يشير ريمي لوفو Rémy Leveau في مؤلفه المعروف “الفلاح المدافع عن العرش” إلى أنه “منذ بضع سنوات، سرعت مجموعة من المعطيات من وثيرة التحولات، والتي من أهم تجلياتها التضخم وتزايد أعداد كادحي المراكز الكبرى والمدن المتوسطة، وفي غياب تأطير وإدماج هذه الجحافل العريضة، أصبحت العلاقات المجتمعية تسير بطريقة بدائية وترتكز على تعاقب اللامبالاة والعنف، والتي يمكن أن تضعف مشروعية الدولة وإعطاء إشارة مفادها تخوف بعض المحظوظين على مستقبلهم”. وتأسيساً على هذا الاستنتاج، يمكن الجزم بأن السياسات المتبعة لتأهيل المدن المغربية طيلة فترة الاستقلال إلى الآن، لم تعطي نتائج مشجعة، سيما في ظل استمرار الانتقائية في التعامل مع الفضاءات المدينية. فماهي العوامل التي أزمت أوضاع المدينة المغربية؟ وماهي أهم تجليات هذه الأزمة؟
1- واقع سياسة تدبير المجال الحضري
إن استمرار هذا التمايز الذي من سماته تفاقم ظواهر الفقر والأمراض الاجتماعية في الاحياء الهامشية ودور الصفيح، وتركز مظاهر الترف والغنى في أحياء الميسورين، إلى درجة أصبحت ساكنة المدن تشعر بنوع من القطيعة بين مجالين ينتميان للجسم المديني نفسه.
ورغم الجهود المبذولة من قبل السلطات العمومية لتدارك هذا الوضع، نجد أن التحول الحضري تسارع بشكل عميق، بحيث تعمق الاختلال البنيوي والوظيفي، الأفقي والعمودي للمدن والمراكز الحضرية، وبالتالي نزعت المشاكل والإكراهات المتولدة عن ذلك نحو مزيد من التفاقم، مهددة بالإخلال بالتوازنات المطلوبة في وقت كبُر فيه الرهان على المدن لقيادة عملية التنمية الترابية المحلية، الجهوية والوطنية.
لكن هذا المنظور المتشائم نسبياً، يجب ألا ينسينا التأكيد على أن العديد من المبادرات التي اتخذتها الدولة لمحاولة الرقي بأوضاع الوسط الحضري وتأهيله والتقليل من مشاكله. فعلى سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى سياسة إعداد التراب الوطني والميثاق الوطني للتربية والتكوين، وسياسة وحدة المدينة، والمقاربة الاستراتيجية للتنمية الحضرية، والمصادقة على أجندة القرن 21، المخطط الجماعي للتنمية و الذي أصبح يسمى في إطار القوانين التنظيمة الحالية بمخطط عمل الجماعة، برنامج مدن بدون صفيح، ومشروع 200000 سكن…إضافة إلى خلق مجموعة من المؤسسات التي تسير في المنحى نفسه.
إلا أن هذه السياسات جميعها لا زالت تعاني من العوائق التالية:
- أنها غالبا ما كانت سياسات قطاعية معزولة تمليها ظرفية الأنعاش، وليست سياسات بنيوية للتأهيل المستدام.
- تعدد المتدخلين واختلاف الرؤى والتصورات.
- غياب التنسيق بين أشكال التدخل والخطط المعلنة والبرامج المنجزة.
- طغيان النظرة المركزية على مختلف أشكال التدخل.
- صعوبة التوافق حول الإطار الترابي الأمثل للاشتغال وإنجاز البرامج.
- تعدد الأجهزة وتنوع الترسانة القانونية التي تنظم كل هيئة متدخلة.
- تعدد مصادر التمويل وتقاطع الاختصاصات.
وهكذا، لم تستطع السياسة الحضرية المتبعة بالمغرب على امتداد قرن من الزمن من بلورة استراتيجية واضحة المعالم والأهداف، سواء على المدى المتوسط أوالبعيد. فتأرجح قطاعي التعمير والإسكان بين العديد من الوزارات منذ الاستقلال إلى اليوم، أفقده الفعالية والنجاعة بسبب تعدد الدراسات والمقاربات والآليات والأسبقيات، التي كانت تطرح نفسها كحلول مرحلية تستجيب لظرفية خاصة. فمدن اليوم عبارة عن منظومات عمرانية واقتصادية واجتماعية وسياسية متداخلة ومتفاعلة، ومختلف تحدياتها سواء الآنية والمستقبلية تحتاج إلى مقاربة شمولية قوامها النجاعة والواقعية، لأن انتظارات مختلف شرائح المجتمع عديدة والإمكانيات محدودة، والرهان على الوعود لم يعد ممكناً بسبب الحراك الاجتماعي الذي أصبح مطلبه الوحيد هو العدالة والإنصاف ومحاربة كل أشكال التهميش والإقصاء.
