شارك المقال
  • تم النسخ

ثقافة استعمال الماء في المغرب بين  مظاهر التبذير وآليات التنشئة

    خصص العاهل المغربي في خطاب عيد العرش الذي ألقاه بمناسبة الذكرى الفضية لتوليه الحكم حيزا مهما لإشكالية تدبير أزمة الماء بالمملكة . فقد أكد على ضرورة اتخاذ عدة إجراءات لمواجهة هذه الأزمة التي أصبحت هيكلية بما في ذلك ترشيد استعمال الماء وعدم تبذيره. إذ نبه بهذا الصدد على أنه : (أمام الجهود المبذولة، لتوفير الماء للجميع، علينا أن نصارح أنفسنا، بخصوص عقلنة وترشيد استعمال الماء : لأنه لا يعقل أن يتم صرف عشرات الملايير، لتعبئة الموارد المائية، وفي المقابل تتواصل مظاهر تبذيرها ، وسوء استعمالها.   فالحفاظ على الماء مسؤولية وطنية، تهم جميع المؤسسات والفعاليات. وهي أيضا أمانة في عنق كل المواطنين.) وبالتالي ، فالتأكيد الملكي بهذه الحدة على الترشيد العام لاستعمال الماء يعكس بوضوح بأن هناك خللا كبيرا أصاب سلوك المغاربة في تعاملهم مع هذه المادة الحيوية والذي كان يتسم دائما بالعقلنة وحسن التدبير طيلة عدة قرون سواء من خلال استعمالهم للخطارات أو السقايات العمومية. لكن بمجرد استعمالهم  للروبيني (الصنبور أو البزبوز )، تغير سلوك المغاربة المتسم بالعقلنة والاقتصاد إلى الافراط في الاستهلاك والتبذير في استعمال الماء. وبالتالي سيتم التطرق خلال هذه العجالة إلى النقطتين التاليتن:

        أولا : ثقافة  تدبير استعمال الماء في المغرب

     ثانيا :تعميم استخدام الصنبور وعقلنة استعمال الماء

أولا – ثقافة  تدبير استعمال الماء في المغرب

   لجأ المغاربة خاصة سكان الحواضر ، منذ عهد المرابطين إلى نظام الخطارات التي ساهم بشكل كبير في تنظيم استعمالهم للماء سواء للشرب أو للري .  فقد فكر المرابطون في جر الماء من وادي وريكة وبدأوا في ذلك فعلاً، مستعينين في ذلك بالمهندس الأندلسي عبيد الله بن يونس المعروف بوضع نظام الخطارات بمراكش.  وقد تحدث صاحب كتاب وصف إفريقيا أبو الحسن الوزان عن هذا النظام بإعجاب، فقال: ( إن هذا الرجل المذكور … جاء إلى مراكش في صدر بنائها و ليس بها إلا بستان واحد فقصد إلى أعلى الأرض مما يلي البستان فاحتفر فيه بئراً مربعة كبيرة التربيع، ثم احتفر منها ساقية متصلة الحفر على وجه الأرض ومر يحفر بتدريج من أرفع إلى أخفض متدرجا إلى أسفله بميزان حتى وصل الماء إلى البستان وهو منسكب على وجه الأرض يصب فيه، فهو جار مع الأيام لا يفتر… فاستحسن أمير المسلمين من فعل عبيد الله بن يونس المهندس وأعطاه مالاً و أثوابً وأكرم مثواه مدة بقائه عنده، ثم إن الناس نظروا إلى ذلك، ولم يزالوا يحفرون الأرض ويستخرجون مياهها إلى البساتين والجنات، واتصلت بذلك عمارات مراكش، وحسن قطرها ومنظرها). وقد سار باقي أمراء السلالات المتعاقبة على حكم المغرب على نفس النهج في استعمال الخطارات لتلبية احتياجاتهم . وهكذا ، فنظام الخطارات  الذي  كان موجودا من قبل في الحجاز وإيران وأرمينيا والاندلس وتوات وتافيلالت … قد نظم عملية استعمال الماء من طرف الساكنة في معيشها اليومي سواء للشرب أو للري حيث كانت تجمع ماء الخطارات في صهاريج كبيرة لاستغلاله عند الضرورة ومنها يوزع على الأجنة و العراصي بواسطة المصاريف، وعلى الحمامات والمساجد والدور الخاصة بواسطة “القواديس”  الفخارية. مما ساهم بشكل كبير في عقلنة استعمال الماء وحرص الساكنة على عدم تبذيره أو الافراط في استعماله . وبالتالي فبالرغم من ظهور أساليب أخرى للري والتوزيع بقي للخطارات سحرها وروعتها، واستمرار الاهتمام بها، حتى إن بول باسكون (P.Pascon )قد أحصى في منطقة الحوز خمسمائة خطارة، عرفت المدينة منها خمس عشرة ومائة خطارة. بالإضافة إلى ذلك ، فقد حافظ المغاربة على استخدام هذه الخطارات في العديد من الواحات المغربية وتكليف من يقوم بالاشراف على توزيع مياه الري بين الساكنة.

