سعيد اولعنزي تاشفين*
لا يجوز كتابة مقال بهذه المناسبة من دون الإعتزاز لهذه اللحظة التي تؤرخ لحدث عظيم في تاريخ شمال إفريقيا يبدأ بالنجاح الذي حققه ” الأكليد ” شيشونغ سنة 950 قبل الميلاد على فراعنة دلتل وادي النيل . و رغم أن تاريخ إيمازيغن تعرض للتبخيس الرسمي ، ليس بالمغرب فقط ، بل في كل الأقطار المنتمية الى ما يسمى العالم العربي ، و ذلك لما للتاريخ من علاقة دافئة بالشرعية السياسية .
و دون الذهاب بعيدا في مناقشة مناهج علم التاريخ ، أعترف إن التاريخ تعرض عبر كل الحطات لتزوير فج تحت تأثيرات سلطة السياسة التي جنحت نحو تدوين نوع خاص من التاريخ تبريرا للهوية السردية للأنظمة السياسية على امتداد كل أصقاع ” دار الإسلام ” .
و يهمني استحضار ما ما اثبتته مناهج التاريخ البديل ، تاريخ المهمشين و تاريخ المجتمع على نقيض من تاريخ الأنظمة ، و المسنود بما اكتشفته الأبحاث الاركيولوجية التي فندت مزاعم التاريخ المؤدلج لصالح التاريخ الفوقي المعادي لتاريخ الشعوب .
و مؤكد علميا ان للامازيغ تاريخ عريق ممتد افقيا و عموديا ، حتى إن ” هيرودوت ” على غرار ” أكسينوفون ” و ” سترابون ” و ” ديودول الصقلي ” و ” الهاليكارناسي ” و ” بلنيوس الشيخ ” ، و غيرهم ، طالما اشار الى حضارة جنوب المتوسط حيث نجح ” الليبيون ” في بناء نظام حضاري فريد .
و لأن التاريخ الأمازيغي هذا كان عميقا منذ القديم الى الوسيط ؛ لحظة ميلاد دول العصبيات ، كما وضح ذلك ابن خلدون ، مع صنهاجة المرابطين و مصمودة الموحدين و زناتة المرينيين و ما لحقهم من عقود الوطاسيين ، قبل ميلاد دولة النسب الشريف مع الأشراف السعديين إبان العصر الحديث . فإن ما لحقه من تحريف ظل كبيرا ، حتى ان الراحل ” علي ازايكو ” صدح بضرورة إعادة كتابة تاريخ المغرب وفق التاويلات الممكنة .
و لكل هذا ؛ فأنني اشارك معشر إيمازيغن احتفالات راس السنة الشيشونغية ، رغم انني أود إبداء ملاحظات و مطارحة مخالفة تذهب بعيد في امتلاك ناصية النقد ، دون شعبوية الإحتفال وفق النمدجة المؤسسة لشكليات البهرجة .
إن ارتفاع منسوب الوعي الهوياتي بالمغرب ، بما يضحد ذلك الإستيلاب الكبير الذي لازم الهوية الرسمية للدولة زمنا طويلا باسم الإنتماء ، يرجع الفضل فيه بشكل أساس الى الديناميات الامازيغية ، من داخل الحركة الثقافية و الحركة الأمازيغيتين ، بعد نضال ميداني دام لعقود ، رغم احتدام التخوين الهوياتي من جهة كل من اليسار القومي العروبي و اليمين المحافظ الذي احتكر شرعية النضال باسم مشروعية الحركة الوطنية التي ترسمت ايديولوجيا عام 1944 .
و نعترف اذن ، بكل موضوعية ، ان الوعي الأمازيغي نجح في تحطيم الأصنام و رفع القداسة عن الكثير من المفاهيم التاريخية المغلوطة ، و أعاد ، بجرءة ، التاريخ الى مجراه الطبيعي من باب المصالحة مع الذات المغاربية الجمعية وفق خريطة ” تمازغا ” المشكلة للقالب الجيو – هوياتي للوعي النخبوي للديناميات الامازيغية .
