الباراديغمات تولد في الزمن وهي معرضة للموت والنهاية. هذه الكتل والنماذج النظرية والمنهجية والمفاهيمية والتصورات المنسجمة “للتفكير في العالم”، لتفسير الواقع والأزمات والمشاكل، ولصناعة نماذج التعاطي مع الحقائق وايجاد الحلول، هي أيضا تموت وينتهي مفعولها.
وكثير من الباحثين أو المحللين والمفسيرين للواقع أو الممارسين، لاسيما في عالم السياسية والاقتصاد والمجتمع والحقوق والإعلام، يربطون أنفسهم بشكل مستمر ضدا على قانون التطور والتحول، بأجهزة نظرية ولدت في سياقات وظرفيات معينة، ارتبطت بقيم سلطة محددة أو بأزمات تاريخية أو غيرها، من أجل تفسير واقع جديد مختلف تماما عن الواقع السابق الذي أفرز الباراديغمات السابقة، والتي ربما يتعين مراجعتها وتمحيصها أو إنتاج بارديغمات جديدة تفسر الحاضر بشكل أكثر دقة، وتسعى إلى وضع تصورات جديدة للمستقبل.
التحولات الجديدة الحالية التي تعرفها مجتمعات العالم ومنها المغرب، والفاعلون الجدد والأدوار المستحدثة في مسارات إعادة بناء الدول وإنشاء القوة، في نظري تحتاج إلى تحول في الباراديغمات وتغييرها بدل استعمال أجهزة نظرية بلغة قديمة لم تعد تدرك من الواقع الشيء الكثير. وأول شيء ينبغي الاشتعال عليه هو اقناع المهتمين بفكرة أن الباراديغمات أيضا تتغير وهي ليست مقدسة، لأن الإيمان والوعي بتغييرها هو بداية تغيير عميق لطرق تفكيرنا حول الزمن الحالي والمستقبلي.
وقد سبق في هذا المجال تحديدا، أي في التنظير لتغيير الباراديغمات، الفيلسوف والمؤرخ طوماس كون في عمله حول الثورة العلمية سنة 1962. وقد عرج كون على أمثلة كثيرة في كتابه، انطلاقا من التغييرات التي وقعت في التصورات في علم الفلك وتحول النماذج من مركزية الأرض في الكون إلى مركزية الشمس، كما تتناول التغييرات التي وقعت في العلوم الطبيعية والكيمياء والفيزياء والباراديغمات الجديدة التي نقضت الباراديغمات القديمة التي كانت مقدسة إلى حد بعيد في حينها، والتي كان يعتبر المساس بها أمرا غير مقبول، إلى أن ظهرت أجيال أخرى فكرت بشكل مختلف وتعاطت مع الواقع الجديد وفق الإمكانات المتاحة، فأنتجت أو طورت أنساق مفاهيمية جديدة غيرت العالم وساهمت في تطوير الأمم والشعوب والدول. ومنطلق ذلك أن تبني بارديغمات جديدة، يحول نظرتنا وقوانا المعرفية نحو وجهات جديدة لاستكشافها، لأن العالم حولنا لا يتغير إلا بتغير الباراديغمات، ولأن افعالنا ما هي إلا انعكاسات لتصوراتنا للواقع وللعالم. ومن أهم الأفكار العلمية التي سبقت أو ربما ساهمت في التأسيس لهذا التوجه لتغيير الباراديغمات، هو ما نظر له الفيلسوف كارل بوبر في المنهج العلمي من خلال نظرية التفنيد أو الدحض والنقض refutability، بمعنى الإعتماد أساسا على منهج نقد ما سبق من فرضيات ونظريات وخلاصات، وعدم اعتبارها مقدسات علمية. فقد تكون بعض النتائج التي وصفت بالعلمية مجرد اساطير وتمثلات ذاتية للواقع، فيتعين تجريب أفكار جديدة بغية تحديد الاختلالات والأخطاء، حتى تظل المعرفة العلمية مستمرة في إنجاز فعلها في صناعة التغيير والتقدم.
غير أن تغيير الباراديغمات المهيمنة كما فهمه كون، يحتاج إلى مسار علمي منهجي دقيق عبر مراحل مفصلية لانتاجه أو “تطهيره” وتعديله داخل نسق علمي عادي وطبيعي la science normale، بمعنى الاشتغال داخل نفس الباراديغمات السائدة، والانطلاق منها لتطويرها وتنقيحها. بعد ذلك ينبغي تحديد مناطق الاختلالات أو الهشاشة في إعطاء نتائج مقنعة لتفسير الموضوع أو الواقع، لأن الوعي بوجود اختلالات بين تطبيق الباراديغم وبين نتائج التفسير المتحصل عليها، يعتبر خطوة مهمة تنذر بوجود أزمة تفسير وفهم وأن أمرا ما لا يسير على ما يرام، وقد يكون هذا حالنا في تفسير أمور كثيرة منها تحولات المجتمع المغربي وطبيعة النظام السياسي.