       1-سياسة السدود وتعميم استعمال  الروبيني (الصنبور)

ينتمي المغرب جغرافيا إلى أحد المناطق الجافة  في العالم التي يتبوأ فيها الماء منزلة خاصة .      حيث تتـصف هيدروغرافيا المغرب بكل السمات المتوسطية من شح في الماء وضـعف للـصبيب  لذلك تميز تاريخ المغرب بإشـكالية توفير وتدبير الماء الذي أصبح قطبا في السياسة الاقتصادية و الفلاحيـة خصوصا منذ الستينيات من القرن 20 مع ما أصبح يعرف بسياسة السدود . وقد اعتبر المغرب من البلدان القليلة التي استطاعت ان تؤمن تزويد أغلبية مدنها الكبـرى بالماء الصالح للشرب، وأن تطور قدرتها على التعبئة وتمكنـت مـن تنظيم جزء كبير من مياهها المعبأة لتطوير مجال الري. ليتم بعد ذلك إعطاء انطلاقة البرنامج الوطني لتزويد العالم القروي بالماء الشروب سنة 1995، الذي كان يهدف أساسا إلى تعميم توفير الماء الشروب بالوسط القروي لفائدة 80% من الساكنة القروية في أفق 2010 وهو ما يعادل تزويد 31000 دوار يضم حوالي 11 مليون نسمة باستثمارات تناهز 10 مليار درهم. كما أنه تطبيقا للتوجيهات الملكية الواردة في الخطاب الافتتاحي بمناسبة الدورة التاسعة للمجلس الأعلى للماء والمناخ التي انعقدت  بتاريخ 21 يونيو 2001 بأكادير، قررت الحكومة تسريع تنفيذ هذا البرنامج. حيث  كلف المكتب الوطني للماء الصالح للشرب سنة  2004 بتكثيف استثماراته الموجهة للوسط القروي مما جعل نسبة التزود بالماء الصالح للشرب بالعالم القروي على المستوى الوطني تبلغ نسبة 94,5%. كما أنه في إطار الإستراتيجية الملكية للتوزيع العادل للمياه على كامل أقاليم المملكة ، خصصت الحكومة المغربية غلافا ماليا يناهز 250 مليون درهم لتنفيذ مجموعة من المشاريع تتعلق بالتزويد بالماء الصالح للشرب والتطهير السائل على مستوى الأقاليم الصحراوية وتحديدا مدينة الداخلة.

2- تعميم استخدام الصنبور ومظاهر تبذير الماء

لقد أدت سياسة تعميم استعمال الصنبور أو الروبيني للتزود بالماء سواء للاستعمال المنزلي أو الفلاحي إلى سوء استعمال المغاربة للماء سواء عبر الافراط في استعماله أو تبذيره . وهكذا فقد زخرت عدة تقـارير وطنية و دولية تقنية بتعداد مساوئ تدبير استعمال الماء من بينها إهمال إصلاح القنوات وضـياع الماء والرشوة في ميزانيات المشاريع واستخلاص ديون السقي … مما يشكل إهـدارا لموارد يحرم منها العديد من القرويين الذين تم تجاهل حقهم في الماء لمدة عقـود ولا يزال بعضهم بدون حق في الوصول إلى المـاء إلـى اليـوم . كما أن سعر الماء الذي ظل رخيصا لعدة سنوات أدى إلى انتشار ثقافة تبذير الماء عند ساكنة كانت تعتبر أن تبذير الماء يبقى شيئا غير مقبول لا دينيا ولا سلوكيا . وقد ظهرت مظاهر هذا التبذير في إهمال صيانة قواديس السقي التي تبقى مهملة لشهور . كما أن وكـالات التوزيع في المدن درجت على تبني السقايات العمومية بدون نظام لإقفال الماء حيث يبقى هطالا ليـل نهـار وعلى مدار السنة . في حين تعود المستهلك على إهمال إصلاح أعطاب صنبوره لأن أداء ثمن ما سيضيع مـن الماء يعتبر في نظره أقل كلفة من نفقات وجهد الإصلاح  أنابيب الماء. إضافة إلى تعود المغاربة على استهلاك الماء بشكل مفرط سواء في الحمامات العمومية أو بالفنادق …أو في تنظيف غسيلهم أو في تنظيف بيوتهم وإقامات سكناهم أو سياراتهم . بالإضافة إلى سقي ملاعب الكولف والحدائق والمسابح بكميات كبيرة من الماء الصالح للشرب.