و إلى هنا فالمخرجات إيجابية ما دامت تراكم على درب عقلنة التاريخ و تفنيد الوهم الجمعي الذي شكل الأسطورة المؤسسة للوعي النكوصي المقلوب الذي كان يعادي هوية الأرض لصالح هوية مؤدلجة تعرب الطوبونيميا و تحرف نتائج الأركيولوجيا و تزيف استنتاجات الأنثروبولوجيا الثقافية ، بما يزكي أطروحة الوحدة القومية ، التي ولدت في سياق رفض العرب للهيمنة العتمانية عبر الإنفصال عن سلطة التتريك ، في سياق نهاية ترهل الرجل المريض الذي لا يرجى شفاؤه ، بدعم مكشوف من التارج البريطاني ، حتى إن ” هنري مكماهون ” كان واضحا في علاقاته بزعماء القومية ، قبل اشتداد شوكتها مع ميشل عفلق ، عراب حزب البعث ، الذي عرب الماركسية و تحول الى العدو اللذوذ ل 《الأقليات》التي كانت مكرهة بالخضوع لقواعد العروبة المتمركسة .
و أمام ما حصل من تحولات ماكرو – سياسية في ظل النظام العالمي الجديد ، و انحباس الهوية القومية تحت تداعيات انتصار الليبرالية المتوحشة التي أعادت تحريك الثوابت الإيديولوجية بمنأى عن حق الديناميات الثقافية في النضال المدني وفق سياقات الحرية الليبرالية المطلوبة أمميا ، أضحى السياق العام يواقق وثيرة الحركة الأمازيغية التي استصدرت قرارات مهمة ، لتتحقق الحماية القانونية للأمازيغية منذ صدور ظهير أجدير و إعلان تأسيس المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، و هو ما شكل ضربة موجعة للفكر النخبوي المعادي لهوية الأرض ، سيما ان نقاشات منحرفة أخذت وقتا ثمينا من الزمن الإستراتيجي للحركة الأمازيغية ؛ من ذلك النقاش العقيم حول اللهجة بدل اللغة ، و هنا نعترف ان الدولة نجحت في تصريف مواقف جد ايجابية لصالح الأمازيغية على أنقاض تطويع علم الليسانيات و السوسيو – ليسانيات لتكريس منطق اللهجة بدل اللغة ، علما أن الأركيولوجيا اثبت تقادم اللغة الامازيغية من خلال اللقى الأثارية المعبرة عن حقائق دامغة غير قابلة للتجاوز.
و يبدو أن الأمازيغية بفضل الشرط الذاتي للحركة الأمازيغية و الشرط الموضوعي الذي حفز الدولة لاتخاذ مواقف متقدمة من القضية ، أصبحت محط إجماع مغربي متعاقد عليه في مستهل الوثيقة الدستورية لعام 2011 ، رغم بعض الملاحظات الشكلية التي نسجلها من باب النقد الفيلولوجي لللصيغة الواردة في المثن الدستوري . و بدسترة اللغة الأمازيغية يجوز القول ان مرحلة جديدة قد بدأت ، رغم تنامي خطابات اليأس من هنا و هنا ، بسبب انفلاث الحركة الأمازيغية من الخطاب الثقافوي نحو مرافعات حقوقية تلامس أبعاد أخرى للكرامة الأدمية ، أقتصاديا و اجتماعيا و سياسيا .
الحركة الأمازيغية و سوء توظيف التراكم لصالح دولة الحقوق و مجتمع القانون .
إن التنصيص الدستوري على الفهم التعددي للشخصية المغربية ، من خلال رسمية اللغة الأمازيغية ، يشكل منعطفا فريدا في تاريخ إيمازيغن منذ شيشونغ الى الأن ، رغم أن القياس لا يستقيم بمبرارات اختلاف السياقات جملة و تفصيلا .
و الأهم ان الدسترة مكتسب مستحق إنصافا للأرض المغربية التي نجحت في استقبال كل الروافد عربية و حسانية و أفريقية و بأديان مختلفة يهودية و إسلاما ، دون أن تنقلب على روح الأرض المحتفظة على عبق التاريخ عبر التشكيلة الهوياتية الموطدة بشرعية ” أكال ” ( أكال = الأرض ) ، رغم خطورة أدوات التحريف .
و الملاحظ ، من خلال تتبع طبيعة الخطابات الأمازيغية ، أفقيا و عموديا ، ان الحركة الأمازيغية فشلت ، في استثمار الإعتراف الدستوري للتوجه نحو ملء الفراغ الكبير الحاصل جراء فشل الأحزاب التقليدية في بناء هوية ديموقراطية تتجاوز منطق الشرعية التاريخية نحو سند المشروعية الحقوقية في بناء دولة الحقوق و مجتمع القانون ، سيما ان الرصيد الرمزي الذي تملكه الأمازيغية من خلال ترسانة من الميكانزمات منها السلمية و اللائكية و مقاربة النوع و تشبع الثقافة الأنتروبولوجية بقيم حقوق الإنسان و مرونة السلوك المدني لدى الإنسان الامازيغي ، علاوة على تميز النظام الثقافي الإجتماعي الذي يشكل الوعاء الحضاري للهوية الأمازيغية ، قبل ميلاد الخطابات العالمة Discours savants التي لم تنجح في تسويق ثقافة الأرض كما يجب .
و ازعم هنا إن الدسترة كانت تكفي للدفع بخطاب الحركة الأمازيغية بعيدا على درب المساهمة في دمقرطة الدولة و المجتمع ، كأرضية ثقافية تساعد في بناء نسق ايديولوجي محترف ، في تفاعل إيجابي مع كل القوى الديموقراطية الحية ، دون قبول الغلو في إنتاج خطابات شعبوية منفعلة .
و قد نتفهم ما كان إبان المرحلة التأسيسية من خطابات عنيفة ضد الأخر العروبي أو الإسلاموي ، كما يذهب الى ذلك الفهم اللسني الأمازيغي ، من وجهة نظر منفعلة تتموقع كرد فعل ضد ما تعرض له إيمازيغن من اقصاء و تهميش طيلة عقود ، و هو ما كان يصل أحيانا الى مستوى الإغتيال المعنوي للإنسان الأمازيغي .
وسيكولوجيا للوضع هذا مبررات واضحة في سياقات مختلفة ، لكن لا يجوز ، مهما كان ، أن تظل الحركة الأمازيغية حبيسة ردود الفعل الميزاجية حيال أعطاب الماضي بصراعاته الأرثوذوكسية ، بما يعيد إنتاج خطاب أمازيغي شعبوي معادي لروح الأمازيغية كنسق اجتماعي عقلاني عميق في قوالب السلوك الجمعي بالأرض العميقة المحتفظة على أخلاق الحداثة من غيرية و تقدير للإختلاف و سلمية التعامل مع المختلف .
و نلمس من خلال وضع الخطاب الأمازيغي تحت مجهر التمحيص أنه يظل اسير الوجدان و ردود الفعل المتأزمة حيال الأخر دون أدنى قدرة على تجاوز مخلفات التاريخ المسيج بالعدوات المجانية المشرعنة الإيديولوجية النكوصية ، حتى إن ضبط شعرة معاوية الفاصلة بين الخطاب التاريخي و الفهم النكوصي كان ، و ما يزال صعبا ، و هو ما يجعل الخطاب الأمازيغي موسوما بالرجعية لغلوه في تقديس التاريخ دون القدرة على استحضار المسافة بين الذات و الموضوع ؛ حتى تحول التاريخ الى وهم جماعي ممشوق بالأساطير المؤسسة بمبالغة بسيكو – اجتماعية تنتهي بأصولية امازيغية منفلتة من منهج النسبية في قراءة التاريخ ، و بذلك هيمن خطاب الشعبوية الذي يستهلك بإسهاب مفردات مثل ” العروبية / الإسلاموية / المتمركسين / القومجيين / المخزن / القبيلة / العصبية / الأرض لنا / الشرعية التاريخية / الطهرانية / تقديس الذات / الوهم الجمعي / خضوع الفرد لنفود الجماعة / … و كلها تمظهرات للحس الإثنو – ايديولوجي المحاصر ( بكسر الصاد ) لعقلانية القضية .
