الأوضح في الأوضاع العربية أن شروط استمرار السخونة قائمة في كل مكان بينما شروط التسويات لم تتبلور بعد. فالمشكلة العربية لم تعد فقط في طبيعة الصراع الداخلي بين أقطاب مختلفة وأجنحة مختلفة في النظام السياسي وخارجه، بل المشكلة الأعمق أن الدولة بحد ذاتها أصبحت في مهب الريح مما قد يجعل فرص الإصلاح أكثر صعوبة. فالدولة الضعيفة عبء على نفسها وعلى الإصلاح.
لقد أصبح الكيان في الدول العربية ضعيفا، وذلك لأن الأنظمة السياسية المختلفة صادرت الدولة بما فيها وما عليها وإحتوت مؤسساتها لدرجة أنها حولتها لمؤسسات ضعيفة الانتاجية وممتلئة بشخصيات قلما تتوفر فيها قيم الانتاج والخبرة. فالشرط الأبرز لتوزيع المواقع في الكثير من مؤسسات الدول العربية هو الولاء لشخصيات محددة ضمن النظام السياسي وهو ما يتناقض مع الولاء للمؤسسة وللدولة وتحقيق أهدافها. ضعف الدولة العربية عنى تبذير أموالها والتلاعب بقضائها وتخريب أسس قوتها بما فيها جيوشها ونظامها التعليمي والصحي بهدف الاستمرار في السلطة. لقد تحولت مؤسسات الدول العربية لاستهلاك الثروة من دون إنتاج القيمة.
إن الأنظمة في منطقتنا العربية اعتمدت اساسا على سياسات التوزيع المرتبط بالولاء الشخصي، وهذا فتح الباب للفساد بانواعه كما و للخمول والضعف والتفكك الذاتي. التوزيع عنى في عرف النظام السياسي العربي اعتماد سياسة التوزيع على قواعد اجتماعية في المدن والأرياف وبين القبائل والعائلات دون أن يرتبط ذلك بانجاز او كفاءة او انتاج. في نظام كهذا ما يصل للقاع وما يصل للطبقة الوسطى والطبقات الشعبية هو فتات. لكن ما يصل للمحسوبيات المنتشرة هو الجوهر لاستمرار النظام السياسي.
وإن دققنا في المشهد العربي سنجد أنه في مرحلة الفورة النفطية كان بناء هذا النظام الذي يقوم على التوزيع قادرا على تسكين الأوضاع. لكن التوزيع لم يكن يحمل أفقا تنمويا أو نهضويا هدفه دولة حقيقية فعالة (كحال آسيا) بقدر ما كان مرتكزه تمكين السلطة من السلطة ومن الشعب ومن الدولة. لهذا سقطت الكفاءة والإنتاجية في كل شيء.
من صفات الواقع الجديد أن الدول العربية فقدت الكثير من مناعتها الذاتية التي تسلحت بها في بداية تأسيسها. في المرحلة الراهنة بانت المؤسسات على حقيقتها وبانت القدرات، وانكشفت المشكلات، كل ذلك بسبب تراجع المصادر، وتراجع القدرة على التوزيع، والتي نجدها تقترن بضعف وتفكك المؤسسات المناطة بتأمين حلول للمجتمعات. في حالات كثيرة اشترى النظام وشخصياته أملاك الدولة ومصادر قوتها، وفي حالات كثيرة تم بيع بعض أهم أسس الدولة للقطاع الخاص. تم ذلك بلا رؤية للنهضة او تطور الدولة.
وقد نتج عن هذا الوضع أن النظام السياسي بدأ يفقد كل يوم المزيد من قواعده الشعبية وتحالفاته المجتمعية السابقة. هذا النزيف والفقدان يشمل من كانوا دائما في صف النظام. في ظروف كهذه تلجأ الأنظمة لخيارها الأصعب والأخير: الحلول الأمنية والتعسف والقمع وفتح مزيد من السجون. فكلما فقد النظام من رأسماله السياسي، تعززت أزمة الثقة بين النظام والمجتمع، والذي يصاحبه استخدام القوة وإغلاق المساحة العامة والإعتداء على الحريات. لكن استخدام هذه الوسائل ليست دليل قوة بقدر ما هي دليل ضعف النظام السياسي وخوفه من المجهول وفقدانه للأدوات السياسية التي تسمح له بالتأثير والإقناع. ويزداد الأمر حدة عند عزل فئات محددة في المجتمع (تيارات، حقوقيون، طوائف، قبائل، أقاليم، شباب رموز سياسية إصلاحية). إن خوف النظام السياسي العربي من التعبير النقدي يعكس مدى الإشكالية ومدى ضعف مناعة الدولة.
كيف سنبني دولة مؤسسات فعالة بينما نعجز عن التعامل مع مشروع الدولة وبناء بنيتها باحتراف؟ كيف نبني دولة تمتلك مناعة بينما فئات في مجتمعنا تشعر بالغبن لحد الانسحاب من الدولة وفئات أخرى تسعى للهجرة (الشباب والكفاءات) وبينما يزداد النظام السياسي ضعفا وعزلة. لا يبدو الاستقرار قريبا في منطقتنا. ستأخذ منطقتنا المتناقضة مع نفسها والمدمنة على الإحتكار السياسي زمناً طويلا لبناء النماذج التي تجمع بين مشروع الدولة الراشدة من جهة وبين النظام السياسي المساءل والمبني على قيم العدالة و الأنسنة والحقوق.
*أستاذ العلوم السياسية/ الكويت
تعليقات الزوار ( 0 )