Share
  • Link copied

ترجمة.. مافيزولي وحصة الشيطان في الشر المحتوم وتجلياته

د. رشيد بن بيه*

صدر كتاب مافيزولي حصة الشيطان: في الشر المحتوم وتجلياته، من ترجمة الأنثربولوجي المغربي عبد الله زارو، وهي ترجمة تحافظ على وهج لغة مافيزولي، ونَفَسِهِ التحليلي، وتتوسل بأدق العبارات لتوصيل عمق ومضامين سوسيولوجيا المجتمعات ما بعد الحداثية، التي يشتغل عليها مافيزولي منذ عقود، ويستأنفها في هذا الكتاب، مُواصلا النظر في جوانب غَيَّبتها الحداثة أو بَتَرتها.

وبالنظر لأهمية أعمال هذا السوسيولوجي الفرنسي، وتفرُّد أعماله، وتميز تصوره لعلم الاجتماع، مقارنة بما هو سائد في فرنسا، يشتغل الأنثربولوجي المغربي عبد الله زارو منذ سنوات – وهو بالمناسبة طالب سابق لمافيزولي سنوات الثمانينيات في جامعة السوربون- على ترجمة أعماله إلى العربية لجمهور واسع من القراء، الذين سيجدون في هذا الكتاب، بالإضافة إلى الأفكار الأصيلة، وزوايا النظر المُستجدَّة، ترجمة صائبة لمفاهيم استعصت على باقي المترجمين إلى العربية من قبيل الأنسية. (La socialité) وغيرها..

يستعيد ما فيزولي في هذا العمل حصة الشر والعتمة في الإنسان، التي حاولت أغلب الأديان – خاصة التوحيدية – والفلسفات والنظريات استبعادها، ووضع تصورات للتخلص منها؛ نجمت عنها حروب وصراعات دموية، ويدافع في مقابل ذلك على أن الشر لا فكاك منه، كما يقترح على مجال البحث ابستمولوجيا الشر، تأخذ في الحسبان استحالة التخلص من الشر بإعمال العقل؛ لأن النظريات، رغم ما تدعيه من حياد وموضوعية، ملوثة بالأخلاق لكونها تبشر بتحرير الإنسان من الشر، وإضاءة عتمة المجتمع.

وبطريقة كهذه يكشف مافيزولي للقراء قصور الحداثة، وفشل العقل في التخلص من الشر، وتَوفُّق بعض الفلسفات الدينية والنزعات الصوفية القديمة في تقديم تصور للحياة لا يُقصي حصة العتمة، وإنما يعمل على ترويضها بواسطة الطقوس، فـ “عبادة ميثرا، التي يقدمها مافيزولي، ضمن أمثلة أخرى على ذلك، “تقوم قائمتها، بحسب المتخصصين، على خصلة الإخلاص للوجود كله دون استثناء أي مكون من مكوناته بِما فيها المعتمة والشديدة الظلمة”.

يترتب عن الاعتراف بحصة الشر في الإنسان تغيير وقلب مستمر لتراتبية المعارف التي أرستها الحداثة، ومنها التراتبية الشهيرة لأوغيست كونت التي اعتقد بموجبها أن الفكر البشري يَمُرُّ من المرحلة الدينية إلى الميتافيزيقية ليصل منتهاه في المرحلة الوضعية، ويعمق جرح الأنا الحداثية بإعلانه أن القديم هو ما بعد الحداثي، لأن هذا القديم الذي نبذته الحداثة، يُقَدم تصورا مقبولا للحياة، كما يتمثل ذلك في التصوف، والأسطورة لكونهما أخذا بعين الاعتبار حصة الشيطان في الإنسان، ويتقاطعان، في ذلك، من عدة جوانب، مع التصور ما بعد الحداثي الذي يعترف بشرور البشر، ومناطق العتمة.

وعلى غرار فرويد، الذي بيَّن أن اللاشعور هو محرك الوعي، والحياة “العقلية”، ونيتشه الذي استعاد الوهم بعد إقصاء الحداثة له من مسرح الحياة، يوضح مافيزولي في مختلف فصول هذا الكتاب أن حصة الشيطان والشر في الإنسان هي الفاعل في ديناميات المجتمعات. فالشر يمارس قسطه من التأثير في العالم وحيوات بني البشر، وإن نكرانه هو المسؤول على الدمار الذي يلحق العالم، فباسم الأخلاق أريقت الدماء، وقدِّمت الدروس في ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان، ولا فكاك من هذه الوضعية، في نظر مافيزولي، “إلا بالإقرار بحصة الشيطان في الانسان، وفي كل شيء”، وبالتالي فـ”ليس لنا من خيار آخر غير حُسن استعمالها وتدبيرها وتصريفها، وهو ما عملت به، من ذي قبل، حسب مافيزولي، ابستمولوجيا الشر، فهي “صنف من المعرفة الباطنية المُستبطنة التي هي نصيب عامة الناس”؛ تتميز برصد ووصف دقيق “للقوى العميقة التي تحرك الفرد والجماعة، وتأخذ بعين الاعتبار الشر، وتبتعد “عن طموح “الأنواري” المهووس بأسطورة الإنسان الكامل.

