د.عبد الرحيم المنار اسليمي*
يثير غياب المبادرة المغربية عن التطورات الجارية في الأزمة الليبية خلال الشهور الأخيرة مجموعة تأويلات بات من شأنها التأثير على التراكم الذي أحدثه المغرب في تدبير الأزمة الليبية منذ سنة 2015، ومن شأنه التأثير على توازنات القوى في شمال إفريقيا ،وقد يمتد الى المعادلة المتوسطية ومنطقة الساحل والصحراء ليمُس بصورة المغرب كقوة إقليمية صاعدة، لذلك بات مطلوبا القيام بمبادرة سريعة تستحضر العناصر الجيوسياسية التالية:
أولا: سياق ليبي مختلف عن سياق إنتاج اتفاقية الصخيرات الأولى
لقد تغير سياق الأزمة الليبية خلال الأربع سنوات الأخيرة، وبات الأمر يتعلق بوضع جديد يتسم بما يلي :
1- أن مخرجات مؤتمر برلين فشلت لكون الأطراف التي شاركت في المؤتمر الذي نسقت له دول ألمانيا وروسيا وتركيا، عادت إلى شحن السلاح إلى ليبيا ، وأن مؤتمر برلين لم يستطع ترسيم هدنة لوقف إطلاق النار، وتوجد تفسيرات كثيرة لهذا الفشل أحدها مرتبط بمحاولة روسيا وتركيا بدعم من ألمانيا تجاوز صلاحيات مجلس الأمن، وهو الأمر الذي لن تقبله الولايات المتحدة وفرنسا.
2-إن عدم دعوة المغرب إلى برلين ناتج عن شعور الدول الثلاث ألمانيا وتركيا وروسيا بقوة اتفاق الصخيرات الذي رسمه مجلس الأمن في قراره رقم 2259 لسنة 2015، وظل حيا، لذلك فحضور المغرب بالنسبة للدول الثلاث معناه ضرورة الإشارة لاتفاق الصخيرات، مادام أن ما تبقى من المؤسسات الليبية التي تٌدعى الشرعية الدولية وتحضر للمؤتمرات تستمد هذه القوة من اتفاق الصخيرات.
3- لأول مرة يوجد تنافس ليبي داخلي على الدعم الخارجي لتغيير موازين القوى، الشيء الذي يجعل المخاطر مرتفعة ومختلفة عن مخاطر سنة 2015،
4– لازال القتال بين الأطراف الداخلية لم يتحول إلى مواجهة واسعة رغم وجود معطيات تشير إلى أن حفتر بدأ يجمع القبائل التي كانت موالية للقذافي ويدعوها إلى “الجهاد” في طرابلس .
5- لا أحد بات يفهم من هم الإرهابيون في ليبيا ومن يحارب الإرهاب في ليبيا؟ فالتقييم الأمريكي خلال سنة 2019 يشير الى أن حكومة الوفاق الوطني هي التي تحارب الإرهاب وليس الجنرال حفتر، وبناء عليه، فإن حجة محاربة الإرهاب بدأت تضعف ولم تعد ورقة ذات مشروعية قابلة للاستعمال المؤثر في الصراع بين القوى الليبية الداخلية والقوى المساندة لها.
6- توجد خلافات كبيرة بين الأوروبيين في توصيف وتقييم الوضع في ليبيا، ويزداد هذا الخلاف وضوحا بانقسام الأوروبيين حول دعم القوى الداخلية المتصارعة، الشيء الذي سمح بتسرب قوى خارجية للمشهد الليبي باتت لها القيادة، وهي قوى تتعارض مصالحها مع مصلحة الأوروبيين كمجموعة دول ذات جوار بحري مقابل لليبيا وباقي دول شمال افريقيا.
7- وجود تحرك دبلوماسي جزائري سريع غير عادي يبدو أنه محكوم بتطورات سياسية داخلية في البلدين.
ثانيا: المخاطر الواضحة على المغرب
وتتمثل هذه المخاطر، التي من شأنها التأثير على صورة المغرب كقوة إقليمية في شمال إفريقيا والمنطقة المتوسطية ، في ما يلي:
1- بداية تقوي الدور الدبلوماسي للجزائر في تدبير الأزمة بعد عشرة أشهر من الغياب، وإذا كان من الممكن تفسير هذا الدور المتنامي بعوامل داخلية، وذلك بمحاولة السلطة الجديدة في رئاسة الدولة والجيش تطعيم شرعيتهما الداخلية الضعيفة عن طريق مورد الأزمة الليبية ومحاولة تشتيت الحراك الجزائري بتوجيه أنظاره نحو الأزمة الليبية وتداعياتها المحتملة، فإن تقوي هذا الدور ستكون له مخاطر على صورة المغرب ومصالح الاستراتيجية الوطنية كقوة إقليمية في شمال إفريقيا، ذلك أن استمرار الجزائر في تقوية موضعها داخل الأزمة الليبية دون وجود المغرب، من شأنه أن يقود الجزائر الى استثمار هذا التموضع في إعادة بناء علاقاتها مع الأوروبيين والروس والأمريكيين والأتراك والأفارقة، وداخل العالم العربي، والأخطر هو أن الجزائر ستستثمر كل ذلك في إعادة بناء تحالفات مضادة للمغرب في ملف الصحراء، ذلك أن الجزائريين أسسوا لقاعدة دبلوماسية لم تتغير مفادها استثمار كل الملفات التي تنفرد بها للقيام بمقايضات وصفقات ضد الوحدة الترابية للمغرب.