ثانيا – تعميم استخدام الصنبور وعقلنة استعمال الماء

   يبدو أن تعميم استخدام الروبيني قد غير سلوك المغاربة ونظرتهم لاستعمال الماء . فهذا الماء الذي تعودوا على جلبه لعدة قرون بعدة طرق ومشاق خاصة ، أصبح لديهم متوفرا لا يتطلب إلا فتح الروبيني للحصول عليه في كل وقت وكل حين. ولعل هذا المعطى الذي كان من المفروض أن يبحث من طرف علماء السوسيولوجيا ، قد غير بشكل كبير السلوك العقلاني للمغاربة في استعمالهم للماء. فقد حوله من نعمة سماوية إلى سلعة مستهلكة ومتوفرة لا يتطلب جهدا سواء في نقله لعدة كيلومترات كما يزال الوضع عليه في بعض الدواوير والقرى  أو في الحفاظ عليه وتخزينه في خوابي وأواني خاصة ، أو اقتنائه من بائعي  الماء أو ماكان يعرف في المدن القديمة والحواضر التقليدية أو حتى في بعض الأحياء الهامشية بمول الماء. من هنا ضرورة العمل على نهج بيداغوجية سياسية تهم بالأساس تربية المواطن على عقلنة استعماله للماء من خلال تنشئة اجتماعية و تعليمية ، بالاضافة إلى فتح نقاش عمومي موسع حول تدبير استعمال الماء.

       1-التنشئة الاجتماعية على استعمال الماء

       يبدو من الضروري أن يتم إعادة تلقين الأطفال منذ صغرهم حسن التصرف في استعمال الماء ، وتنبيهم إلى أهمية عقلنة استعمالهم له من خلال أمثلة ملموسة تتمثل في البداية بتعويض الصنابير الحالية بصنابير ذكية ، وعدم ترك الصنابير مفتوحة بشكل عشوائي. بالإضافة إلى ذلك، يجب تشجيع الأبناء على الحفاظ على الماء من خلال مكافآتهم على حسن استعمالهم للماء أو تنبيهم وتوبيخهم بل ومعاقبتهم في حالة تبذيرهم للماء. بالاضافة إلى ضرورة إظهار الآباء أهمية المشاركة في الجهود الرامية إلى استدامة الموارد المائية بالبلاد كتشجيع السلوكيات المحمودة في الحفاظ على الماء مثل إصلاح التسربات المائية في المنازل ، واستخدام أجهزة ومعدات توفير المياه.  وعدم الافراط في استهلاك الماء سواء في الحمامات العمومية أو بالفنادق… أو في تنظيف الغسيل والبيوت أو السيارات.

 2- إدماج مادة استعمال الماء في المقررات الدراسية

يبدو أن الوقت  قد حان لكي تعيد الدولة النظر في مقرراتها الدراسية التي ينبغي أن يشكل فيها استعمال الماء خلفية  ثقافية أساسية في  المواد التي تدرس للتلميذ منذ التعليم الأولي إلى المستويات التأهيلية والجامعية . فعلى غرار ما قامت به بعض الجمعيات خلال المخيمات الصيفية بتحسيس الأطفال بأهمية الماء في الحياة وضرورة استعماله بشكل معقلن ، يمكن أن ينكب استراتيجيوا وزارة التربية الوطنية والخبراء في البيداغوجيات التعليمية على التركيز في تدريس أهمية استعمال الماء في كل المواد المدرسة سواء كانت مواد علمية أو أدبية : حيث يمكن أن يتم الحرص في مادة الجغرافية التركيز على انتماء المغرب جغرافيا إلى أحد المناطق الجافة في العالم، وتميز هيدروغرافيته بكل السمات المتوسطية من شح في الماء وضـعف في نسبة التساقطات، في حين يتم التركيز في  مادة تاريخ المغرب على إشـكالية توفير وتدبير الماء سواء من طرف السلطة أو من طرف مكونات المجتمع وصراعات القبائل حول منابع الماء ولجوء المغاربة خاصة سكان الحواضر، منذ عهد المرابطين إلى نظام الخطارات التي ساهم بشكل كبير في تنظيم استعمالهم للماء سواء للشرب أو للري . في حين يتم على سبيل المثال التركيز في مادتي الفيزياء والكيمياءعلى مكونات هذه المادة الحيوية و كل المراحل التي يمر منها لكي يصبح الماء مادة صالحة للشرب . في حين يمكن أن تشمل مادة الاقتصاد التركيز على قيمة الثروة المائية و نسبة الاستهلاك المائي من طرف قطاعي الفلاحة والسياحة . بينما يتم التركيز في مادتي التربية الإسلامية والوطنية على الاستعمال الأمثل للماء والتركيز على الآيات والسور المتعلقة بالماء ….وبالتالي فأهمية المنظور الشمولي للماء الذي سيتخلل كل مواد المقررات الدراسية سيؤدي بلا شك في غرس وتكريس أهمية الماء في وعي التلميذ في إطار تكوينه كمواطن داخل المجتمع.

