يُعتبر اتفاق ابراهام، اختراقاً جديداً للأمن والهُويّة العربيّة معاً، ورغم أنّ هذا الاتفاق لم يكن مُفاجِئاً أو بادِئة علاقاتٍ واسعةٍ بين الطرفين، إلّا أنّ مجرد الإعلان عنه، سيَخلِق أمام العالم العربيّ الكثير من المتغيّرات التي ستؤثّر سلباً في هُويّته وأمنه، وبشكلٍ مضطرد.
بدايةً دعونا نُحدّد أُطر مقاربة القضية الفلسطينية، لنُدرك حجم التداعيات ومستوياتها، فلا يكفي أبداً الركون إلى ما يُساق من حججٍ مُتفرّقةٍ مجتزأة، جاهلةٍ بالتاريخ، أو سياق مناكفاتٍ سياسيةٍ باتت سائدةً في المشهد العربي عموماً، والخليجي خصوصاً، أو عملياتٍ تهديميّةٍ تشتغل عليها بعض الأطراف العربيّة، بُغية تفكيك العالم العربي على المستويات كافّة، وإعادة إنتاجه بشكلٍ يناسب تلك الأطراف.
المحور الأول: مقاربات القضية الفلسطينية
علينا في البداية أن نُحدّد خمس مقارباتٍ للقضية الفلسطينية، يمكن إضافة مقارباتٍ أخرى لها:
المقاربة الأولى – المقاربة الإنسانية: وهنا نشير إلى أنّ القضية الفلسطينيّة قضيةٌ إنسانيةٌ عالمية، منذ قرنٍ من الزمن، وذلك على عدّة أصعدة، حيث تشهد القضية منذ قيام عصابات الهاجانا الأولى وطلائع المحتلين حتى اليوم، انتهاكاً فاضحاً ومستمرّاً لمواثيق حقوق الإنسان كافة والمواثيق الدوليّة والأمميّة، بما فيها الاغتيالات المستمرة والمجازر واستهداف المدنيّين، والتغيير الديموغرافي والتهجير القسري، والاعتقالات التعسّفية، والحصار الجائر المستمر، ومصادرة الأملاك، وتدمير البيئة الحضارية الأثرية والمعاصِرة، وتغيير الطابع القومي والديني للمنطقة، ومنع الاتصال بين الفلسطينيين، والاعتداء على الكرامات، وتدمير المرافق الصحية والمدارس ودور العبادة.
جميع ما ذكر، وسواه الكثير، يدخل في إطار جرائم الحرب والجرائم ضدّ الإنسانية، في وقتٍ لا يمكن فيه تجزئة القضايا الإنسانية، فالإنسانية بمعناها الواسع، كلٌّ لا يتجزأ، والانحياز إلى المجرم هو فعلٌ مناقضٌ تماماً للإنسانية، بل ويُخرِج منه، وعليه لا يمكن تصوّر الدفاع عن قضيةٍ إنسانيةٍ في منطقة، والوقوف ضدّ أخرى في منطقةٍ ثانية. وعليه يكون اتفاق ابراهام، انحيازاً إماراتياً إلى المجرم الإسرائيليّ، وتأييداً له في عمليات إبادة شعبٍ بأكمله. صحيح أنّ الإماراتيين غير معنيّين بذلك، وخصوصاً بعد تورطهم في كثير من انتهاكات حقوق الإنسان في عدة مناطق عربية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، لكنهم هنا يروّجون لنهجٍ مختلف على أصعدةٍ أخرى، سنذكرها لاحقاً.
