أريد أن أؤكد من البداية وجود شقوق وتصدّع في الوعي المغربي الحالي حيال كتاب صحيح البخاري، الذي أصبح مستهدفا بشكل متزايد ضمن النقاش الجاري في المجال العام. وأعلّق هنا على الضجة الكبيرة التي يعرفها المغرب حول قضية السنة، وبالضبط ما يتعلق بصحيح البخاري، لكن من ناحية ملاحظة التحولات التي يعرفها وعي المغاربة في علاقتهم بكتاب الصحيح.
البخاري قصة اجتماعية شعورية
المغاربة منذ الماضي لم يتعاملوا مع صحيح البخاري باعتباره مجرد كتاب في الحديث النبوي، فقد صاغوا علاقتهم به في قصة اجتماعية وشعورية، تجاوزت البعد الديني المجرد. وربما لا يعرف الكثيرون من الجيل الحالي عناصرها التاريخية والشعورية. ورغم أن موطأ الإمام مالك هو عمدة المغاربة لارتباطهم به مذهبيا، إلا أن المغاربة لم ينسجوا حوله قصة تخترق تفاصيل الحياة اليومية مثلما فعلوا مع البخاري. كما أن موطأ مالك لا يتعرض للطعون والانتقادات في المجال العام، ربما لخوف المنتقدين من كونه يشكل جزءا من بنية السلطة، أو لإدراكهم الحقيقي أن هدم البخاري يهدم تلقائيا ما يأتي بعده.
لقد تم انتقاد البخاري طوال التاريخ من جانب عدد من العلماء، وكانت الانتقادات مقبولة من طرف الناس، ومن آخرهم ناصر الدين الألباني الذي ضعّف بعض أحاديث صحيح البخاري. لكن القبول يتأسس على انتماء النقاد لدائرة الاحترام العلمي. ويبدو أن رفض الكثيرين للطعن في البخاري في الوقت الحالي، يأتي من كونهم لا يعتبرونهم في الدائرة نفسها.
ولم نعرف قصة مشابهة للبخاري في الثقافات الأخرى تجعل الناس يحلفون بكتاب معين أو يقرأونه في الأزمات. إن ولادة القصّة أمر بالغ الأهمية، وليس من السهل أن تجعل شخصا معاصرا لا يمتلك أدوات علم الحديث، ولا يمكنه التحقق بشكل فردي من الصحيح والضعيف عند سماعه، أن يتبنى موقف التسليم دون أن يكون له ارتباط بالشعور العام للمغاربة، ووعيهم الدفين بالقصة الكبرى التي نسجت حول كتاب البخاري، الذي يعتبر حاسما للموضوع. إن شخصا لا يمكن أن يتفاعل مع حدث لم يكن طرفا فيه، ومضى منذ قرون، دون أن يكون وعيه الحاضر مستمرا في تبني تلك القصة.
وعندما يتشكل وعي عام حول قضية معينة، فالمسألة تتحول إلى نوع من الإجماع، الذي يصبح اختراقه إساءة لشعور الناس. لقد أصبح مفهوم” الشعور” ذا أهمية قصوى في وعي المجتمعات الحالية، وفي إدارة الخلاف حول كثير من القضايا بداخلها. والقصة التي ينسجها الوعي بخلاف الأفكار، يصعب أن تنهار بسهولة، رغم كل ضربات ومحاولات التجديد الزائفة وحتى الحقيقية أحيانا.
إن صحيح البخاري بالنسبة للمغاربة ليس مجرد كتاب لسرد الأحاديث النبوية الصحيحة، فقد تحول مع مرور الزمن في وعيهم إلى حدث يومي، فبالأمس القريب كان بعض كبار السّن إذا سمع الأبناء يختلفون حول بعض الأفكار، يجيبونهم بالقول: ما دام الخلاف ليس في البخاري فلا إشكال.
لا يعرف الكثير من الأغنياء المغاربة الذين يبنون المساجد، أن الأغنياء في الماضي في المغرب كانوا يضعون شروطا تتعلق بالبخاري. حيث يفرض أصحاب الوقف قراءة البخاري وفق ترتيب معين. أما السياسة فكانت تساهم في ترسيخ الوعي العام بأهمية صحيح البخاري، حتى إن السلطان محمد الشيخ السعدي مؤسس الدولة السعدية، كان يحفظ صحيح البخاري كاملا.
ويعود سبب تسمية جيش عبيد البخاري في عهد السلطان العلوي المولى إسماعيل، لكونه جمع العبيد من مناطق متفرقة من المغرب، وجمع قادتهم وأحضر نسخة من صحيح البخاري، وقال لهم: أنا وأنتم عبيد لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرعه المجموع في هذا الكتاب، وعلى ذلك القتال والجهاد. وعاهده العبيد على ذلك، وأمر بحفظ تلك النسخة، وأن يحملوها عند مسيرهم ويقدموها في حروبهم كتابوت بني إسرائيل، حسب وصف المؤرخ الناصري.
ونجد البخاري في مجال العلاقات الإنسانية، فقد تكون الخيانة سببا في الفراق بين المتحابّين. ولذلك لا تُقبل الأعذار حتى وإن وضع الخائن صحيح البخاري على رأسه، وأقسم أنه لن يعود للخيانة. ونجد هذا المعنى في بعض أشعار الأمازيغ في منطقة سوس في المغرب، مثل حمو الطالب الذي توفي أواخر القرن الثامن عشر.
