة، و أن المعركة محسومة لصالحه، لكن الصدمة كانت عنيفة و الخسارة كانت فادحة، و ستتوالى الهزائم بعد مدة ليست بالطويلة، فبعد ست عشر عاما في معركة تطوان التي سيواجه الجيش المغربي نظيره الإسباني، ستعرف إنتكاسة كبيرة. صدمة الحداثة قد أحدثت خللا كبيرا في البنيات المغربية، و استبطن غالبية المغاربة أن الغرب أكبر مما كانوا يعتقدون. و من هنا قرر المخزن الا يعود الى المواجهة العسكرية مع القوى الغربية، لأنه إقتنع بعدم جدوائية المجابهة العسكرية، و من هنا ذاع صيت كلمة الإصلاح و التحديث في المغرب.
حملت الفترة الأخيرة من انصرام القرن الثامن عشر آفاقا جديـــــــدة، لم يعهد الوطن العربي الاسلامي مثيلا لها من قبل، كان ذلك تمثل في حملة نابليون على مصر السالفة الذكر. إن تلك الآفاق كانت تنذر بنشوء إمكانات واحتمالات جديدة للنظر الى قضايا التحديث والتمدن، فلقد أحدثت هذه الحملة منعطفا جديدا في تاريخ العلاقة بين الشرق و الغرب ومن ثم بين العرب و هذا الأخير،و السؤال المطروح هو؛ ماهي تجليات هذه الانعطافة التي أحدثتها حملة نابليون في الوعي العربي؟يرى الأستاذ عبد الحميد يويو في رسالته الجامعية الموسومة بالخطاب الفلسفي في الفكر العربي االمعاصر،” أن نقطة الجذب في الموقف تنتظم في ذلك النحو الهائل الذي طرأ في الوعي العربي، فالغرب لم يعد في ذهن الانسان العربي عموما، و في ذهن النخب السياسية والفكرية بصورة مخصوصة، ذلك الآخر البعيد الذي يقبع وراء البحار والذي يظهر بين الحين والآخر ســــالكا مستهجنا، أو متدخلا همجيا و إقطاعيا يخرج بعد أن يكون قد حصد الزرع والنسل أو حاول أن يفعل ذلك دون أن يترك حقل تماس انبهار حضاري”.
تجدر الإشارة أنه قد عرف تاريخ الاسلام قبل انهزام البلاد الاسلامية أمام أوربا الحديثة مواقف من هذا القبيل، ففي العصر الوسيط،ثم في مستهل العصور الحديثة ألحقت ببلاد الاسلام هزيمتان كبريان أمام قوى أوروبية انتهت باحتلال مناطق من العالم الاسلامي، الأولى في مواجهة الحملات الصليبية والثانية أمام القوى الايبيرية، وفي كلتا الحالتين وقعت ردود فعل إصلاحية، ولكننا إذا تصفحنا الكتابات التي نتجت عن تينك الهزيمتين، لن نجد عند أصحابها لا وعي بالتأخر تجاه الأجنبي الغالب،و لا تساؤل عما عسى أن يكون وراء تغلبه من أسباب يتحتم الأخذ بها في الاصلاح،وفي هذا بالذات سيختلف الاصلاح الاسلامي الحديث عن القديم، إذ أن الاصلاح الاسلامي الحديث ينطلق من هذه المسألة الأساسية، مسألة التسليم بالتأخر تجاه أوربا.
وفي ظل هذه الوضعية، شرع الفكر الاصلاحي الاسلامي ـ وهو يجيب على أسئلة الفكر الغربي و يعتبر منه، يتوجه أساسا الى الأفكار الليبرالية، فسعى إلى إيراد المرادف الإسلامي لها، كالموقف من أسلوب الحكم مثلا ( خلافي، جمهوري، ملكي، ديمقراطي، استبدادي…) و مشكلة المرأة ( تحريرها بأي معنى، بالمعنى الاسلامي أو الغربي) والتحالف مع الأجنبي، والموقف من التقدم التكنلوجي و العلمي والثورة المعلوماتية، وكيف الحسم في تداخل السلطة الدهرانية الزمنية بالسلط الدينية. كانت هذه كلها أسئلة فرضها الواقع الجديد الذي استبد بالوعي العربي، فحرك بذلك العقل الفقهي الخامل الذي ركن الى التقليد و الاعتكاف على شرح و تلخيص المتون و الحواشي، فتصدر فقهاء كثر للافتاء في مثل هذه القضايا المستجدة.