المقاربة الثانية – المقاربة السياسية: حيث تدفع أطرافٌ خليجيةٌ عدّة، في تبريرها الاندفاع الخليجي العام نحو إسرائيل، بثلاث مقارباتٍ سياسية:
– الأولى: وهي أنّ منظّمة التحرير الفلسطينية قد عقدت اتفاقاً مع إسرائيل منذ عام 1991 (اتفاق مدريد)، وأنّ السلطة نفسها هي نتاج اتفاق أوسلو 1993. وهو ما يعني أنّ أصحاب القضية الرئيسين قاموا بتصفيتها، ولم يعد هناك من مبررٍ للاستمرار في حالة “العداء” مع إسرائيل. وبغضّ النظر عن المقاربات الإنسانية والهُويَّتية، فلسنا بصدد الدفاع عن السلطة الفلسطينية، ولكننا هنا، نبيّن أن السياق السلطوي في فلسطين لا يخرج عن النسق العام للسياقات السلطوية العربية، التي تشهد فساداً وتسلطاً ومواجهةً مستمرةً مع الشعوب العربية منذ عام 2011، ولا يمكن الاحتجاج بسلوك سلطةٍ غير حائزةٍ على شرعية حقيقية، بل شرعية مؤقتة. عدا عن أنّ اتفاق أوسلو ليس اتفاقاً نهائياً، بل كان إطار عملٍ لم تلتزم به إسرائيل، قام على تصفية كثيرٍ من القضية الفلسطينيّة، بل وكان في أحد أوجهه، نتيجةً لإخفاق الحكومات العربية – لقرابة نصف قرن – في إيجاد حلولٍ للقضية الفلسطينية، وأتى في سياق التخلي عن القضية بعد حرب الخليج الثانية، فالمسؤولية هنا مسؤوليةٌ جماعيةٌ أولاً، وقضية شرعيةٍ ثانياً، عدا عن أنّ السلطة نفسها لم تتنازل عن الحقوق الفلسطينية الرئيسة: القدس، الحدود، اللاجئين.
– الثانية: وهي تأتي في إطار المناكفات السياسية التي باتت سائدة كنهجٍ سياسيٍ في العالم العربي، وهنا الحديث عمّا يجري من استقطابٍ واستقطابٍ مُضادّ، بين الفصائل الفلسطينية المُسمّاة “فصائل المقاومة” وبعض الدول العربية، باندفاعها نحو إيران دون ضوابط، رغم ما ترتكبه إيران من جرائم بحق الإنسانية في عموم المنطقة، تعيد من خلالها تشكيل المنطقة وتُحدِث إباداتٍ جماعيةً على النمط الإسرائيلي، بل أشدّ وطأةً منها بكثير. هذا الانحياز نحو إيران مناكفةً في خصومها، دفع خصوم إيران إلى الانحياز إلى إسرائيل باعتبارها العدو لتلك الفصائل والدول، وتمّ استقطاب الطرفين بحدّة، بين “عربٍ موالين لإيران” و”عربٍ موالين لإسرائيل”، وهنا ستبدأ عملية تفكيكٍ حادّةٍ للهوية العربية، لتُعيد العرب إلى حالة تبعيةٍ للقوى الإقليمية/الخارجية، مع غياب استقلاليّة الكيان الهُويتي، كما كان سائداً قبل صعود العرب (قبل الإسلام). وهنا يبدو أنّ الطرفين يُقارِبان المسألة مقاربةً انفعالية غير عقلانية، تودي بنا جميعاً إلى مزيد من الانهيار.
– أما الثالثة، فهي القول بأن مصر والأردن قد وقّعتا اتفاقيتي سلام مع إسرائيل (1979، 1994)، وأن عملية السلام مع إسرائيل مفتوحةٌ منذ أن أخفق العرب في مواجهة إسرائيل. ولا يتّسع الوقت للوقوف على هذه أيضاً، لكننا نُقرّ بأنّ هاتين العمليتين كانتا المسبب الأبرز فيما سيُبنى عليهما لاحقاً، مع التنبيه بأنّهما لم تَخلِقا نمط تطبيعٍ شعبيٍّ كما نلحظ في الاندفاعة الشعبية الإماراتية خاصة، والخليجية عموماً.