و رغم ما يبدو من حداثة شكلانية في صفوف النخبة العالمة التي تحاجج بوعي عصري منسجم مع مطالب المواطنة ، فإن عمق السلوك يبدو في غالب الأحيان رجعيا منتصرا للقبيلة و للروح العشائرية على أنقاض استقلالية الفرد ، و مع الإحتكاك المباشر تصادف هيمنة آليات البراكسيس التقليداني في سلوك الأفراد و الجماعة ، بما ينتهي بالقضية الأمازيغية كتحديث للتقليد ، دون القدرة على إحداث قطيعة بسيكولوجية على مستوى السلوك ، و ابيستيمولوجية على مستوى المعنى و الخطاب ، نحو بناء خطاب حقوقي ترافعي تجتمع حوله كل التشكيلات المجتمعية في افق بناء مجتمع المواطنة و القانون في دولة الحريات و الحقوق .
و شخصيا ، اعتبر ان الأمازيغية مطلوب ان تشكل الرافعة الحقيقية للحسم مع مختلف تجليات الحس الإرتكاسي الملازم للوعي العروبي و الإسلاموي و الأمازيغي حتى ، بما قد يساعد ايمازيغن على انتاج خطابات عقلانية تنتصر ، من الداخل ، للفرد ، كمنطلق للتحرر من ربقة سلطة الجماعة ، كشرط لبناء خطاب عقلاني منسجم مع روح الحرية ، كما ظل يؤكد ماكس فيبر ، و من الخارج تنتصر لكل أبعاد الشخصية المغربية وفق نظيمة هوية الأرض ( استعمل عن قصد الشخصية المغربية و هوية الأرض بدقة ) ، لأن ابعاد الشخصية المغربية متعددة كما حددها المشرع الدستوري ، ضمن وحدة الهوية الثابتة للأرض كوعاء حضاري تاريخي جامع مانع لكل الروافد القادمة اليه ، بما يفيد الوحدة في التنوع تحت ظلال أمازيغية الأرض و ” تمغاربيت ” في الشخصية .
و من أسف أزعن ان ايمازيغن فشلوا على هذا المستوى ، و بذلك ظلوا يستعدون ، من باب ردود الفعل المتأزمة ، كل نتاجات الحضارة الإنسانية فأصبحت العربية مرادفا للعروبة ، و الدين الإسلامي مرادفا للإسلام السياسي ، و كارل ماركس مرادفا لميشل عفلق و غيرها من الترابطات التعسفية التي تمنع الخطاب الأمازيغي من معانقة روح الحداثة ؛ كتجل للتاريخانية كنسق حضاري كوني إيجابي مطلوب أن يتكيف معه بمرونة في اتجاه احتواء كل التفرعات ضمن هوية أمازيغية مغربية تاريخية غير ارتكاسية و متحركة غير جامدة و منفتحة على كل إسهامات البشرية دون تزمت ارثوذوكسي و دون هوس دوغمائي ، و كذلك كانت الأمازيغية و كذلك يجب ان تظل لخدمة الإنسان .
و مهما تعددت القراءات المؤسسة على التاويلات الممكنة للحركة الأمازيغية من خلال تفكيك مكونات الخطاب نفسيا و سيميائيا و من منطلق مقاربات انتروبولوجية للثقافة بدل القراءات الإثنولوجية الستاتيكية المعادية لروح التاريخ و لمنطق التكامل الحضاري من منطلق سيولة الظاهرة المعرفية .
و اعتبر ختاما إن الأمازيغية لا يجب ان تخلف موعدها مع التاريخ على قاعدة احترام الأخر و تقدير الغيرية و الوفاء للعقلانية و ضمان الوفاء للأرض دون غلو ، حتى تساهم في تثمين التراكم نحو دولة الحريات و الحقوق لمجتمع القانون و الثقافة .
*أستاذ، كاتب رأي وفاعل حقوقي
تشريح دقيق لواقع اللغة كمكون للهوية و نقد رصين بناء لمن يحملون هم القضية نابع من تمكن تارخي فريد و رصانة في النقد و تغليب للغة العقل و غيرة كبيرة على المغرب و تمغرابيت تحية للأستاذ الباحث سعيد تاشفين العنزي