2– حضور تركيا المباشر في الأزمة الليبية وعدم فهمها لمفهوم الجوار في المنطقة المغاربية، وتحولها إلى دولة موزعة لترخيصات الحضور لمؤتمر برلين من عدمه، يشكل خطرا على التراكم الذي أحدثه المغرب بترسيمه وتوسيعه لمفهوم الجوار في منطقة شمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء بجوار الامتداد المباشر، وليس الجوار الجغرافي أو الحدود البحرية فقط، فالأتراك يؤسسون لمفهوم جديد للجوار في ليبيا يشكل خطرا على مصالح المغرب.
3- الخطر الروسي الذي يدفع نحو تقسيم ليبيا إلى فيدراليتين (فيدرالية الشرق وفيدرالية الغرب)، وهو ما يعني بداية التقسيم، يضاف إلى ذلك خطر فكرة الفيدرالية على الاستقرار في شمال إفريقيا.
ثالثا: الفرص الموجودة أمام المغرب
وتتمثل هذه الفرص في مايلي:
1- لازال اتفاق الصخيرات حيا ولم يمت، رغم كل الانتقادات والمعارضات، فالليبيون لم يجمعهم أي اتفاق منذ سنة 2015، تاريخ إبرام اتفاق الصخيرات، وظلت الأطراف المتصارعة توظفه في صراعاتها بطريقة انتقائية لبعض مواده دون أخرى.
2– رغم التحرك الدبلوماسي السريع للجزائر، فإنه سيكون من الصعب علي السلطات الجزائرية تقديم مبادرة لكونها مكبلة بصعوبات داخلية، وحتى لو صاغت مبادرة فإنها لن تحظى بثقة لدى الأطراف الليبية لكون الجزائر لم تعد طرفا محايدا، أضف إلى ذلك أن الدولة التي لم تستطع نيل شرعية مواطنيها داخليا لا يمكنها إقناع الأطراف المتصارعة في دولة أخرى.
3- تضررت صورة دولة الإمارات العربية المتحدة في ليبيا نتيجة قصف الكلية العسكرية لطرابلس وتلويح حكومة الوفاق الوطني بقطع العلاقات الدبلوماسية مع سلطات أبوظبي، ولم يعد من الممكن أن تجمع دولة الإمارات العربية المتحدة السراج وحفتر في أبوظبي.
4– تؤثر الأوضاع الداخلية في مصر والتخوفات من رد فعل الجيش المصري على أي مبادرة مصرية دبلوماسية في ليبيا، يضاف إلى ذلك أن مصر ليست محايدة في النزاع الليبي ولن تقبل حكومة الوفاق الوطني مبادراتها.
5– لا يمكن لتركيا أن تكون محايدة في ليبيا لكونها تدخلت عسكريا إلى جانب حكومة الوفاق الوطني، يُضاف إلى ذلك أنها تجر معها إلى منطقة شمال إفريقيا صراعها مع دولة الإمارات والسعودية ومصر حول الإخوان المسلمين، وسيخلق لقاء الغنوشي وأردوغان بتركيا مباشرة بعد سقوط حكومة الجملي المزيد من الريبة والشك في الوجود التركي داخل شمال إفريقيا، الذي لا يبدو أنه يقف عند حدود دعم حكومة الوفاق الوطني وإنما يلعب دورا مرتبطا بمستقبل الإسلاميين في شمال افريقيا.
6– عدم الاتفاق داخل جامعة الدول العربية وتحولها إلى جامعة أقلية ضد الأغلبية يحول دون تقديمها أية مبادرة في الأزمة الليبية، إضافة إلى أن وجود ليبيا تحت طائلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة يحد من مبادرات الجامعة العربية والاتحاد الإفريقي في اتخاذ مبادرات في الأزمة الليبية رغم التداول فيها.