المقاربة الثالثة – المقاربة الاقتصادية: وهنا يرى أصحابها، أنّ التطبيع والانفتاح على إسرائيل سيُقدِّم للعالم العربي، أو للدول التي تندفع نحو التطبيع، فوائد اقتصاديةً جمّة، ترفع من مستوى الرفاه العربي. وهي مقاربةٌ تحتاج إلى محورٍ اقتصاديٍّ لنشرح حجم الضعف فيها، لكنّنا سريعاً نشير إلى أنّ حجم الثروات واليد العاملة والسوق العربية، أكبر بمئات المرّات مما لدى إسرائيل، لكن المشكلة هي الإخفاق الإداري والحكومي تحديداً، وعدم التوظيف الصحيح لهذه المقدرات، ما يجعل العرب هم المتفوّقون “نظرياً”، مجرّد عمالةٍ ومناطق زراعيةٍ أو أموالٍ تزوّد الاقتصاد الإسرائيلي باندفاعة هو بأمسّ الحاجة إليها. فالمقاربة الاقتصادية، هي على هذه الشاكلة في صالح إسرائيل، والتفوّق الإسرائيلي القائم حالياً، هو نتيجة إخفاقٍ حكوميٍ عربيٍ يعود إلى أسباب عدّة، على رأسها الفساد وشكل أنظمة الحكم التسلطية والاستبدادية.
المقاربة الرابعة – المقاربة الأمنية: وفيها كثيرٌ من التفصيل الذي لا يتّسع له المجال، ويختصّ بتغلغل الموساد في عديدٍ من المجتمعات العربية، وجمع البيانات، والإضرار بالأمن القطري أو القومي.
المقاربة الخامسة – مقاربة البراديغم (الهوية).
المحور الثاني – الإطار التاريخي لتشكُّل مركزيّة القضية الفلسطينية
بالعودة إلى المقاربة الهُويتية، تُشكِّل القضية الفلسطينية، براديغماً بالغ الأهمية للهوية العربية والإسلامية، ونقصد به نموذجاً إدراكياً للهوية العربية والإسلامية، إلى جانب نماذج أخرى، لكن هذا النموذج/البراديغم أصبح البراديغم المركزي، على المستوى الهويتي/السياسي، أي النموذج المركزي لإدراك الهوية. وهنا يمكن أن نُفصّل المسألة إلى هُويّتين متكاملتين، هُويةٌ إسلاميةٌ أوسع، وأخرى عربية.
وهنا نحن بحاجة إلى عالم دينٍ حتى يتحدّث في المسألة دينياً، ليُفنّد ما يُطرح من تبريراتٍ فيها كثيرٌ من التجنّي على النصوص المُقدّسة (قرآن كريم وأحاديث نبوية)، سواءً فيما يخصّ العلاقة بين المسلمين واليهود، أو فيما يتعلّق بقضايا الصلح مع العدو، وهي قضايا واضحةٌ لكلّ طالب علمٍ ديني، لكن ما يجري هو تحويل الدين إلى كهنوت، بمعنى حصريّة الفهم بثلّةٍ صغيرةٍ يتم انتقاؤها سلطوياً، ووظيفتها تبرير السلوك السلطوي بعيداً عن المؤسّسات العلميّة الدينيّة، أو حتّى بفرض هذا الفهم على تلك المؤسّسات (بأدواتٍ سلطويّةٍ قمعية).
فلا يوجد نصٌّ يُجيز للمسلمين التخلّي عن أراضيهم للعدو، وفق معاهدة صلحٍ أو سلامٍ مؤقّتٍ أو هدنة، والنصوص التي يتمّ استخدامها في تبرير ذلك، هي نصوصٌ تختلف في حيثيّاتها، لناحية عدم وقوع أراضٍ للمسلمين تحت احتلال العدو، أو وقوع مسلمين تحت أسر العدو أو تحت اعتدائه أو ما شابه ذلك، ولا نودّ التبحّر هنا، فهو بحاجةٍ إلى محور خاص به.
