Share
  • Link copied

تحرير الفطرة !

نولد مع حبل سري طويل، يقطع ويذهب به بعيداً، في أول مظهر من مظاهر حاجة الإنسان للاعتماد على الذات، لنستطيع بعدها إكمال حياتنا مرحلة تلو الأخرى، ولكننا لا نولد بحبل سري للحب، فهو متدفق في عروقنا حاله كحال الدم، فقد جبلت فطرتنا على ذلك، طالما يبدو العقل بعيداً عن “منغصات الفطرة”.

 إذ يضع الكثير حجاباً يفصل بين عقله وقلبه في “تقنين ” الشعور الداخلي سيما المتعلق بحب الآخر، حباً يتفق مع قبوله كأخ متشارك معنا في الإنسانية، وبالتالي فإن حسر التعاطف والتسامح والود والتعارف بناءاً على “كوتة” محددة يعتبر سلوكاً جائراً وجحوداً ظاهراً لفضل الله علينا بنعمة الفطرة السليمة السوية، وكما يقول نبي الرحمة -صلى الله عليه وسلم-، مخاطباً: ” يا أيُّها النّاسُ، ألا إنّ ربَّكم واحدٌ، وإنّ أباكم واحدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على أعجَميٍّ، ولا لعَجَميٍّ على عرَبيٍّ، ولا أحمَرَ على أسوَدَ، ولا أسوَدَ على أحمَرَ إلّا بالتَّقْوى”[1]، وعليه، فإن تقدير نعمة نقاء الفطرة، وتتويجها بعقل متزن يعني رفض العنف، والكراهية، والتمييز، والإرهاب، والتطرف، وكل صور الإساءة للغير، ونحن ها هنا إذا ما أمعنا ووفقنا، نستطيع أن نتجاوز عقدة “إشكالات تعريف الحرية”، سيما إذا ما بنيت العقول على معرفة سوية، مشبعة بتحفيز أخلاقي عدل.

إن التوقف عند هذه المحطات، والإمعان في انحياز العقل البشري عن طريقه، أو ما يصاحبه من ضياع لوجهته خلال مسيرته المعرفية، يحتاج أحياناً للهجة قاسية بعض الشيء، لا توبيخاً بل تنبيهاً لحتمية التعامل المسؤول مع مقدرات الذات ومقدرات الكون المحيط بنا، والذي من خلاله يصار للإنسان أن يبدو صائباً في رحلته الممتدة، وإرثه الباقي! سيما أن إن حياتنا تعج بمظاهر تجاهلنا للعقل، واستخفافنا له من نعمة، على الرغم من الإحساس الدائم بغمرة التميز والفهم والتفرد عن باقي المخلوقات لوجوده.

وحتى نكون صادقين في تقدير ملكاتنا، وتصالحنا مع ذاتنا، فإننا لا نستطيع تجاهل نداءات الفطرة حيثما وجدت، وبخاصة عندما تكون هذه الفطرة سليمة من تشوهات الظروف المحيطة، وذو إرادة في البحث الدائم عما يقومها ويقيمها. وفي ذات الوقت فإننا لا نتخذ موقفاً سلبياً، ولا نهمل ما كرس الإنسان من جهود محققاً للعديد من الإنجازات  الدافعة بصون تلك الفطرة، ولكنها قياساً مع الفترة الزمنية للوعي بحجم التحديات، والمخاطر التي تواجهه تعتبر بطيئة إلى حد ما، ودالةً على عدم التوافق في الوعي وتقدير مدى المسؤولية في الإنسانية العالمية، مما يشير لفوارق عقلية واستيعابية وإدراكية لا تدل البتة على التفوق العقلي بين مجتمع وآخر، بل هي تشير لمدى تحفيز واستثمار وإعمال هذا العقل بين إنسان وآخر، الأمر الذي يفسر وجود نخب علمية ومبدعين ومخترعين في كل مجتمع، كنجوم تسطع في سماء صافية!

*أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة


[1]  شعيب الأرنؤوط (ت ١٤٣٨)، تخريج شرح الطحاوية ٥١٠ • رجاله ثقات، وإسناده صحيح • أخرجه أحمد (٢٣٤٨٩) باختلاف يسير، وأبو نعيم في «حلية الأولياء» (٣/١٠٠) مختصرًا، ومسدد كما في «إتحاف الخيرة المهرة» للبوصيري (٣/٢٢٦) واللفظ له من حديث أبي نضرة.

Share
  • Link copied
المقال التالي