Share
  • Link copied

تقاطعات الشفاهي والكتابي

 المؤكد أن معادلة الشفاهي والكتابي، مثقلة بإشكالياتها النظرية، التي استقطبت ولا تزال اهتمامات الدارسين والباحثين بمختلف اختصاصاتهم ومرجعياتهم المعرفية والنظرية، دون أن تستنفد القليل من حيويتها المنفتحة باستمرار على المزيد من الأسئلة. فإذا كان الشفاهي يستمد سلطته من أسبقيته التاريخية والطبيعية على ظهور أي بادرة كتابية، فإن الكتابي هو أيضا، يستمد سلطته من تحويل مسار الذاكرة من بعدها الإخباري المحدود في المكان والزمان، إلى بعد آخر أكثر تناغما وتفاعلا مع حركية الصيرورة. وهو البعد التدويني، القادر على لجم مختلف التحريفات والاختلاقات، التي تتلذذ المسارات الشفاهية، بإحداثها في جسد المحكيات.

وكما هو معلوم، فإن التعالق المتوتر القائم تاريخيا بين الطرفين، كان مجالا خصبا لتسليط نار الشك أو نور اليقين، على غير قليل من الحقائق التاريخية، التي تتشكل بها الحضارة الإنسانية ككل. سواء على المستوى العقدي، الإبداعي أو التاريخي، حيث لم يكن للكتابي من خيار في قهره لسلطة الشفاهي، سوى إشهاره لمقولة «قدم النص» التي أسالت سجالاتها أنهارا من الحبر بين فرقاء الفكر الإسلامي. فالقول بأن النص قديم وغير مخلوق، من شأنه إزاحة الأصل الشفاهي عن عرش السبق، كي يتحول في نهاية المطاف إلى مجرد عنصر أرضي، عارض، وجاهز للزوال، مقابل نص متعال بقداسة قوانينه وإوالياته المنذورة لسلطة الدائم والسرمدي.

وهو التوتر الذي سيأخذ مسارات جديدة ساهم في تفجيرها التقدم الحثيث، الذي تشهده الوسائط المعلوماتية، خلال العقود الأخيرة، لكن مع ذلك، ففي غمرة الاكتساح والاختراق الهادر الذي يمارسه الصوت على مسامات الكون، وفي غمرة المكتسبات التي توقف الكتابي عن مراكمتها، ثمة دائما متسع لمناوشة معادلة الشفاهي والكتابي، بما أمكن من التساؤلات العالقة في اللسان، كما على شفير المطبوع.

وبالنسبة للسياق الذي نحن بصدده، وهو سياق عربي بحت، فإن هذه المعادلة تحيل على واقع القطيعة القائمة بين طرفيها، بقدر إحالتها على واقع تكاملهما وتفاعلهما في سياقات حضارية أكثر تصالحا. ولعل الأصل في القول بالقطيعة، يعود إلى تعدد الإشكاليات المتعلقة بالقوانين التعبيرية التي تخص كل طرف على حدة. وهو السياق التي تطرح فيه أسئلة جد ملحة، من قبيل: هل ثمة فرق بين العلاقة التي تؤسسها الكتابة مع العالم، وتلك التي يؤسسها الخطاب الشفوي مع العالم ذاته؟ وبتعبير آخر، هل تختلف القضايا المعالجة من قبل الكتابة، عن تلك المعالجة من قبل التعبير الشفاهي؟

ومن المؤكد أن المقاربة الموضوعية لهذه التساؤلات، لن تستقيم إلا ضمن السياق السوسيولغوي، الذي يتميز به كل شعب على حدة، ونعني به المنظومة اللغوية السائدة التي يمتد بموجبها ذلك الخيط الفاصل بين الخطابات المكتوبة، والخطابات الشفاهية. فحيث يلاحظ ذلك التماثل شبه المطلق، بين البنيات اللغوية الموظفة في كل من الخطاب الشفاهي والكتابي لدى اللغات الأوروبية، من قبيل الإنكليزية والفرنسية والإسبانية، على سبيل المثال لا الحصر، سننتبه إلى أن الأمر يختلف بالنسبة للعالم العربي، المتميز بلغة ذات رأسين، أحدهما موجه للتواصل الشفاهي، فيما الثاني موجه للتواصل الكتابي، حيث تحضر تلك الازدواجية المؤرقة، والمجسدة في كل من اللغة الدارجة المعتمدة في تدبير الحياة اليومية للشعب، واللغة الفصحى الموظفة ـ إلى جانب اللغات الأجنبية – في تدبير حياته العلمية والثقافية. وهي ازدواجية تضعنا في أتون مسلمة جحيمية، مفادها تجريد هذه الشعوب من حق المواطنة المعرفية والثقافية، والحجر عليها في فضاءات الشفوي، باعتبار أن غالبيتها العظمى ترزح تحت نير الأمية والتجهيل، حيث تتحول بالمقابل دائرة اللغة الفصحى، الموظفة في مجالات التدوين والكتابة والتأليف، إلى غيتو مغلق على المحظوظين. ما يدعونا لطرح سؤال المصداقية والشرعية، الذي من المؤكد أنه سينحرف بنا إلى إشكالات تقع مؤقتا خارج أفق هذه الورقة.