أمّا على مستوى الهُوية العربية، وهو مقصد هذه الدراسة، فيمكن تسجيل النقاط التالية:
بدايةً، تشكّلت الهُوية العربية بِبُعدِها السياسي/القومي، ما بعد الحرب العالمية الثانية، نتيجة الانفكاك عن القوى الخارجية بتنوّعها (عثمانية، فرنسية، إنجليزية، إسبانية)، وإعادة تشكيل الجغرافيا في المنطقة، وهنا كان إدراك الذات عربياً، مرتبطاً باللغة والعرقية والجغرافيا، والمقدّسات الإسلامية، باعتبار العربي هو الحامل الاجتماعي للإسلام. مع ملاحظة أنّ الهوية العربية بِبُعديها الاجتماعي والديني هي أسبق من هذا التاريخ بكثير، في بِنيَان العقل العربي خصوصاً، والإسلامي عموماً.
صحيح أنّ الأحزاب الأيديولوجيّة القوميّة ساهمت في بلورة هذا الفهم السياسي، والإعلاء من شأنه، ليس فقط في سورية والعراق ومصر، بل على امتداد العالم العربي، لكنّ هذه البلورة أتت في سياقٍ عالميٍ أيديولوجيٍ قوميٍ أو اشتراكي. فحين حازت الدول العربية بالتوالي على استقلالها، كان التطلّع إلى بناء الأمة المُعبِّرة عن هذه الهوية، تطلّعاً توحيديّاً جغرافياً، بمعنى أنّ الأمة في الفهم الأوّل للهوية العربية، كانت أمّةً مُتّصِلةً جغرافياً وسُلطوياً، في وقتٍ كانت فيه فلسطين تحديداً، تحت احتلالٍ استيطانيٍّ يترسّخ أكثر فأكثر، مانعاً من قيام هذه الوحدة الجغرافية، ومُسبِّباً لكثيرٍ من التأجيل في عمليات التنمية العربيّة.
إذاً، عملية بناء الهُوية العربيّة، كانت مرتبطةً ببناء الأمّة نفسها، وجغرافياً بالذات، وهو ما خلق لدينا تياراً عربياً يؤمن بالوحدة، كسبيلٍ للنهوض. وتحوّلت القضية الفلسطينية هنا إلى قِبْلَةٍ أو قدس القومية أو براديغم أو المحور الذي تلتفّ حوله كلّ القضايا العربية التالية (النمو والتنمية، التخلص من التبعية، النهضة…).
وكانت إسرائيل “العدو” الذي يتمّ توحيد الجهود العربية للتصدّي لتوسّعه، ووجوده كعدو هو ضرورة؛ لتوحيد الالتفاف حول الهُوية، فلكلّ أمّةٍ عدوٌّ خاصٌّ بها، يتسبّب في حشد أبنائها، ويُعزِّز من عملية الانتماء والولاء لهذه الأمة، لذا نلحظ أنّه مع التغيرات التي طرأت في العالم العربي ما بعد حرب 1973، من اتفاق كامب ديفيد وحربٍ عراقية/إيرانية وحربٍ أهليةٍ في لبنان، لم تؤثّر جميعها في محوريّة القضية ومحورية العدو، بمعنى أنّها لم تقم بإزاحة هذه المحورية عن موقعها، وإن كان هناك انشغالاتٌ أخرى عبّأت الطاقات العربية.
الانخفاض الأول في أهمية القضية والعدو، وفي محوريتهما أتى بعد حرب الخليج الثانية، واتفاق أوسلو، أي بعد أن أُخرِج العراق من معادلات القوة العربية، وبعد أن فقدت دول المواجهة العربية، الداعم الدولي (الاتحاد السوفييتي)، وكان مطلوباً منها حتى يتمّ قبولها في النظام الدولي الجديد (الأمريكي)، هو أن تنساق في عملية تفكيك وإعادة بناء المفاهيم في المنطقة.