إن الاقرار بحصة الشر، يترتب عنه تقبل التناقضات التي ترفضها الحداثة، إذ يدافع مافيزولي عن وحدة الحياة بتناقضاتها، قائلا “إن القبول بالظل، تقبّله، والذي ليس سوى القبول وتقبل الحياة نفسها مع ما يكتنفها من إزدواجيات، هو السبيل السالك نحو اكتشاف ما يزخر به الوجود من جوانب فريدة ومتفردة، أي من جوانب ألماسية (من جوهرة الماس)”.

ولم يكن مافيزولي في أبحاثه مجرد مُدَّع لأمور كهذه، بل يجسدها في كتاباته، ومنها هذا الكتاب، إذ لا يبني تحليلاته على ما ينتجه “العقل الفلسفي”، بل يحيل في ما يصف ويحلل على من يعتبرهم الحداثيون، والسوسيولوجيون الوضعانيون “لاعقلانين”، ومنتجين “للسوسيولوجيا العفوية”، وغارقين في “الحس المشترك”، والأساطير الدينية من جماعات فنية وصوفية.

ويفرض الإقرار بحصة العتمة في الإنسان كذلك، تجديدا ابستمولوجيا لأن النظريات، رغم ما تدعيه من حياد، مُغرقة في النزعة الأخلاقية. فعبر سعيها الحثيت إلى المساهمة في تطوير الوضع البشري، كما تقول بذلك عبارة دوركايم الشهيرة الواردة في كتاب تقسيم العمل الاجتماعي، من كون “أبحاثنا لا تستحق ساعة جهد إن كانت تهدف تحقيق غايات محظ نظرية”، وإنما لابد لها من ايجاد حلول للمشاكل المطروحة، تكشف هذه النظريات عن نزعتها الدينية، المبشِّرة بالوصول إلى الخير والإنسان الكامل، وهي نظريات لا خلاص لها من أزمتها، ومأزقها الذي تكشف عنه تطبيقاتها، إلا بالقبول بحصة العتمة في كل شيء.تُدَرب قراءة حصة الشيطان: في الشر المحتوم وتجلياته، القارئ على الحياد القيمي لأن مافيزولي لا يبث الأحكام الضمنية أثناء مقاربة ظاهرة الشر، ولا تدعو قراءة أعماله إلى استنتاج حكم أخلاقي، ففي كل ما كتب يتساوى الخير والشر، والقبيح والجميل…

وعلى خلاف الكتابات التي تخترقها نزعة أخلاقية ضمنية، تجعل القارئ يستنتج ما ينبغي السير على هداه، وحده دون غيره، ينطلق مافيزولي مما تعتبره الحداثة “مثنيات وانكماشات وإلتواءات”، ليبين أنها جزء من هذا الواقع، وليس مجرد تشوه له، أو شذوذا عنه أو خرقا للقاعدة.يستعيد ما فيزولي في هذا الكتاب ذي الأهمية البالغة معنى الحياة باعتبار هذه الأخيرة جماع خير وشر، ويعتبر أن هذا “الشر” الذي طالما عُبِّر عنه بالأزمة، يعد عاملا “من عوامل الانبعاث وشرطه اللازب”، وليس مجرد تشوهات ونتوءات يجب تسويتها أو التخلص منها، ومن تم يزعزع قناعات المدافعين عن المؤسسات الاجتماعية، والمُعَولين عليها للوصول بالإنسان إلى مراتب الكمال، لأن فشل هذه المؤسسات يعود إلى تصورها المبتور للإنسان، وإيمانها بأسطورة “الفرد الكامل” ومقاربتها غير الواقعية للإنسان، الذي ما فتئت، رغم كل إخفاقاتها، تعتبره قادرا على الوصول إلى درجات الكمال.

وعلى خلاف ذلك، يرى مافيزولي أن “قبول الشر وتقبّله، بأوجهه الوافرة، سيجعلنا أكثر رغبة في العيش، وسيضخ حياتنا بأقساط معتبرة من الفرح والابتهاج”.”وبما أن ما فيزولي واعِ بجدة وأصالة تحليلاته، وهو المُوَاجه، لوحده، منذ مدة، كهنة السوسيولوجيا الكلاسيكية الراسخة في فرنسا وأوروبا، فإنه يعيد التذكير بمنطلقاته المنهجية، ومنها، تحديدا، تبنِّيه للفهم (La compréhension) على غرار ماكس فيبر، وجورج زيميل… ضدا على كل مقاربة وضعية للاجتماعي، فالمعنى السوسيولوجي للفهم، حسب مافيزولي هو التفهم، أي استحضار مسوغات الفعل والتماس الأعذار للحادث، أيا كان هذا الحادث، كما أنه يتجنب نزوعات النقد، إذ النقد في نظره “ليس قدرا مقدرا على التحليل أكان سوسيولوجيا أو غيره، ولن يكون أبدا شرطا لازبا لتحليل جيد!”، كما يريد أن يفرض ذلك توجه سوسيولوجي تسكنه إرادة المعرفة والهيمنة.