3-التحسيس العمومي بحسن استعمال الماء واللجوء إلى الزجر

    من المفروض على الدولة أن تحرص على تلقين مواطنيها في برامج إذاعية أو تلفزية أو في خطب الجمعة المراحل المعقدة التي يتم بها تخزين الماء و كلفة معالجته وطرق توزيعه حتى يصل  في آخر المطاف إلى هذا المستهلك كي يستعمله كيفما اتفق ويبذره بشكل يقرب إلى سلوك إجرامي. فتبذير ثروة مائية في منطقة جافة في بلد ما زال يعتمد على التساقطات المطرية غير المنتظمة ينبغي أن يندرج ضمن جرائم وعقوبات القانون الجنائي الذي هو الآن في طور النقاش البرلماني. ولعل ما تعيشه المملكة من جفاف متواصل يمكن أن يشكل ، على غرار تداعيات جائحة كوفيد ، وما تعرفه مدن المملكة من انقطاعات متكررة في الماء ، وما تعانيه بعض الساكنة في حواضر وقرى من مظاهر الشح المائي الذي بلغ حد العطش،قد يشكل الصدمة النفسية  والسيكولوجية  التي  ينبغي أن تهتبلها الدولة لإعادة تربية مواطنيها على الاستعمال المعقلن للماء وعدم الافراط في استخدامه . فهذا الحق إذا اعتبر حقا مكفولا لكل مواطن ومواطنة ، فمن واجبهما أيضا الحفاظ على الثروة المائية وعدم استعمالها بشكل مفرط ومبذر. كما ينبغي العمل على تفعيل ما ورد في الخطاب الملكي الذي دعا فيه “السلطات المختصة، للمزيد من الحزم في حماية الملك العام المائي، وتفعيل شرطة الماء، والحد من ظاهرة الاستغلال المفرط والضخ العشوائي للمياه. كما ندعو بقوة، للمزيد من التنسيق والانسجام، بين السياسة المائية والسياسة الفلاحية، لاسيما في فترات الخصاص، مع العمل على تعميم الري بالتنقيط. وفي نفس الإطار، نوجه لاعتماد برنامج أكثر طموحا، في مجال معالجة المياه، وإعادة استعمالها؛ كمصدر مهم لتغطية حاجيات السقي والصناعة وغيرها…”.

4- فتح نقاش عمومي حول استعمال الماء

  واجه المغرب لأول مرة في تاريخه الحديث أزمة حادة في استعمال مخزوناته المائية دفع السلطات إلى اتخاذ إجراءات استعجالية تهم تدبير هذه الأزمة سواء من خلال التخفيض من

استعمال الماء عبر قطع تصريف الماء في أوقات معينة في عدة مدن ، أو التخفيض من نسبة الصبيب، وإغلاق الحمامات ومحطات تنظيف السيارات محلات تصبين وكي الملابس    ( المصبنات) لثلاث أيام في الأسبوع ، أو تفعيل عمل الشرطة المائية إلى غير ذلك من الإجراءات . لكن يبدو أنه رغم هذه الإجراءات فما زال التعامل مع هذه الأزمة وكأنها أزمة عابرة على غرار زلزال الحسيمة أو الحوز أو بعض فيضانات بعض مناطق الجنوب الشرقي.فعلى الرغم من كثرة الإعلانات الاشهارية التي يقوم بها التلفزيون الرسمي والاشتغال اليومي الفعّال الذي يقوم بها إعلاميون وصحفيون بشكل عام في العديد من المنابر الوطنية، والورشات التحسيسية التي تقوم بها بعض الجمعيات ، فلا يوجد أيّ نقاش عمومي بين الباحثين والعلماء والمهندسين وخبراء الزراعات والمسؤولين في الوزارات وجمعيات البيئة، من أجل التفكير في الطريقة التي ينبغي بها ترشيد استخدام الماء. فالنقاش العمومي جزء لا يتجزأ من تغيير الواقع، ولعل ما تعيشه المملكة من جفاف متواصل و مظاهر الشح المائي الذي بلغ حد العطش، قد يشكل الصدمة النفسية والسيكولوجية التي ينبغي أن تستغل لفتح هذا النقاش الموسع بين مكونات المجتمع المدني و هيئات الدولة المعنية  لايجاد السبل الكفيلة والمستدامة لتدبير معقلن ورشيد للماء في مختلف القطاعات الفلاحية والاقتصادية والاجتماعية والمرافق العمومية سواء كانت إدارية أوالعسكرية أودينية أو صحية.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي