في العصر الحديث، لم يعد الإسلام محصورًا داخل جغرافيا العالم الإسلامي، بل أصبح جزءًا لا يتجزأ من مجتمعات متعددة الثقافات والديانات، حيث يعيش ملايين المسلمين في دول غير إسلامية، حاملين معهم إرثهم الديني والثقافي في بيئات تختلف عن مجتمعاتهم الأصلية. هذا الامتداد جعل الحاجة إلى تسديد التبليغ ضرورة لا غنى عنها، لضمان استمرارية الهوية الإسلامية دون الوقوع في العزلة، وتحقيق الاندماج دون الذوبان.
إن المسلمين خارج العالم الإسلامي يتجاوز عددهم 550 مليون مسلم، وينقسمون إلى فئتين رئيسيتين: المسلمون الأصليون والمسلمون من أصول مهاجرة. المسلمون الأصليون، الذين يُقدَّر عددهم بأكثر من 500 مليون مسلم، يعيشون في دول ليست ذات غالبية مسلمة، وينتمون إلى مجتمعات تاريخية قديمة اعتنقت الإسلام منذ قرون طويلة، مثل المسلمين في الهند، الصين، روسيا، إفريقيا، أمريكا اللاتينية، وبعض مناطق جنوب شرق آسيا. وعلى الرغم من أنهم يشكلون مجتمعات متجذرة في هذه الدول، فإنهم يواجهون تحديات خاصة تتعلق بالحفاظ على الهوية الإسلامية ضمن بيئات متعددة الأديان والثقافات، تتفاوت فيها درجات التعايش والاندماج.
أما المسلمون من أصول مهاجرة، والذين يُقدَّر عددهم بأقل من 50 مليون مسلم، فهم يشكلون الفئة التي هاجرت إلى الدول غير الإسلامية، وخاصة في أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا، خلال العقود الماضية. غالبية هؤلاء ينتمون إلى موجات الهجرة الحديثة التي جاءت نتيجة للأوضاع الاقتصادية أو السياسية، وهم في الغالب يواجهون تحديات الاندماج، والمحافظة على الهوية، وتجاوز الصور النمطية السلبية عن الإسلام في المجتمعات المضيفة.
هذا التمييز بين المسلمين الأصليين والمسلمين من أصول مهاجرة مهم لفهم الفروقات في القضايا التي يواجهها كل منهم. فبينما تتعلق التحديات الرئيسية للمسلمين الأصليين بقضايا مثل الحقوق الدينية، والاعتراف القانوني، والتفاعل مع الدولة والمجتمع المحلي، فإن التحديات التي تواجه المسلمين من أصول مهاجرة تتعلق أكثر بقضايا التكيف الثقافي، والمواطنة، والتعليم الديني للأجيال الجديدة، والتعامل مع تصورات المجتمع المضيف عن الإسلام والمسلمين.
إن تسديد التبليغ في المجتمعات المسلمة خارج العالم الإسلامي يستدعي مقاربة تعتمد على الوسطية والتجديد والانفتاح، بعيدًا عن مناهج الإقصاء أو الانغلاق، وذلك من خلال تحقيق فقه المواطنة المتكاملة. المسلمون في هذه الدول ليسوا جاليات طارئة أو ضيوفًا مؤقتين، بل هم مواطنون كاملو الحقوق والواجبات في مجتمعاتهم. وبالتالي، فإن الخطاب الديني يجب أن يعزز لديهم الشعور بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم، والعمل على الإسهام الإيجابي فيها، بدلًا من الانعزال أو اتخاذ موقف دفاعي.
وفي هذا السياق، يعد مفهوم الدولة الوطنية والوئام الوطني من المفاهيم الأساسية التي يجب تعزيزها في الخطاب الديني، كما يؤكد معالي الدكتور علي راشد النعيمي في كتابه “الدولة الوطنية”، حيث شدد على أهمية الالتفاف حول الدولة الوطنية باعتبارها الإطار الجامع الذي يضمن الاستقرار والتعايش، بدلاً من التعلق بأوهام دولة “المرشد” أو دولة “الخليفة” . إن التركيز على مفهوم الدولة الوطنية يساهم في تحقيق الوئام الاجتماعي، وضمان حقوق المسلمين ضمن أطر قانونية واضحة، وتجنب الوقوع في مشروعات سياسية عابرة للحدود تستغل الدين لتحقيق أجندات لا تخدم المجتمعات المسلمة.
إن تعزيز مفهوم المواطنة والاندماج الإيجابي لا يعني التخلي عن الهوية الإسلامية، بل يعني إعادة تقديم الإسلام بصفته دينًا يعزز قيم العمل المشترك، والمساواة، والانتماء للوطن. وهنا تأتي أهمية تقديم خطاب ديني يسهم في بناء المجتمعات، بدلاً من خطاب يعزل المسلمين أو يجعلهم في مواجهة دائمة مع محيطهم.
من بين الإشكاليات الكبرى التي تواجه المسلمين خارج العالم الإسلامي الخلط بين التعاليم الدينية والممارسات الثقافية القادمة من بلدانهم الأصلية. وهذا يؤدي في بعض الأحيان إلى تقديم الإسلام بصورة لا تتلاءم مع الواقع الجديد. من هنا، يجب أن يكون التبليغ الديني قادرًا على تحديد الثوابت التي لا تتغير، والمرونة في الفروع التي يمكن أن تتأقلم مع متغيرات الواقع.
إن تسديد التبليغ في هذه البيئات يواجه تحديات متعددة، منها التصورات النمطية عن الإسلام، إذ يعاني المسلمون من صور مشوهة عن دينهم، مما يجعلهم في كثير من الأحيان في موقف دفاعي بدلًا من أن يكونوا طرفًا فاعلًا في الحوار. كما أن التعددية الفقهية داخل المجتمعات المسلمة نفسها تمثل تحديًا إضافيًا على العلماء والمبلغين، الذين يجب أن يقدموا خطابًا يجمع ولا يفرق، ويركز على المشتركات بدلًا من الانشغال بالخلافات.
إن الحاجة إلى تسديد التبليغ في المجتمعات المسلمة خارج العالم الإسلامي تتطلب إعادة النظر في أساليب التبليغ، بحيث يكون التبليغ قائمًا على الوعي بواقع كل مجتمع مسلم، وتقديم الإسلام كدين ينسجم مع فكرة الدولة الوطنية، ويعزز قيم التعايش والاندماج الإيجابي.
في ظل العصر الرقمي، يجب الاستفادة من وسائل الإعلام والمنصات الرقمية، بحيث يتم تقديم الإسلام من خلال قنوات حديثة تتناسب مع الوسائل التي يعتمدها الشباب المسلم في تلقي المعلومات. كما ينبغي تدريب الدعاة والمبلغين على مهارات التواصل بين الثقافات، بحيث يكونون قادرين على تقديم الإسلام بلغة يفهمها غير المسلمين، وبأسلوب يراعي خصوصيات المجتمعات المضيفة.
إن المسلمين في هذه المجتمعات، وهم يواجهون تحديات الهوية والاندماج، بحاجة إلى خطاب ديني متوازن يجمع بين الإيمان والمواطنة، وبين الحفاظ على الهوية والانفتاح على الآخر. فالتبليغ المسدد ليس مجرد دعوة، بل هو فن إدارة الوجود الإسلامي في بيئات متعددة الثقافات، بحيث يكون الإسلام عنصر بناء لا عنصر توتر، ومصدر إشعاع حضاري لا سببًا لسوء الفهم.
إنها مسؤولية العلماء والمفكرين والدعاة، لكنها أيضًا مسؤولية كل مسلم يعيش خارج العالم الإسلامي، لأن أصدق تبليغ عن الإسلام هو ما يُقدَّم عبر الأخلاق والسلوك، لا عبر الخطابات والمواعظ وحدها.
تعليقات الزوار ( 0 )