من هنا تنبع الحاجة إلى البحث بشكل استثنائي، عن نظريات مفسرة جديدة، وعن متغيرات حديثة تعيد رسم الصورة بشكل أكثر نضجا، وبذلك يتم التوجه نحو باراديغم جديد قد يحدث ثورة في الفهم والتطور رغم إمكانية وجود مقاومات صعبة لهذا التحول، لأن هذا التحول ليس بالأمر السهل والهين، وأنه يحتاج أن ينطلق من قراءة متأنية للسياق العام الداخلي و الخارجي، للسياق الديني والثقافي، للتوجهات السياسية والاقتصادية الحالية. كما أن الذين لم يجربوا نظرياتهم أو تصوراتهم أو رؤاهم أي الذين يعتبرون “خارجيين” outsiders، عن المشكل موضوع النقاش العام، لا يمكنهم تغيير توجهاتهم وقراءاتهم بسهولة، خصوصا إذا كانوا مطوقين أو إذا احاطوا انفسهم بباراديغمات “وراثية” ورثوها مثلا عن أفكار تقدمية ليسار سنوات الرصاص كالعدالة الاجتماعية والمساواة والتي كانت دائما مجرد شعارات أكثر منها تطبيقات عملية حتى في التنظيمات اليسارية نفسها، والتي لا تزال تفرض نفسها على تفكير و “نضال” فئات واسعة. أيضا تسود أحيانا بعض افكار القومية العربية، كالوحدة والاندماج والوطن العربي، أو افكار الحركة الإسلامية الإنتخابية، كمفهوم الأمة الإسلامية والشورى وغيرها، والتي لم تعد باراديغمات قادرة على فهم العالم والتعامل معه بواقعية.
وعندما نتساءل عن ضرورة تجديد فهمنا للمغرب وللتطور والتحول الذي يشهده، فإنه من المشروع أن نستشكل سؤال المنهج والباراديغم لفهم هذا التحول. لكن السؤال الكبير هو ما هي المشاكل التي نريد أن نبحثها ونحدد تصورات جديدة بشأنها، وكيف يمكن ذلك؟ هل هو سؤال حقوق الإنسان، أم سؤال وضع المرأة والأسرة، أم وضع الشباب والرياضه ودورها في انتاج الثروة، أم حالة الماء ودوره في الاستقرار، أم علاقة السلط فيما بينها، أم علاقة السلطة بالقانون وبالسياسة، كيف يمكننا قراءة وفهم أو صناعة توازن بين سلطة القانون واحترام الحريات وبين سلطة الدولة المرتبطة بحماية المصالح الكبرى للبلد داخليا وأيضا في علاقتها مع الشرق والغرب؟ وغيرها كثير من الأسئلة، التي طبعا لا يمكنني أن احصرها بشكل كامل لأنها تحتاج إلى فرق بحث علمي عديدة متكاملة وكثيفة ومنفتحة على المجتمع عبر الجامعة وعبر الإعلام والحوار المجتمعي العام.
كما أن تغيير بارديغمات التفكير كما يقول عدد من الفلاسفة والباحثين لا يرتبط فقط بطرق تفكير الباحثين والنخب و الأفراد، وإنما أيضا يشمل طرق تفكير المجتمعات والتنظيمات عن طريق النقاش العمومي المفتوح وعن طريق دور المثقف في تحريك هذا النقاش. في الغرب وفي دول تقدمت بسرعة، هناك تحولات كثيفة في باراديغمات التعاطي مع الواقع في جميع مجالات الحياة، بل هناك نماذج جديدة اعتبر بعضها ثوريا في صناعة نماذج التطور. وحتى على مستوى تحليل الخطاب، ذهب الباحثون في الغرب بعيدا في فهم الاختلالات الخطابية كظواهر أو كأزمات مؤثرة، لاسيما فيما يتعلق بالشعبوية والعنصرية والتطرف، فأنتجت القراءات التي تفسر الواقع الخطابي والاعلامي الجديد وتبرز طرق التعامل معه.
