إدريس بن يعقوب
ثلاث محطات رئيسية في عملية تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط خلال العقدين الأخيرين، تؤكد فرضية الرهان الحقيقي لأمريكا من وراء ذلك وهو مزيد من إشعال التوترات والمواجهات العقدية بين الشيعة والسنة.
قبل أن نبرز هذه المحطات الثلاث الكبرى نحاول رسم الإحداثيات السياسية و المحددات المنهجية للتدخل الغربي بقيادة أمريكا في منطقة الشرق الأوسط.
العنصر الأول هو كون الصراع والمواجهات بين الشرق العربي والإسلامي مع الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، كان متركزا بشكل مطلق بين التوجع الاسلامي السني بجميع تياراته المعتدلة والمتطرفة وبين الغرب.
اشتباك حضاري وسياسي و إيديولوجي وتنظيمي. هذا الصراع جسدته على مستوى التأطير الفكري والنظري، منذ سقوط الخلافة الاسلامية، حالات السلفية و تنظيم الإخوان المسلمين عبر البلاد العربية والإسلامية من شمال إفريقيا و الشرق الأوسط وآسيا. على مستوى المواجهات الميدانية تمثل هذا الاشتباك التاريخي في حالات المقاومة ذات النزعة الإسلامية السنية، سواء في فترة الاستعمار الغربي للمنطقة وأيضا في المقاومة المسلحة الفلسطينية ضد إسرائيل، أو في فترة ما بعد حرب الأفغان ضد الاتحاد السوفييتي، وبداية مواجهة سنية غربية متطرفة جنحت إلى استعمال العنف مع ظهور طالبان و تنظيم القاعدة، ثم تنظيم الدولة الإسلامية، والتي هددت أمن ومصالح الغرب بشكل كبير.
إلى جانب ذلك تميزت العقود الأربعة الأخيرة بتوسع المد الإسلامي السني في المنطقة العربية، مع ظهور حركات إسلامية متعددة وأحزاب خرجت من هذا التوجه أصبحت تطالب بمساحة أكبر في تأطير المجتمعات والشعوب العربية وفي تدبير الدولة القطرية. و بعضها دخلت في اشتباكات عنيفة مع أنظمة سياسية عربية أبرزها الصراعات في الجزائر فترة التسعينيات من القرن الماضي. هذه التوجهات السنية السياسية شكلت تهديدا لمصالح الغرب في المنطقة وتهديدا للأنظمة السياسية القائمة، وأصبحت عنصرا فاعلا في معادلات بناء الدولة و عاملا خطابيا وتتظيميا معارضا لتوجهات الأنظمة المدعومة من الغرب.
في ظل هذا السياق، لم يشكل التوجه الشيعي أي تهديد حقيقي لمصالح الغرب، ولم يكن فاعلا في السياق الدولي والإقليمي والتأطيري السياسي للجماهير العربية، بل كان دائما ذا ردود فعل دفاعية محدودة لاعتبارات عقدية أهمها التقية التاريخية في انتظار ظهور الإمام الأكبر لقيادة العالم.
وبالتالي أصبح الغرب في مواجهة قوة إسلامية سنية متعاظمة ستصبح مع الوقت مخاطبا رئيسيا وحقيقيا في المنطقة، أمام فشل حكامها في الإحاطة بمجتمعاتهم، رغم أنه كان هناك اشتغال عميق على تقسيم هذه القوة إلى تيارات متعددة ومتصارعة بين سلفياتها وإخوانها غير أنها في آخر المطاف لم تعط كل النتائج المرجوة.
كان أبرز تحدي للغرب في المنطقة هو كيفية خلق صراع عقدي داخلي، وإدخال لاعب جديد أكثر براغماتية في التفاوض مع الغرب وأقل عنفا وتهديدا للمصالح الغربية، وبالتالي اعتبر الرهان على خلق هذا الصراع أهم خطوة اشتغل عليها ونظر لها الاستراتيجيون في أمريكا، توجت بتوجهات سياسية وعسكرية في المنطقة متخفية الهوية.
هذا التوجه تجسد في ثلاث محطات رئيسية خلال العقدين الأخيرين أعطت نتائج مذهلة وملموسة، ظهرت للبعض فشلا أمريكيا غير أننا يمكن أن نصفه بالفشل الوهمي الوظيفي من أجل إيهام جهات بضعف أمريكا وقوة الخصوم، كما فعلت أمريكا مع عراق صدام حسين عندما اوهمته إعلاميا بالعظمة ثم اجتثت نظامه في بضع أيام.
المحطة الأولى التي أفرزت تفوقا شيعيا مصطنعا هي الغزو الغربي للعراق وإشراك إيران و حلفاؤها من تنظيمات شيعية عراقية في القرار السياسي والأمني والاقتصادي العراقي، نتج عنها سيطرة شبه تامة للشيعة على المؤسسات السياسية والدستورية. هذا الوضع خلق خريطة سياسية إيديولوجية ودينية جديدة في المنطقة بإزاحة دولة بترولية بموارد بشرية وعسكرية مهمة، من الحلف السني واصطفافها في الجانب الشيعي بما يعنيه ذلك من توترات مع السعودية وباقي دول الخليج السنية.
المحطة الثانية كانت حرب يوليوز 2006 بين حزب الله الشيعي اللبناني وبين إسرائيل. حرب جيشت الشعوب العربية، أطرها خطاب أمريكي يبشر بفوضى خلاقة وصل مداها إلى ما بعد الربيع العربي مع ارتفاع موجة المد الإسلامي. حرب تحكمت في بدايتها ونهايتها الولايات المتحدة الأمريكية ابتداء من دعم ايهود اولمرت وتشجيعه على خوضها، ثم على إنهائها بعد إستصدار قرار أممي من مجلس الأمن الدولي بإيقافها.