عملية استعراض التاريخ، لن تنتهي، لكنّنا نحاول من خلالها أن نوضّح الأسس التي قامت عليها القضية الفلسطينية باعتبارها براديغم مُتَّفقٌ حوله من العرب كافّة، حتى وقت قريب. لكن ما سيجري عقب ثورات الربيع العربي، هو الفعل الأهمّ في إزاحة المحورية عن القضية وعن العدو، حيث باتت الشعوب العربية، لكلٍّ منها، قضيّته المركزية، وهي قضيةٌ كبرى للشعوب الثائرة، حتى باتت قضية مصير الدولة والشعب، وقضية حياةٍ أو موتٍ فرديةٍ وجماعية، لذا كان لابدّ من الانزياح عن القضية المركزية تدريجياً، مع ازدياد وطأة القضية القُطرِية/المحلية، وبالتالي كان انزياح “العدو” نتيجةً حتميةً للانزياح الأول في المحورية/القضية.
المحور الثالث – سياقات الاندفاع نحو إسرائيل
منذ عام 2011، بدأت أصواتٌ تعلو أكثر فأكثر للتصالح مع إسرائيل في سياقات عدّة، منها:
– تقديراتٌ خاطئة، عن جهلٍ أو عن عَمد، ترى أنّ إسرائيل هي المُتحكِّم الرئيس في المشهد الإقليمي، بل والمُتحكِّم الوحيد وفق بعضهم، وانبنى على ذلك تطلّعاتٌ فرديةٌ أو مطامع شخصيّةٌ أو حزبية، بُغية الاشتغال كوكلاء جددٍ لإسرائيل في المنطقة، وفق هذا المنطق.
– بروز إيران كعدوٍ لشعوب المنطقة، يقوم على تدميرها وإبادة سكانها، ما جعلها العدو الأول للشعوب المنكوبة بها، نتيجة ما تقوم به إيران من فظاعاتٍ تجاوزت الفظاعات الإسرائيلية.
– ما ذكرناه سلفاً، من شيوع سياسة ردّ الفعل المتمثِّلة في المناكفة، بين عرب إيران وعرب إسرائيل، حيث ينحاز كلُّ طرفٍ منهم إلى خصم الآخر، لموازنة الانحيازات الأخرى.
– تحويل تركيا من خصمٍ سياسيٍّ إلى عدوٍّ من قِبَل بعض القوى الخليجيّة، وبذلك ستفقد إسرائيل مكانة العدو، بل وحتى إيران نفسها ستفقد شيئاً من ذلك، لصالح الانشغال الخليجي/المصري بتركيا.
– اشتغالٌ إسرائيليٌّ على دعم قوى تروّج للنموذج الإسرائيلي (البراديغم الإسرائيلي)، باعتباره نموذجاً تنموّياً قابلاً للتعميم في العالم العربي.
– اشتغالٌ خليجيٌّ سيظهر لاحقاً، يتجاوز الأطر السابقة، وهو اشتغالٌ تفكيكيٌّ غير قادرٍ/راغبٍ على إعادة البناء، بل تفكيكيٌّ تهديميٌّ لمفهوم الأمة والهُوية والأمن العربي.
هذا الاندفاع العربي نحو إسرائيل، كرّس قدرة القوى الإقليمية الأخرى (إيران وتركيا) لتستخدم القضية الفلسطينية لخدمة مصالحها. أي أنّ القضية قائمةٌ ومستمرّةٌ ولا يمكن لها أن تزول. ما جرى في المقابل، هو انسحابٌ عربيٌّ منها، ترك فراغاً استراتيجياً فيها، سمح للقوى الإقليمية أن تملأه، بل كان هذا الانسحاب بمثابة استدعاءٍ لقوى خارجيةٍ لتشتغل هي على القضية، التي تخلّى عنها العرب.
لذا اندفعت إيران إلى استخدام القضية كمنبرٍ يُفتّت الهُوية العربية الجامعة، إلى هُوياتٍ متفرقة، بعد إقناع جمهورٍ عربيٍ واسع، بأنّ إيران تدافع عن القضية (وبالتالي عن الأمة)، وساهمت في تحويل هذا الجمهور، إلى أعداٍء لعربٍ آخرين تمّ تصويرهم أعداءً للقضية (وبالتالي للأمة)، وهنا ترسّخ الحضور الإيراني منذ عام 2011، في عدّة مجتمعاتٍ أو جماعاتٍ عربية، نتيجة هذا الإخفاق/الانسحاب العربي، ونلحظ ظهور هُويةٍ شاذّةٍ غير متناسقة التركيب في البيئة العربية، تجمع بين التحفّز القومي العربي والتحالف مع عدوٍ شرسٍ للقومية العربية (إيران) والانحياز إلى أنظمةٍ ديكتاتورية بحجّة الاشتغال على تحرير فلسطين.
إذاً، محددات المقاربة هنا، واضحة:
– بيئةٌ شديدة الاضطراب على مستوى الهُوية العربية، وغير مستقرة.
– بيئةٌ استبدادية، تقمع شعوبها من جهة، وتوظِّف القضية لصالحها من جهةٍ ثانية.
– قوى إقليميةٌ تشتغل على تفكيك العالم العربي عبر المدخل الفلسطيني (باستخدام أدوات الميليشيات والتبشير المذهبي).
–قوى خليجيةٌ تشتغل على تفكيك العالم العربي عبر المدخل الفلسطيني (بالانحياز إلى إسرائيل).
– إشغالاتٌ قُطرِية/محليّةٌ تعاظمت بعد عام 2011.
والأهمّ من ذلك، غياب أو تغييب أو تراجع دور القوى الفاعلة التقليدية في المشهد العربي (العراق، سورية، مصر، مع تغييرٍ كبيرٍ في التوجّه السعودي)، ما فتح المجال واسعاً لبروز قوى جديدة، وهي قوى لا تمتلك مقوّمات الريادة التي تسمح لها بالتدخّل في المشهد الإقليمي أو فرض أجنداتها، لكن ما ساعدها في ذلك، فوائض ماليةٌ واسعةٌ مع وقوع فراغٍ في مستوى القوى الرائدة العربية.
قاربت تلك الدول الصغيرة، مسألة الهُوية والقومية والأمن، من منظورها الخاص، والذي يقوم على:
– المقاربة الجغرافية الطَرْفِية، بمعنى أنّها نظرت إلى هذه القضايا، من منظور دولٍ صغيرة الحجم وعدد السكان ذات موقعٍ جغرافيٍ ناءٍ وتاريخٍ قصير، وبالتالي لم تكن المقاربة هنا فكريّةً قائمةً على أسسٍ بقدر ما هي نفعيّةٌ تعكس هذه الطرفية.
– المقاربة في سياق الفوبيا/أمنية، بمعنى أنّ هذه الدول الطرفية، كانت قد اعتمد في سياساتها الخارجية على قاعدة الفوبيا (الخوف المفرط) من دول الجوار الكبرى، لذلك حاولت موازنته بإنشاء تحالفاتٍ مع كثيرٍ من القوى الإقليمية والدولية، لتقليل حدّة الفوبيا، وبالتالي قاربت القضية الفلسطينية بذات المنهج.
– المقاربة التفكيكية، وهي المقاربة الأكثر خطورة، حيث أنّ هذه القوى تحاول خلق مجالاتٍ جيوسياسية في العالم العربي، شبيهةٍ بها (دول صغيرة أو دول ضعيفة)، حتى تكون قادرةً على العمل والتأثير في هذه البيئة، ما يدفعها للتحالف مع قوى تشتغلُ بالأساس على تفكيك العالم العربي وتحويله إلى كياناتٍ صغيرةٍ أو ضعيفة، وهنا الحديث عن إيران وإسرائيل بالدرجة الأولى.
– المقاربة النفعية/البراغماتية، وهي مقاربة انفكاكيّةٌ عن المصالح العربية، ترمي إلى تعظيم المنافع الخاصّة بهذه الدول الصغيرة، بغضّ النظر عن تداعياتها على المحيط العربي.
جملةُ هذه المقاربات، تقودنا إلى أنّ أصحابها يشتغلون على إعادة إنتاج الوعي المجتمعي بالهّوية العربية، وهو اشتغالٌ كان غير مباشرٍ في السنوات القليلة الماضية، لكنّه بات أكثر وضوحاً، ويمكن لنا أن نُحدِّد أبرز ملامحه الظاهرة حتى الآن فيما يلي:
– تحطيم البراديغمات التي كانت سائدة طيلة قرنٍ مضى، وعلى رأسها براديغم القضية الفلسطينية.
– محاولة ترويج براديغمات خليجية، تقوم على فكرة المركز/المحيط، بمعنى خلق مستويين من العروبة، المستوى الأول يقع في الخليج وهو بمثابة القائد أو السيد أو الموّجه، والآخر هو العرب كافة خارج هذه الجغرافيا، بمثابة التابعين.
– أي أنّ هذا الاشتغال، يرمي إلى فكّ ارتباط الجغرافيا بالهُوية العربية، وحصر مفهوم الجغرافيا بأمن الخليج.
– نلحظ أنّ محاولة ترويج براديغمات جديدة، لم تلقَ شرعيةً في العالم العربي، على خلاف البراديغمات السابقة، فما يتمّ ترويجه لا علاقة له بالهُوية أولاً، ولا يمسّ قضايا المواطن العربي ثانياً، بقدر ما يروّج صورة الخليجي سيداً فقط. هذه البراديغم قائمٌ على ترويج نمط الرفاه والاستهلاك المفرط، وهنا تكمن الحاجة إلى تصفير العداء مع إسرائيل، وهي مُقدّمةٌ لتصفير العداء مع إيران لاحقاً، وجعل العدو هو كلُّ من يقف على الضدّ من “الرفاه والاستهلاك المفرط”، أي حركات التحرّر الشعبية العربية.
– وفي هذا السياق، سيكون المطلوب، إلحاق الحكومات العربية بهذا النمط، أو تفكيك من يرفض الالتحاق بذلك، ودعم قوى غير حكوميةٍ أو انفصاليةٍ أو انقلابية، توفّر محيطاً قانعاً للمركز الجديد.
– وبالتالي، ممنوع عودة القوى العربية التقليدية للاشتغال في الشأن الإقليمي، لأنه يقوض هذا المسار، وهذه القوى أساساً غير قادرةٍ على العودة نتيجة إشغالها بملفاتٍ شائكة، أو لم تعد قادرة على الفعل نتيجة حجم التدمير الذي طالها.
عموماً، يأتي اتفاق ابراهام، في سياق ما عُرِف منذ عام 2019، بصفقة القرن، التي ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية نهائياً، لكن الصفقة في حدّ ذاتها لا تمتلك رؤية واضحة (إعلامياً على الأقل)، بل هي مجموعة رؤى يتمّ اختبار ما يناسب البيئة الإقليمية، ويتمّ استبدال بعض مفرداتها بين حينٍ وآخر.
