لاشك أن الوضع السياسي الراهن بالسودان يدعو الى استحضار كافة السيناريوهات المحتملة لمسار المرحلة الانتقالية ووضعها على طاولة التحليل من أجل معرفة الاشكاليات الرئيسية التى يعاني منها هذا البلد المنهك سياسيا واقتصاديا وأمنيا، وفى تصورى الشخصي أن إشكالية تعدد مراكز إتخاذ القرار فى الدولة وتعدد قنوات التواصل الخارجى وتضاربها ومسألة ترسيخ السلم المجتمعي كأساس لأي عملية تنموية، هى الصداع الذي قد يدفع بهذه الفترة الانتقالية الى السيناريوهات العبثية التي لن تكون فى صالح أي جهة.
أولا: تعدد مراكز اتخاذ القرار
رغم وجود وثيقة دستورية تؤطر وتحدد خارطة الطريق للمرحلة الانتقالية إلا أن الملاحظ وجود التناقضات بين مكونات الحكومة الانتقالية بشقيها العسكرى والمدني وتداخل للاختصاصات فيما بينها، وما يزيد من إبراز هذا التناقض هو استخدام الإعلام كوسيلة لإيصال الرسائل، وليس عبر الغرف المغلقة كما هو متعارف عليه، فالمكون العسكرى فى السلطة التنفيذية يعد مصدرا لهذا التعدد حيث أن القوات المسلحة وقوات الدعم السريع لكلاهما رؤية فى كثير من القضايا سواء الأمنية أو السياسية، ومن هنا قد تكون الصراعات غير المعلن عنها هى السبب الرئيسي فى خروج تصريحات من هذا الطرف أو ذاك قد يفهم من خلال إشاراتها وجود حالة من عدم الثقة بين هذا المكون العسكرى فى المجلس السيادي، وهو ما ينعكس سلبا على الحياة السياسية داخل البلاد ويثير حالة من عدم الطمأنينة من خشية اتساع الشرخ للدرجة التى قد تقود البلد الى سيناريو لا يتمناه أحد، لاسيما وأن هذين المكونين العسكريين فى مجلس السيادة قد أضيفت إليهما حركات الكفاح المسلح التى دخلت العاصمة الخرطوم عقب اتفاقية جوبا للسلام، وهو الأمر الذي قد يعمق من حدة الخلافات بين أعداء الأمس وشركاء اليوم ، وبالتالى لابد من وجود صيغة توافقية بين هذه المكونات فى حالة تأخر أو تعثر مسألة دمج هذه القوات فى إطار القوات المسلحة السودانية، ومن ثم توحيد الرؤية حتى لا تتعدد الخطابات والقرارات الصادرة من هذه المكونات العسكرية الثلاث فى قضايا وطنية، وحتى لا تظهرها وكأنها تعمل فى جزر منعزلة عن بعضها البعض وبالتالى خلق حالة من عدم الطمأنينة سواء داخل او خارج السودان “المجتمع الدولى”.
ولقد أبانت على سبيل المثال التصريحات بخصوص دخول القوات المسلحة لمنطقة الفشقة السودانية وتحريرها من المليشيات الأثيوبية هذا التناقض ما بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع بشكل لايقبل التأويل، أضف إلى ذلك تلك التصريحات التي قد يكون لها تأثير سلبي على وحدة الصف حتى نهاية المرحلة الانتقالية.
ثانيا: تضارب التصريحات السياسية
من المعلوم سياسيا بالضرورة أن تكون وزارة الخارجية، هى الجهة الوحيدة التى تترجم سياسة البلد الخارجية من خلال التصريحات المتفق عليها داخليا وبشكل مسبق وفقا لما خطته الوثيقة الدستورية التى تأطر المرحلة الانتقالية. لذلك يجب اتباع هذا النسق حتى لا تنعدم الثقة مع المجتمع الدولي وحتى تكسب حكومة الفترة الانتقالية الاحترام من جميع الدول والمنظمات الدولية الداعمة للسودان فى الوقت الراهن، وبالتالى فإن مسألة إيجاد آلية مشتركة فيما يخص السياسة الخارجية أضحى أمرا ملحا خاصة بعد تضارب التصريحات من هنا وهناك، حيث يجب أن تغلب المصلحة الوطنية على أي إعتبار أخر. وبالتالى فإن هذا التعدد فى وجهات النظر بخصوص القضايا ذات البعد الدولى يتطلب القدر اللازم من عدم التسرع وإبداء الاراء بصورة ” ارتجالية” سواء من الشق العسكرى أو المدنى وكأن الأمر مجرد رأي شخصي لهذا المسؤول وذاك بل يجب إحالة الامر برمته للجهة المسؤولة عن الشأن الخارجي فى الدولة ممثلة فى وزارة الخارجية وهى الجهة الوحيدة المنوط بها التحدث فى القضايا ذات البعد الإقليمي أو الدولى عبر قنواتها الرسمية حتى يكون أي قرار صادر أو أي موقف تتخذه السلطة الانتقالية هو تعبير صريح عن رأي أو قرار السلطة بشقيها المدني والعسكري، وهو مايجعل من عملية التوافق هذه جسر آمن يعبر به السودان لما بعد المرحلة الانتقالية بشكل تصبح فيه مسألة تضارب الاراء والتصريحات فى الشأن الخارجي أمرا غير مقبول.
