جلست هنيهة مع نفسي فخطر لي خاطر ،فقلت لم لا أصيده كما فعل اين الجوزي في صيد الخاطر ،وأخدت أتأمل الموسيقى العربية بجميع مقاماتها من حجاز وصيكا ونهاوند ورصد ، منذ عهد البرامكة وملك العود زرياب ومغنية المغنين مهج ونغم والخيزران كما سطرها ووثق أصواتها أبي الفرج الاصبهاني في كتابه الموسوعي الفريد من نوعه الأغاني ، وهو أول كتاب على ما أعتقد في الأصوات ، ظل عاكفا عليه ، على مدى خمسين عاما. الى غاية ما توصل اليه الفارابي في علم الموسيقى وما أضاف الي العود من أوتار.
وهذه الموسيقى هي التي تأثرت وأثرت في موسيقى الشرق الأدنى والأقصى في تلاحق حضاري وثقافي تمثل في الموسيقى الفارسية والأذريبجانية والتركية والهندية ، ووجدت أن هذه الموسيقى تشكلت من معينين أساسين هما الحب في قصائد الشعراء المتيمين كقيس بن الملوح ، وجميل بثينة وبالحزن من مفارقة المحبوب والعاشق والمعشوق سواء كان عبدا أو معبود ، ولهذا ارتبطت الأصوات بالشطح والصعق الى حد إلقاء النفس في النار وكثيرا ما حكي من ناس خروا صرع ، من الوجد والتواجد ، وماساد من السماع الصوفي قال أبو حامد الغزالي: «من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج.
ومن ذلك الإنشاد المرفوق برقص يشبه حركة الأفلاك، ولذلم كان الدين الاسلامي والمسيحي أثره في الزوايا والأديرة ، حيث كانت تسود معازف هرمونية قادحة لنورانية وروحانية العارفين ، فكانت الموسيقى العربية لغة المشاعر والأحاسيس ،والعواطف المرتبطة بالشجن ،والبكائيات ، فكان صوت الناي يخرج من الحنجرة والقصبة الهوائية تعبيرا من أعماق الأنفاس للراعي مع غنمه العجماء، عن الوحدة والتوحد ، وكان صوت الطبل إيذانا بقرع طبول الحرب وتعبير عن الهلع والخوف ، ومن جهة أخرى بث لروح الحماسة في المقاتلين ، درءا لصليل السيوف التي عند التقائها تحدث نقرا صوتيا بشبه نعيق النسور الجائعة واقتراب الآجال، في ساحة الوغى وحوافر الخيل العاديات وهي تتقاذف الشرر ، وهي كذلك رقرقات القانون كخرير المياه ، في الواحات الخضراء كجنات وسط الرمال ، لكن هذه الموسيقى كأنها حكي لمغامرات ، الصعاليك ، عروة بن الورد والسليك يمر كالريح وتأبط شرا ، ومالك بن الريب، ولا تتعدى هذه الموسيقى الى أبعد من ذلك ، أنها طربية وحزينة كمنمنمات ومكعبات الزليج التي تتكرر كما ينكرر ،اسم الجلالة في أذكار المريدين في الخانقات والمساجد ، والخرائب والأطلال.
لكن الموسيقى الغربية تجاوزت العزف الطربي الحزين والراقص، المنفرد اللحظي، الى الموسيقى التي تعبر عن العقل والأفكار الفلسفية الكبرى ، كما هي موسيقى فاجنر الذي عبرت عن فلسفة نتسه وإرادة القوة ، أو موسيقى بيتهوفن في ضربات القدر.
ولذلك لم تكن هذه الموسيقى موسيقى مقامات وأحوال ، ولكنها موسيقى لا تعتمد الرتابة ، والسكونية بقدر ما هي موسيقى انفجاري كأنما هي تعبير عن البركان ، لا تتوقع حركاتها صعودا وهبوطا قوة ة وضعفا وارتفاعا وخفوتا، هنا عندنا المشاعر والأحاسيس والتجارب الروحية الكبرى وهناك عندهم صلابة التجربة وصرامة العقل ، لكننا مع ذلك نغترف من معين الجمال وهم يغترفون من صور الجلال، كرسومهم ومنحوتاتهم الرومانية العارية كعري الحقيقة ، هنا الإيمان وهناك التحدي والإنكار .
تعليقات الزوار ( 0 )