7– بات الجنرال المتقاعد حفتر في ورطة ويحتاج إلى مخرج ما دام أنه لعب ورقة وحيدة، تبدو مستعصية إن لم تكن مستحيلة، هي الدخول إلى طرابلس، لذلك يبدو خيار الصخيرات ملائما لإنقاد حفتر لنفسه أمام هذه الورطة وإنقاذ السراج لنفسه أيضا من تهمة طلب التدخل الخارجي، وذلك لكون اتفاق الصخيرات كان مطروحا ومقبولا قبل انطلاق حدة المواجهة العسكرية بين الأطراف الليبية، فورقة الدخول إلى طرابلس ستقضي على حفتر، لذلك فهو يفكر إلى جانب داعميه في المخرج، وهذا ما يفسر بداية ترديدهم لاتفاق الصخيرات.
رابعا: على الخارجية المغربية التحرك بسرعة وإنتاج وثيقة مشروع الصخيرات الثانية
وبناء على هذه المعطيات، يمكن لوزارة الخارجية المغربية الانتباه الى العناصر التالية:
1- ضرورة التحرك بسرعة بإشعار أطراف عربية وشمال إفريقية بخطر التوجه الذي تدفع به روسيا نحو ترسيم الفيدرالية في ليبيا ، الأمر الذي من شأنه التأثير على وحدة دول كثيرة في العالم العربي وشمال إفريقيا ومنطقة الساحل والصحراء، فالفيدرالية هي مقدمة للتقسيم بخروج الصراعات الهوياتية والمناطقية واللغوية.
2- إعادة اتفاق الصخيرات إلى الواجهة بسرعة عن طريق التواصل مع الأطراف الليبية حوله، وذلك بالتذكير بفكرة ترسخت وتحتاج فقط لإعادة الإخراج، الفكرة التي مفادها أن اتفاق الصخيرات يعد الوثيقة الوحيدة التي اجتمع حولها الليبيون منذ خمس سنوات.
3– إعادة صياغة بنود اتفاق الصخيرات الأول على ضوء ما يلي:
-مستجدات الوضع الليبي خلال الأربع سنوات الأخيرة.
– نقط ضعف الجزائر والتحولات التي عرفها المحيط الإقليمي في شمال إفريقيا والمنطقة المتوسطية وفضاء الساحل والصحراء.
– التغييرات التي جرت في توازنات القوى داخل جامعة الدول العربية والاتحاد الإفريقي من منطلق السياسة الخارجية المغربية.
– التغييرات التي جرت في توازنات القوى في علاقات المغرب بدول الخليج بعد الأزمة الخليجية.
– الدور التركي الجديد في منطقة شمال افريقيا.
– قرارات مجلس الأمن الصادرة منذ سنة 2015 بخصوص الأزمة الليبية وعلاقتها بمخاطر منطقة الساحل والصحراء، والتأثيرات المحتملة على الاستقرار والأمن في شمال افريقيا.
– مصالح المغرب العليا ودوره في شمال إفريقيا والساحل والصحراء والمعادلة المتوسطية الجديدة.
-التناقضات الموجودة داخل الاتحاد الأوروبي بخصوص توصيف وتقييم الأزمة الليبية.
-مستجدات العلاقات المغربية الأمريكية في شمال إفريقيا.
4– إعداد وثيقتين في مبادرة الصخيرات الثانية:
وثيقة أولى، وتكون في شكل خارطة طريق توجيهية للتواصل مع الأطراف الليبية وبناء المساحات المشتركة.
وثيقة ثانية، وتكون مفصلة يتم إعدادها من خلال تصور يساعد على تحويلها إلى وثيقة دستورية بعد التفاوض حولها من طرف الليبيين.
5– من الممكن أن يبدأ الترويج لمبادرة الصخيرات الثانية من خلال فتح نقاش مع الليبيين حول : ماذا يريدون تغييره في اتفاقية الصخيرات الاولى؟
6– تدخل ليبيا مرحلة حرب جديدة بعدم قبول الأطراف المتصارعة مبادرة وقف إطلاق النار لمؤتمر برلين وتردد مجلس الأمن في اتخاذ موقف واضح من مخرجات مؤتمر برلين ،وهذا مايفسر بداية تقديم بريطانيا لمسودة قرار لمجلس الأمن حول نتائج برلين ،هذه المسودة التي سيكون من الصعب تبنيها لوجود انقسام كبير بين الدول الاعضاء الدائمين حول ليبيا، لكل ذلك ويبدو أن الوقت ملائم لإخراج مبادرة الصخيرات الثانية.
*رئيس المركز الأطلسي للدراسات الإستراتيجية والتحليل الأمني
اذكر بأنني قد شاركت في مؤتمر اجتماع القبائل الذي أقيم في طنجة في شهر أبريل عام 2015 تحت رعاية مؤسسية بن جلون….حيث اتفق الشيوخ والمؤثرين والقبائل والمدن الليبية المجتمعة على ميثاق ولكن للأسف لم يكن هناك أي اهتمام من الخارجية المغربية والدول المؤثرة في ذلك الوقت…. يمكنكم مراجعة المؤسسة المذكورة للإطلاع على ما تم الاتفاق عليه
تحيتي استاذي العزيز علي هذا التحليل الرائع شكرااا لك