ثالثا : السلم المجتمعي كشرط للبناء السياسي
أعقب تشكيل الحكومة الانتقالية العديد من التفلتات الأمنية فى مناطق متفرقة بالسودان تدثر بعضها باستحضار البعد القبلى جاعلا من القبيلة المرتكز الأصيل لفرض رؤي سياسية معينة ورفض سياسات تدعمها الحكومة المركزية التى جاءت بها الثورة، وبالتالى عزف الكثيرون على وتر القبيلة وهو الأمر الذي خلق حالة من الاحتقان بين مكونات قبلية عاشت لسنوات طويلة فى سلام ووئام وتعاون واحترام سواء فى شرق أو غرب أو شمال أو جنوب السودان، وبالتالى أدى هذا التحول داخل النسيج المجتمعي إلى خلق حالة من الارباك خاصة مع البطئ فى إتخاذ الاجراءات اللازمة والصارمة من الجهات المسؤولة سواء من الناحية السياسية أو الأمنية أو العدلية، وذلك حتى يتم السيطرة على هذه “الفتن” المتعمدة التى تضرب نسيج الوحدة الوطنية ومن ثم السلم الاجتماعى فى بلد متعدد الأعراق والثقافات.
فى تصورى الخاص إن السلم المجتمعي يجب أن يكون له النصيب الأوفر من المداولات و السياسات الموجهة التى تخدم هذا الأمر، فكل شعارات الثورة المتمثلة فى الحرية والسلام والعدالة، بحاجة الى مجتمع معافى من الأمراض القبلية التى تصرف فكرة الالتفاف حول الدولة ومؤسساتها الى خيار اللجوء الى القبيلة واعتبارها هى الأساس لا الدولة، لذلك فإن السلم الاجتماعى ليس خيارا يتناقش فيه السياسيون بشكل ترفي، بل هو الأساس الذي ستنطلق منه شرارة أي تغيير حقيقي داخل هذا البلد المتعدد الأعراق. وبالتالى يجب أن يسير أي تفاق للسلام أو وقف أصوات البنادق والمدافع وأزيز الطائرات وحممها على رؤوس المواطنيين الأبرياء مع أمر لا يقل أهمية وهو تحقيق السلم المجتمعي. ويجب ضمان هذا السلم الاجتماعى وجعله هدفا استراتيجيا من خلال دعم وإتباع كل الطرق الكفيلة برتق النسيج المجتمعي، وبالتالي خلق ثقافة جديدة تعظم من شأن المساواة بين جميع أبناء هذا البلد ووضع كافة التشريعات القانونية اللازمة لفرض هذا التوجه والتعامل بحزم شديد مع كل من يحاول العبث بهذا السلم المجتمعي، حتى يكون عبرة لكل من تسول له نفسه خلق حالة من عدم الاستقرار المجتمعي، سواء لأغراض سياسية ضيقة، أو من أجل تنفيذ أجندات داخلية أو خارجية تهدف الى زعزعة الاستقرار فى هذا البلد لاسيما بعد تشكيل حكومة الفترة الانتقالية التى من المفترض أن تعبر بهذا البلد الى التحول الديموقراطي الحقيقي الذي يعلي من شأن المواطنة للجميع. ولأجل ذلك يجب أن يوضع هدف السلم المجتمعي على سلم الأولويات من أجل ضمان التحول المنشود والذي سيتعثر لامحالة إذا كان الولاء فيه للقبيلة وليس للدولة.
يمكن التقرير أن إشكاليات تعدد مراكز اتخاذ القرار داخل النسق السياسي للحكومة الانتقالية مع تعدد وتضارب التصريحات من المسؤوليين داخل الدولة إضافة لمسألة ضمان وتحقيق وترسيخ السلم المجتمعي، هى المثلث الحاضر بقوة منذ بداية المرحلة الانتقالية وبمعالجتها تستطيع الدولة العبور الى المراحل القادمة بكل ثبات وطمأنينة من أجل تحقيق كل الأهداف المعلنة.
- باحث فى العلوم الدستورية والسياسية، الولايات المتحدة الامريكية، كاليفورنيا
تعليقات الزوار ( 0 )