الأسئلة التي تثير إشكال البحث عن باراديغم جديد كثيرة ومتنوعة: هل المغرب بصدد إحداث قطيعة مع الفضاء العربي و الاسلامي، خصوصا وأننا لاحظنا غيابات على مستوى عالي في قمم عربية واسلامية، وتفضيل القرب من شعوب ودول القارة الأفريقية، أم هي مسألة عودة عادية وطبيعية يفرضها الواقع إلى مسير تاريخي كان أحد مصادر الثروة والقوة المغربية وإشعاعها؟
ماذا يعني بالنسبة لمغرب اليوم النجاح الاقتصادي، هل هو تحقيق قيمة مادية مضافة اقتصاديا، فقط أم هو رغبة في الدخول إلى شرايين القوى العالمية والتأثير التدريجي في القرارات العالمية والقارية بما في ذلك القرار الرياضي؟ ماذا تعني المنافسة بالنسبة للمغرب، هل هي التنافس مع متتافس تقليدي أو مع جار جغرافي ضعيف وفاشل وهش أم هي الإنجاز بشكل أسرع من الدول من نفس الحجم والطموح؟ ما هي مؤشرات ونتائج البراغماتية المعلنة في السياسات الخارجية المغربية وإدارة التناقضات الدولية؟ ما علاقة الاقتصاد المغربي باقتصاد السوق النيوليبرالي المالي المعولم الذي أصبح يحكم القرارات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية الكبرى في العالم، وما هي الاختلالات التي ينبغي تفاديها في هذه العلاقة، وهل التفكير في خطط للاقتصاد الاجتماعي مثلا مضمون النتائج؟ ما هو مفهوم المعرفة عند الدولة المغربية وكيف يمكن خلق تراكم معرفي وعلمي يساهم في الرقي؟ ما هي تحولات منظومة حقوق الإنسان في العالم لاسيما في الغرب خصوصا في سياق حرب غزة وهل هي نموذج أمثل للتحجج به داخليا؟ ما هي المشاكل البيئية والمناخية والصحية الجديدة وما تأثيرها على المجتمع المغربي وما هي الضرورات التي تفرضها والسياسات التي تنتج عنها وما هي خطورتها على مفهوم السيادة الوطنية؟ هل ما زالت لغة الستينات وسنوات الرصاص تستقيم مع الواقع الجديد خصوصا تلك المتعلقة بوصف الدولة بالمخزن القمعي السلطوي المتحكم أم أنها لغة لن تزيد سوى بعدا عن الواقع وعن الحوار والتفاوض؟ ما هي التحولات السوسيو ثقافية التي تحدث على مستوى البنية الأمنية ودورها كحلقة في صناعة قوة خارجية مؤثرة اقتصاديا بشكل أساسي؟
قد تكون بحاجة ملحة إلى باراديغم جديد لفهم المغرب، وربما لفهم عدد من الأنظمة العربية حاليا والتي عرفت تحولات بنفس براغماتي غير مسبوق، منها مصر والسعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، التي أصبح قادتها يفكرون بشكل مختلف عن حكام الماضي، وقد يكون هذا الباراديغم مؤسس على مفاهيم جديدة. من بين مشاريع المفاهيم هاته: القدرة على خلق التوازن وبأي كيفية، مفهوم وضرورة التعاون الداخلي و الخارجي والتضامن، مفهوم الزمن والأمد الاصلاحي ومراحله وربطه بالاشتغال أكثر لحماية الأجيال الشابة الحالية والمقبلة، مفهوم السرعة في الانجاز لضبط التحولات ولتفادي الاصطدامات الداخلية والخارجية، مفهوم القيم وعلاقتها بالقانون، مفهوم التنوع الثقافي وعلاقته بالجهوية المتقدمة، مفهوم حقوق الانسان وتحولاتها وكيفية توازنها مع سلطة الدولة، البعد التاريخي في قراءة موقع المغرب، كيفيات ممارسة النقد ومعاينة الاختلالات، التفكير المستقبلي، خلق الرغبة والطموح في التعلم و التفاهم والتفاوض وغيرها من الأفكار التي قد يتناولها آخرون بشكل أعمق، بغية تغيير أساليب التفكير الحالية التي في نظري لن تنتج سوى مزيد من السلبية والكسل.
وكما قال السابقون أن تغيير نمط التفكير غير النافع، لا يتأتى بالاستمرار في محاربة الواقع الشاخص أمامنا بأدوات قديمة غير مثمرة، بل عبر إعادة بناء نماذج تفكير جديدة تساهم في التطور، لأن ما نعيشه حاليا من واقع عالمي معقد جدا يقتضي بل ويفرض التفكير الجماعي في صناعة الرؤية الأخرى المفيدة للحاضر والمستقبل.
*باحث في علم الاجتماع
تعليقات الزوار ( 0 )