لن يجد المتعود على قراءة الأعمال السوسيولوجية الوَضعية في هذا الكتاب خطابا حول الميتامنهج، والمنهجية، والعينة، وتقنيات البحث وإطاره الزمكاني، إذ لايمكن إنجاز سوسيولوجيا مابعد الحداثة بتقنيات موروثة من عصر الحداثة الآئل للأفول، فمافيزولي ينطلق من رصد مسالك للبحث، تُعبِّر عن الوحدة والتعدد، وتخترق كل الفضاءات، وتتأبّى على التقسيمات بين الشرق والغرب، والفن، والعمل، والقديم والحديث… وتنتصر للمعرفة العادية، والحس المشترك، والفن، والقابالا اليهودية (التصوف العبراني)… ويعيد الاعتبار لرؤية البصيرة، وذلك على خلاف من يسجن نفسه في خطاطات بحث مرسومة بعناية، لا تستوعب تحولات الواقع في كليته.

وسيصدم القارى الحداثي أكثر عندما يكتشف أن فهم المجتمع من خلال الأسطورة يُسعف على كشف التحولات الاجتماعية الناهدة التي يظهر أن لا شيء يجمع بينها أكثر من تفسيره اعتمادا نظريات ومقاربات حداثية، فمقابل برومثيوس الذي يُعبر عن مجتمع الحداثة، يكشف ديونيزوس عن مخاض مجتمعات مابعد الحداثة، وفي هذ التوظيف رفض لكل نزعة تاريخانية تنظر إلى التاريخ نظرة خطية تقدمية.

وعلى خلاف التحليلات السوسيولوجية التي تجهد نفسها لتأويل الأحداث، بناءً على متغيرات، كمية وكيفية تأويلا، أشبه بتأويلات رجال الدين للنص المقدس، يقول مافيزولي بتواضع قل نظيره، إن ما يقوم به “اجتهاد لوضع أسس منظور فينومينولوجي (ظواهري) غاية ما ننتظره منه هو تقديم وبسط وعرض الحادث والموجود والماثل أمام الأعين والمعروض على الحواس”، مُعْرِضا بطريقة كهذه عن البحث في الخفي، واحتلال مكان الإله الصغير الذي يسكن الباحثين الحداثيين.هكذا يتتبع مافيزولي النوازع البرومثيوسية ويرصد دلالتها، وينطلق من منطقة إلى أخرى دون تقديم تبريرات حول اختيار هذه المنطقة، كما هو معتاد في باقي الدراسات السوسيولوجية الوضعية، إذ يستقي أمثلة دالة من الهند وأوروبا واليابان… وينتبه إلى قضايا لا تستوعبها خطاطات البحث الإمبريقي من قبيل التقنيات الجثمانية التقليدية التي عاد إليها الروح، والإقبال الكبير على الطب التقليدي الناعم وبأنواعه، والعلاج بالأعشاب، والتقنيات الشرقية الدوائية، والوخز، معادلا بذلك بين ثقافات من مناطق جغرافية متعددة.

ففي كتاب حصة الشر يرصد ما فيزولي مسلكيات دالة لاتستوعبها أدوات البحث الإمبريقي الموروثة عن الحداثة، ويبني انطلاقا منها الفهم؛ وهي مسلكيات من قبيل المقاطعة، والعزوف عن التسجيل في اللوائح الانتخابية، وأشكال اللامبالاة، وعودة الاهتمام بالحسي والمحسوس.في وصف مافيزولي لمسالك إشتغال حصة الشر في الإنسان، مُساءلة عميقة لأسطورة الإنسان القادر على وصول مراتب الكمال، المتحدرة من عصر الأنوار، وكشف لفشل العقل في التخلص من الشر، ومراجعة للنظرة الخطية للتاريخ، والنزعة التاريخانية، وتحطيم لكبرياء “الإنسان الحداثي”، الذي أنتج تصورا مبتورا عن الحياة، متخلفا عن نظيره لدى بعض الديانات القديمة التي أخذت على الدوام مقدار الشر في الإنسان، وحولته إلى فرجة وطقوس.

*باحث سوسيولوجي

Share
  • Link copied
المقال التالي