إن تصدّع جدران القصة يحتاج إلى زمن لكنه ممكن الحدوث، وبالنسبة لمكانة صحيح البخاري فإن جزءا من التصدع في الوعي العام أمر يمكن مشاهدته في هذه الحقبة الزمنية التي نتحدث فيها. إن المغاربة لم يعُد لديهم نفس الوعي الكثيف السابق تجاه القصة التي صيغت حول كتاب البخاري ومكانته الدينية والاجتماعية والشعورية. وبتراجع مظاهر العناية بهذا المصنف، تراجع الوعي العام للجيل الحالي بقيمته. إن من أهم مظاهر التحول في الوعي المغربي والمصري هو أن الطعن في صحيح البخاري قد انتقل إلى المجال العام، كما أن تلك القداسة التي ارتبطت به يتم استهدافها باستمرار.
والحقيقة أن ما يعرفه الوعي المغربي من تحولات شبيه بما يعرفه وعي المصريين من تحولات كذلك، وفي الماضي القريب كان كثير من المتّهمين في مصر يحلفون بالبخاري لنفي التهمة عنهم، أو لإثبات أقوالهم أمام القضاء. إن هذا بلا شك انحراف عقدي، لكنه من ناحية أخرى يكشف كيف يحوّل الناس وعيهم بشيء إلى قصة. ويذكر ابن حجر شارح البخاري في مقدمته عن ابن أبي جمرة في اختصاره للبخاري، أنه قال: قال لي من لقيته من العارفين عمن لقي من السادة المُقَرِّ لهم بالفضل، أن صحيح البخاري ما قُرئ في شدّة إلا فُرجت، ولا رُكب به في مركب فغرق. وهذا جزء من القصة الكبيرة التي نسجها الوعي الإسلامي حول كتاب البخاري. وكان المصريون إذا نزلت بهم مصيبة، اعتكفوا في المساجد لقراءة صحيح البخاري.
وكان يُقرأ البخاري بقصد النّصرة للسلاطين والأمراء، ورفع الوباء والطاعون. وكان المصريون يدخلون الجامع الأزهر ويقرأون صحيح البخاري تضرعا إلى الله من القنابل التي يلقيها الفرنسيون عليهم. كما أن أعيان المصريين اعتادوا وضع صحيح البخاري في مداخل بيوتهم، إلى جوار القرآن. وفي إحدى المناسبات أخطأ الإمام في الصلاة فصحّح له الناس مرارا، فلما أنهى صلاته أجابهم:” هو أنا غلطت في البخاري يعني”. وهي مقولة تحولت إلى مثل شعبي عام، يكشف أن الخطأ في البخاري أقصى ما يمكن أن يرتكبه الإنسان.
حالة غياب الوعي
لا شك أننا في المنطقة بشكل عام نعيش حالة من الانكماش وغياب الوعي الكثيف. وعندما يكون الوعي كثيفا، فإن جاذبيته تصبح أكثر قدرة على التأثير في الأجيال المعاصرة. إن قياس مستوى الجاذبية التي تمارسها عناصر الوعي، وقدرتها على التأثير النفسي والفكري، محدد أساسي لتحليل مستقبل وعي المغاربة بقضاياهم الدينية والتاريخية. أما الوعي الخفيف، فيحاول إفراغ الإطارات الشعورية والاجتماعية من محتوياتها القديمة، وتعويضها بنوع من السيولة.
إن أكبر تحول يعيشه المغاربة هو أن جزءا كبيرا من الشباب لا يعرف أصلا عن البخاري ومحتوياته، ما يجعله يقبله أو يرفضه، أو حتى أن يبدي في ما يتعرّض له رأيا متعاطفا معه. فهو ببساطة لا يملك تجاهه قوة القصة الشعورية أو الدافع الديني نفسه الذي كان في الأجيال السابقة. إن المشاعر الإنسانية أقوى بكثير من التحليل المنطقي للقضايا الدينية. وحتى في حال ضعف اكتساب الناس العاديين للقدرات العلمية التي تسمح لهم بالتعامل مع علوم الدين ومعرفة صحيحها وضعيفها، فإن الشعور الذي يمتلكونه يستمر في التفوق على التحليل العلمي والمنطقي للأشياء، لأن المشاعر مرتبطة بالوعي.
والوعي الكثيف يتشكل عندما تتحول المنجزات العلمية والمناسبات والتواريخ الدينية، إلى طقوس اجتماعية منتظمة ومؤسسة. وهذا المستوى من الوعي بإمكانه مواجهة العولمة والحداثة، ووضعها ضمن حدودها المقبولة.
لقد تراجعت الدولة السنية المعاصرة وأصبحت أكثر برودة، في صناعة الوعي الكثيف، وبتراجع هذا المنحى خسرت أدوات أساسية لصناعة الوعي الكثيف. إننا حين نتوقف عن فعل أشياء ضرورية نحتاج إلى فعلها، فإننا نتوقف أيضا عن التعلّق بها. وكذلك بالنسبة للقضايا الدينية والاجتماعية، فإذا توقفت المجتمعات عن مشاهدة تفاصيلها في الحياة اليومية، فإنها تفقد قداستها في النفوس تدريجيا في هدوء. إن الحدود الحقيقية للمجتمعات هي التي يصنعها الوعي الثقافي والاجتماعي. والصراعات التي يخوضها الوعي أو الإنجازات التي يحققها عابرة للحدود. وعندما تضيق السياسة بالناس، يستوعبهم الوعي، ويمنحهم مقومات الوجود والاستمرار.
تعليقات الزوار ( 0 )