غير أن الطريف في الأمر، أن الأغلبية الساحقة، لم تكن أبدا معنية بوجودها داخل غيتو الفصحى، أو متبرمة من كونها معزولة وضائعة في الآن نفسه، وسط صخب الساحات العامة، التي يستعرض فيها الشفاهي جماليات مقالبه.
وضمن مفارقة هذه الازدواجية، سيحق للملاحظ أن يتساءل: بأي منهجية سنتعامل مع المفكر الماثل أمامنا، الذي هو الآن بصدد ارتجال خطاب، يتمحور حول مقولات نظرية تخص إشكالية الزمن؟ هل نعتبره خطابا شفويا؟ من منطلق تجاوزه لكل ما له صلة ببروتوكول الكتابة، المعبر عنه بالكتاب، أو بعض مستلزماته، تقليدية كانت أو حديثة،

كالمطبوع أو الحاسوب؟ أم نعتبره خطابا مندرجا في مدونة الكتابة الفلسفية، بالنظر لكونه مقدما بلغة عربية فصيحة، مثقلة بالمفاهيم والمصطلحات الموغلة في التجريد؟ ولعل أول ملاحظة يمكن تسجيلها في هذا الإطار، تداخل النسق الشفوي بالكتابي، حيث يتمثل الأول في خاصية الارتجال، بما يتخللها من توظيف مقصود للمترادفات، والحرص على شرح دلالاتها، وظهور نوع من الارتباك والتردد في انتقاء التعابير الملائمة، إلى جانب استعمال اللغة الدارجة، أو الأجنبية، كلما استشعر المحاضر احتمال تمنع المعنى على الحاضرين، فضلا عن استعانته في تواصله معهم، بما أمكن من التعبيرات الجسدية، كتحريك اليدين والرأس.

مع تعمد إشعارهم بعمق الحالة الفكرية التي هو بصدد مناقشتها، من خلال انعكاسها على ملامح الوجه. والهدف من ذلك، تحفيز الحاضرين على الاندماج في طقس تحليل وتفسير ما هو بصدده.

أما النسق الكتابي، فيتمثل في إعلان المحاضر عن موضوع اللقاء، بوصفه منتميا إلى المدونة الفكرية والفلسفية، الوثيقة الصلة بعالم الكتابة، وأيضا في إشارته إلى المنهجية التي سيعتمدها خلال المدة التي سيستغرقها العرض. مع إشارته إلى التعقيدات المعرفية التي يتميز بها الموضوع، إلى جانب ذكر عناوين بعض المراجع والمصادر الأساسية المختصة.. وكلها عوامل شفاهية ذات حمولة كتابية، من شأنها تهيئة الحاضرين سيكولوجيا وفكريا، كي يتخلوا مؤقتا عن سلوكهم الشفاهي، ويندمجوا ما أمكن في تجربة المكتوب. وإذا كان من الضروري التعليق على المشهد، فسنقول إنه الشفاهي، الذي يطيب له أن يتخلص من تهمة التصاقه وتسكعه في الفضاءات العامة، كي يتسلل إلى البرج الذي يتحصن فيه الكتابي، قصد إثبات أهليته على الوجود في الفضاءات الخاصة.

وفي اعتقادنا أن هذا المشهد، كاف لإثارة إشكالية مستويات حضور المكون الإبداعي في كل من الخطاب الشفاهي والكتابي، ما سيتيح لنا إمكانية الوقوف على نسيج نظري لا متناه من حيث تعدد خيوطه وتباين ألوانه، وحيث سيكون من الصعب الحديث عن نوع صاف، وخالص من الخطابات المستقلة بإوالياتها وقوانينها، ومكرهة على الاندراج في خانة مغلقة لا تتسع لغيرها، سواء كانت شفاهية أو كتابية. وانحيازنا لشرعية الإبداع، من شأنها رفع الغطاء عن واقع التعدد الذي ينسف ذلك الحد الحديدي الفاصل بين طرفي ثنائية مانوية، ينعدم في كهفها أي أثر لضوء العقل وهوائه. ذلك أن الاحتكام إلى شرط الإبداع في تصنيف مستويات كل من الخطاب الشفاهي والكتابي، هو في حد ذاته احتكام للجوهر الإنساني في أرقى تجلياته وحضوره. والحديث عن نموذج ثابت لأي منهما، يعني الطمس المجاني لهذه الخصوصية، التي يمكن اعتبارها بحق، المحك الذي تختبر فيه هوية الكائن، بما هي هوية ثقافية وحضارية وإنسانية. وبالتالي، فإن جمالية الخطاب الشفاهي، ليست أبدا جاهزة ومعطاة، لكنها خلاصة تأهيل مجتمعي وثقافي وحضاري، من الصعب على الخطاب الكتابي أن يؤمن وجوده خارج حتمية تفاعله معها. ففي قلب الفضاءات العامة، يتبلور كل ما يمكن أن يتبادر للذهن من صيغ وأنساق شفوية، تتراوح بين الإسفاف الأكثر ضحالة وانحطاطا، والإشعاع الأكثر فاعلية وبهاء، انسجاما مع مجموع ما تعج به فضاءاتها، من تناحرات طبقية، وتناقضات مجتمعية، وصراعات سياسية، وفرص غير متكافئة للتكوين والتأهيل الثقافي والمعرفي.

ولعل أهم هذه الصيغ وهذه الأنساق، تلك التي تمتلك حظها الوافر من الكفاية الإبداعية والجمالية، التي تتأسس على أرضيتها خطابات، ترقى إلى مستوى الخطابات الكتابية المشتغلة في الإطار نفسه. وبصيغة معكوسة، قد يتنازل البعد الجمالي بالنسبة للخطاب الكتابي، إلى أحط مستوياته، في حالة افتقاره إلى مقومات وقوانين الكتابة، كي يتماهى هو أيضا مع ذلك الخطاب الشفاهي، المفتقر إلى الحد الأدنى من مكوناته.

Share
  • Link copied
المقال التالي