هذه الحرب أدخلت إلى وجدان الشعوب العربية بأن الشعية قادرون على تحرير الأمة ومحاربة الغرب وبالتالي كل الموالون له في الأنظمة السياسية العربية. حرب أو معركة خلقت وهما بهزيمة إسرائيل والغرب من أجل إعطاء مشروعية جديدة للتيار الشيعي وجعله طرفا في تحديد مصير المنطقة وبالتالي إدخاله إلى الصراع مع التوجهات السنية المناوئة للتشيع.
هذه المعركة الجزئية توجت بتسليم رأس صدام حسين في يوم عيد الأضحى، وما يعنيه ذلك من تغذية للكراهية بين المعكسرين الشيعي والسني و بالتالي تطعيم الصراع العقدي بشكل اقوى. ثم تلتها سيطرة الشيعة على الأنظمة السياسية لليمن وسوريا ما بعد موجة الربيع العربي و نظرية الفوضى الخلاقة.
المحطة الثالثة والأخيرة وهي اغتيال الجنرال قاسم سليماني على أرض العراق، وهو أحد الرموز والقادة السياسيين والعسكريين في ظرف تميز بانشقاقات داخلية إيرانية. هذا الاغتيال وحد من جديد إيران وأعطى اشعاعا للشيعة في المنطقة برمتها، وأبرز بشكل أو بآخر تخاذل العرب والسنة والأنظمة المتحالفة مع أمريكا.
الاستراتيجيون الأمريكيون لا يهمهم خسران معركة جزئية، إذا كانت هذه الخسارة أو الهزيمة السياسية أو حتى العسكرية ستلبي هدفا استراتيجيا أكبر وهو خلق تطاحن وصراع مفيد لها، صراع عقدي بين الشيعة والسنة يساهم في إضعاف المعسكرين على المدى المتوسط والبعيد ويسمح بعودة الولايات المتحدة والغرب إلى المنطقة بعد إضعاف الطرفين في حروب استنزاف تخلق التفرقة والانقسامات داخل نفس الدين والمنطقة. تارة يدعم الغرب الحلف السني وباقي أنظمته وتشجع الأطراف السنية بما في ذلك تركيا على القيام بمبادرات عسكرية، وتارة تدعم الطرف الشيعي عن طريق الاتفاقيات المكتوبة كالاتفاق النووي، أو عن طريق خلق شهداء في صفوفه ومنحه انتصارات عسكرية تجيش الشعوب العربية والإسلامية بأكملها.
هذه المحطات أفرزت نتائج عميقة على الذهنيات في المنطقة، وخلقت نوعا من التشيع السياسي الوظيفي حتى بالنسبة لفصائل وتيارات سنية، كما ساهمت في انتشار وارتفاع أعداد التنظيمات المؤثرة إقليميا في المنطقة، ابتداء من لبنان والعراق وسوريا وامتدادا إلى اليمن والبحرين، وربما الى مناطق عربية أخرى لا تزال في طور البناء والتشكل.
وقد يكون التخوف من هذا الوضع هو ما أدى إلى مخاطبة الملك محمد السادس الشعوب والقادة في قمة الخليج سنة 2016 بمفردات غيرمسبوقة، حيث خاطب باقي قادة الخليج بلغة غير مسبوقة، من أهم ما جاء فيها ” فماذا يريدون منا ؟ إننا أمام مؤامرات تستهدف المس بأمننا الجماعي. فالأمر واضح، ولا يحتاج إلى تحليل. إنهم يريدون المس بما تبقى من بلداننا، التي استطاعت الحفاظ على أمنها واستقرارها، وعلى استمرار أنظمتها السياسية”.
قراءة وانتقاد داخل الحلف السني، سببه غياب رؤية عربية سنية لمستقبل المنطقة، نابع من قراءة واقعية واستراتيجية لوضع يتميز بتخبط عربي سني و فشل في تدبير وتوصيف الأزمات الإقليمية كأزمة اليمن وسوريا وليبيا، والتدخلات في الشؤون الداخلية للدول العربية. إلى جانب كونه وضع يتسم بخطورة محدقة بالحدود الثقافية والاقتصادية أيضا للمغرب. مخاطر لخصها الملك محمد السادس في فقرة مهمة من خطابه المذكور حيث قال ” غير أن هناك تحالفات جديدة،قد تؤدي إلى التفرقة،وإلى إعادة ترتيب الأوراق في المنطقة. وهي في الحقيقة، محاولات لإشعال الفتنة،وخلق فوضى جديدة،لن تستثني أي بلد.وستكون لها تداعيات خطيرة على المنطقة،بل وعلى الوضع العالمي”.
هذه القراءة بدأت تظهر معالمها بشكل جلي وواضح في المنطقة حاليا، ليس فقط في منطقة الخليج بل قد تصل شظاياها الحارقة إلى منطقة شمال إفريقيا وأيضا إلى عمق القارة الإفريقية.
داخليا، المغرب مطالب بالاحتكام إلى المنطق الديمقراطي التشاركي بدون إقصاء حساسية أو إيديولوجية سياسية أو دينية، من أجل توحيد الصف الداخلي وتقوية المناعة الثقافية والسياسية. على المستوى الخارجي ورغم الظغوط التي قد تتعرض لها المملكة من قبل عدد من دول الخليج أو الدول الغربية، فيتعين عدم الانجرار في أي مواقف متسرعة أو تدخلات ميدانية غير ناضجة، مع ضرورة استعمال الديبلوماسية الدينية في جميع أشكالها المتجلية في إمارة المؤمنين العلوية.
*باحث في العلوم السياسية بجامعة محمد الخامس بالرباط
تعليقات الزوار ( 0 )