2- سياسة المدينة: نحو مقاربة جديدة لتدبير التنمية الحضرية
كل ما ذكر أعلاه من اختلالات والتي مست الجسم الحضري في جميع مكوناته الديمغرافية والعمرانية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية والبيئية…دفعت بالدولة إلى تبني مقاربة جديدة لتدبير الشأن المحلي بالمدن، تمثلت في”سياسة المدينة”، تلك التي جاءت لتجاوز السياسات القبلية، متركزة أكثر على البعد الإنسي، وذلك من خلال تسليط الضوء على كل ما يتعلق بتحقيق رغبات وتطلعات وانتظارات ساكنة المدن، التي تعاني من مظاهر الإقصاء، بعيداً كل البعد عن المقاربة الأمنية والتسيير الممركز.
والذي ينحو إلى مقاربة جديدة تتعلق بسياسة المدينة لمواجهة اختلالات المجال الحضري، التي تبعث في الغالب على القلق وعدم الاستقرار، وهو الأمر الذي أثار اهتمامي بالإنخراط في مناقشة مستجدات هذا الورش الوطني وإبراز معالمه الجديدة، بغية تقريب الرؤى وكذا محاولة بلورة إطار تفسيري أكثر شمولية يتناول جوانب عدة.
من المعلوم أن موضوع تدبير التنمية بالمجال الحضري هو موضوع الساعة بامتياز ويحتاج إلى بلورة إطار تفسيري أكثر شمولية يتناول جوانب عدة، وبالتالي فهذا المقال يشكل مدخلا فقط لطرح نقاش واسع حول المقاربة الجديدة لسياسة المدينة، والتي تحيل على تصور جديد في المنهج وإجراءات في التدبير. إنه موضوع يستدعي وقفة أكاديمية وعلمية عميقة، لتقييم حصيلة وآفاق التنمية بالمجال الحضري، لأن له راهنية وجدوى تستحق الاهتمام والتتبع العلمي.
فإلى أي حد يمكن أن تشكل السياسة الجديدة للمدينة مدخلاً فعالاً لتنمية المدن لجعلها فضاءات جاذبة وقادرة على امتصاص الفوارق الاجتماعية عبر خلق الثروة وجلب فرص الشغل ؟
للإجابة عن الإشكالية المطروحة أعلاه، نقدم فرضيتين أساسيتين الغاية منها تفسير أسباب الاختلالات الكبرى التي تحول دون تحقيق التنمية الحضرية المنشودة، كما يمكن الاستناد عليها قصد استشراف آفاق تدبير المجال الحضري على ضوء المنظور الجديد لسياسة المدينة، من حيث دواعي تبنيه وحيثيات تداوله وتنزيله على أرض الواقع، وذلك كما يلي:
الفرضية الأولى: غياب رؤيا مندمجة لتدبير التنمية بالمجال الحضري، بحيث لازال يخضع هذا التدبير لمنطق قطاعي وأمني على حساب المقاربة التنموية، مما جعل هذا المجال يفتقد إلى تدبير يوجهه منظور استراتيجي ويعاني من عوائق ناجمة عن تعدد المتدخلين وتعدد المخططات والاستراتيجيات في جو يطبعه غياب التنسيق و تداخل في الاختصاصات. لذا، فإن تدبير التنمية الحضرية يتطلب اليوم بلورة مقاربة تشاركية تتجاوز الإطار الضيق للتدخل القطاعي والأمني نحو بناء سياسة حضرية مندمجة ومتكاملة.
الفرضية الثانية: ما يزال مشروع سياسة المدينة على الصعيد الوطني في مراحله الجنينية، ويبقى تبنيه في غياب إطار تشريعي وقانوني وبرامج محددة ومشاريع على أرض الواقع من قبيل التنظير للشيء. فهذه السياسة هي مستوحاة من التجربة الفرنسية، وشروط تطور المدينة الأوروبية ليست هي الشروط نفسها لإفراز المدينة المغربية. لذا، فإن نجاح هذه السياسة حسب هذه الفرضية، رهين بمراعاة الاختلافات على مستوى الوضع الإقتصادي والخصوصيات المجتمعية والاختلاف الحاصل في مراحل تطور كل مجال حضري على حدة.
خلاصة القول إن مقاربة وضعية تدبير المدن بالمغرب يحتاج إلى تتبع الصيرورة التاريخية لمنطق تدبير وإدارة المدن وكذا مختلف االصيغ المفاهيمية والأدوات العملية التي أطرت سياسة تدبير المجال الحضري على مدى قرن من الزمن قبل تبني مفهوم سياسة المدينة رسمياً مع مطلع سنة 2012، وذلك لفهم واقع ومحددات تدبير المجال الحضري.
طالب باحث بجامعة محمد الخامس بالرباط، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية-أكدال
تعليقات الزوار ( 0 )