و في فترات لاحقة، قامت الإصلاحية الإسلامية في مشرق العالم الإسلامي و مغربه، على أساس فكرة الإنعتاق من الأجواء التي استبدت بالحضارة الاسلامية طيلة هذه القرون، وذلك من خلال محاولة التجديد السياسي، كما هو الحال بالنسبة للقضيتين اللتين قدم أولاهما، الشيخ ” رفاعة رافع الطهطاوي”( 1801-1873)، وقدم الثانية الوزير و الصدر الأعظم خير الدين التونسي 1810- 1890). عبر الطهطاوي عن فكرته في أربعينيات القرن التاسع عشر، التي تمحورت حول ” المنافع العمومية” أو “الصالح العام”. و قد رام الطهطاوي من وراءها إعطاء إصلاحات ” محمد علي باشا” الدولتية غطاء شرعيا و مشروعية سياسية*، أما الفكرة الثانية التي أسهم بها ” خير الدين التونسي”, فهي فكرة “التنظيمات”, إذ كان يعني بها ما نعنيه اليوم بالمؤسسة، (بتسكين الهمزة) و هكذا دعا وحاول في وزارته إبعاد السلطة و العمل الإداري عن الشخصنة و العشوائية و الإرتجالية.
لقد كان ذلك فعلا تجديدا، لكنه تعلق في الأساس بجانب تحديث الدولة الوطنية و بنياتها، و على أن الفكرة الأشمل التي استقطبت جهود المفكرين و نضالاتهم، وربطت السياسي بالثقافي و الديني، كانت فكرة ” الجامعة الإسلامية” التي دعا إليها جمال الدين الأفغاني( 1897- 1938) و ناضل في سبيلها عقودا من الزمن، بيدأن أفكار الأفغاني حول الجامعة و الوحدة و الحرية و الشورى بقيت مجرد خواطر و لم ترتق الى مستوى نظرية متكاملة الأركان، حتى جاءت أفكار و كتابات و نضالات عبد الرحمن الكواكبي( 1854- 1902 )و محمد عبده ( 1849- 1905 ) فحولت تلك الخاطرات الى منظومة متماسكة.
و تكاد تجمع الأبحاث و الدراسات في هذا الموضوع الى أن التيارات المكونة للوحة الاشكالية، عنيت إشكالية التقدم و التحديث في الفكر العربي الحديث متعددة المشارب و الأنساق، يمكن حصرها في ثلاثة تيارات أساسية وهي :النزعة السلفية والتي تعتبر حركات الاسلام السياسي المعاصر امتدادا طبيعيا لها، والنزعة العصرية التي أفرزت نخبا ليبرالية معلمنة و أخيرا و ليس آخرا النزعة التلفيقية التي حاولت أن تجمع بين المرجعيتين، و الملاحظ أن كل هذه المدارس السالفة الذكر تقع في نمطية من التهييج الزائف، و على معادلة تقول بالنقض أولا ثم بإعادة البناء ثانيا. تعتقد أن إمتثال الوجود يتجسد في أحد أبعاده الكبرى، الذي يكمن إما في الماضي الأهلي أو في الحاضر الأجنبي، هذه النظرة الضيقة الأحادية الأفق تؤدي بنا الى ضرورة التفكير من جديد في طريق ثالث بديل.
بكلمة، أن كل هذه المعطيات قد جعلت من إشكالية تقدم الدولة العربية الوطنية أمرا مستحيلا، بحيث لايمكن ربطها ربطا سببيا، بجملة من المحددات المظبوطة، وبالتالي لا يمكن ولا يجوز تفسير الاتجاهات و الصراعات الفكرية وآلمعارك الدامية التي تنتج عنها او توافقها تفسيرا أحادي الأساس و الإتجاه، لذا فان تباين الاتجاهات هذه واختلافها و تعقدها و تشابكها، قد عملت على تحويل الساحات الفكرية و الفكرانية في الوطن العربي الى خرم من الاتجاهات و الأطياف تتقاتل فيما بينها، فيما يجعل الاشكالية تظل من أعقد الاشكالات في الفكر و العمل العربيين الحديثين.
*باحث مغربي مقيم بهولندا
تعليقات الزوار ( 0 )