هذه الرؤية، هي نتيجة اشتغالٍ أمريكيٍّ (ترامب وكوشنر)، إسرائيليٍّ (نتنياهو)، خليجيٍّ (باستثناء الكويت)، وهنا بات واضحاً عملية التنسيق مع العدو لتصفية القضية. ورغم أنّ هذه الصفقة ستفتح المجال واسعاً لتعزيز العلاقات الإسرائيلية/الخليجية، وبشكلٍ يتجاوز أُطُر التطبيع بكثير، لكنّها أبداً لن تُقدّم حلاً للقضية الفلسطينية، بل ستُشكِّل عامل ضغطٍ جديدٍ في المنطقة، على الشعب الفلسطيني وعلى الهوية العربية، وعلى ضحايا الاستبداديات العربية، ما يخلق عوامل تفجّرٍ جديدةٍ في المنطقة.
عدا عن أنّ هذه الاندفاعة الخليجية نحو إسرائيل، ستخلق اندفاعةً عربيةً جديدةً نحو إيران وتركيا، وربّما نحو دول خارجيةٍ جديدةٍ ستظهر لاحقاً، لموازنة ذلك، ضمن سياسة ردّ الفعل/المناكفة. وبالتالي إحداث مزيدٍ من تفكيك الهوية العربية، والتبعية للخارج، وفقدان روابط جمع الأمة تدريجياً.
اليوم، يمكن لنا أن نتحدث عن أُمَمٍ عربيةٍ طور التشكّل، وفق أُطرٍ جغرافيةٍ جديدة، وداخل هذه الأمم، ولاءاتٌ متعدّدةٌ للقوى الخارجية. وهذه الأمم العربية هي:
– أمةٌ عربيةٌ خليجيةٌ، منغلقةٌ هُويتياً على ذاتها.
– اليمن، الذي بات محاصراً خليجياً ومُنهكاً وغير معنيٍ بكثيرٍ مما يجري على مستوى الهوية، في ظلّ عمليات تفكيكٍ للأمّة العربية اليمنية ما تزال تتفاعل، بُغية تحويلها إلى جوارٍ قابل للهيمنة (دويلات صغيرة).
– أمةٌ عربيةٌ مشرقية، شرق متوسّطية، يجري إبادتها وتهجيرها، وإعادة رسم جغرافيتها، ودعم صعود أمم أخرى في ذات النطاق الجغرافي.
– أمةٌ عربيةٌ في حوض النيل، سيجري تفكيكها إلى أُمتين أو أكثر جغرافياً، وصولاً إلى تفكيكها إلى أطرٍ محلية، إلى جانب دعم صعود أُممٍ أخرى داخل هذه الجغرافيا.
– أمةٌ عربيةٌ مغاربية، سيتّم الاشتغال على تفكيكها لاحقاً، إلى أطر محلية، وأُممٍ انفصالية.
– وبالتالي، لم يعد في هذا الشكل مكانٌ للقضايا المركزية، فلكل أمة منها قضيته المركزية، وعليه تفقد القضية الفلسطينية محوريتها أولاً، ومكانتها كقضية ثانياً.
ختاماً، إنّ وجود قضية مركزية للأمة العربية، لا يتناقض أو يتضادّ مع وجود قضايا محلية أبداً، بل على العكس تماماً، فهي محفّزٌ رئيسٌ على إنجاز القضايا المحلية، بُغية الوصول إلى حلّ القضية المركزية.
وهنا تبرز قيمة القضية المركزية، كقضيةٍ جامعةٍ لهذه القضايا أو للأمم العربية، فهي بمثابة القدس الذي يجمع العرب حوله. لكنّ مع إلغائها كقضية مركزية، لن يكون هناك أبداً قضيةٌ بديلة، يمكن أن تجمع الأمم العربية المتفرّقة، وهو إيذانٌ بإلغاء أهم الروابط وأقدسها، وفتح المجال لإلغاء روابط أخرى بالتوالي، ما يعني إلغاء الأمّة العربيّة الكبرى كهُويةٍ عامّةٍ جامعة.
*أكاديمي سوري
تعليقات الزوار ( 0 )