لقد قرأت بلاغ الديوان الملكي ل28 يونيو 2024 من زاويا متعددة. حاولت أن ألامس أو أحلل بعض القوى العاملة في بنيته الكلامية، مستعينا بخلفية نظرية وعلمية، وببعض أدوات تحليل الخطاب، مهتما باستكشاف أهم العناصر المؤثرة في إنتاج هذا “الخطاب”، ومحاولا الإيجاز في بحث مدى ملاءمته وتطابقه مع عدد من توجهات وأسس الدولة المغربية ككل، وإلى أي حد يحمل البلاغ خطابا ايديولوجيا يبخس ضمنيا دعاة الانفصال على المرجعية الدينية، ويرفع من قيمة الاحتكام إلى قواعد الفقه الاسلامي وأصوله التشريعية.
خلال تفحص البلاغ المذكور برزت أمامي عدة أسئلة بحثية، أعتقد أنها ستثير حفيظة الباحثين في القانون الدستوري وفي العلوم القانونيه عموما. من أهم هذه الأسئلة: هل يمكن أن نقول أن الملك يؤسس لمعايير مرجعية مسبقة لمطابقة دستورية النصوص التشريعية، قبل عرضها على مؤسسة البرلمان للمصادقة عليها، وبالتالي تقييد النواب أمام صلابة الفتوى الشرعية المعتمدة من قبل المجلس العلمي الأعلى بعد تبنيها من قبل الملك؟
ألا يمكن أن نقول أننا بصدد إحداث انفصال مؤسساتي غير سليم أو على الأقل يمارس بشكل غير ملائم، بين مفهوم الدولة ومؤسسات الرقابة والقضاء خصوصا المحكمة الدستورية الموكل إليها مراقبة مطابقة النصوص القانونية للدستور؟ هل نحن إزاء ولادة محكمتين دستوريتين، واحدة “دنيوية” (المحكمة الدستورية) تراقب قوانين الاقتصاد والمالية والسياسة والمجتمع والثقافة والتعليم والرياضة والربا أو الفوائد البنكية، رغم أنها قد تحل ما حرم الله وتحرم ما أحل الله، النقاش حول الربا نموذجا، حيث يدفع جمهور العلماء أنها حرام بنص قرأني، وهي عموما مفهوم سلبي أخرج من سياقه الديني ليتعلمن المفهوم ويصير إيجابيا في شكل فوائد بنكية، كتب عن دورها الخطير حتى في الدول الغربية، و”محكمة” دستورية دينية هي المجلس العلمي الأعلى، التي تتدخل بشكل قبلي فقط فيما يقرر لها من مواضيع دينية وعلى رأسها مدونة الأسرة؟ ألا يعتبر هذا تجزيئا للدين والتدين، ليصير الدين هو قانون الأسرة، يتكلف به العلماء والفقهاء الكبار، وأنه لا شأن لهم بالاقتصاد والسوق وتغوله على المسلمين ولو في عيد أضحى، ولا شأن لهم بباقي الأمور، مما يشبه النظام الكنسي المعلمن؟ وهل تصلح إمارة المؤمنين المغربية لممارسة مثل هذه التوجهات العلمانية المكشوفة غير المنسجمة مع تاريخ المؤسسات التي تفصل بين الملك وبين إمارة المؤمنين كأساس ديني للحكم في المغرب؟
لاحظت أيضا أن البلاغ أسس ما يشبه الكتلة الدستورية، le bloc de constitutionnalité، أي صناعة معايير مرجعية لمراقبة سلوك الدولة التشريعي، ما فوق نص وثيقة الدستور وخارجها، ذلك أن قواعد الفقه الإسلامي واجتهادات المالكية والعلماء وتفسيراتهم للنص الشرعي، هي ليست نصوص قانونية يحيل على الدستور علنا، وإنما أوجدها بشكل ضمني في إطار أعراف مؤسسة إمارة المؤمنين.
وبذلك فإن بلاغ الديوان الملكي يؤسس لمستوى آخر من الشرعية، وهو مستوى خارج نص وثيقة الدستور، واضعا “مبادئ وأحكام الدين الإسلامي الحنيف، ومقاصده السمحة” كما جاء في البلاغ، في مستوى يفوق الدستور ويفوق تقديرات واجتهادات المحكمة الدستورية، التي هي أيضا ستراقب نص المدونة إذا أحيل عليها بعض المصادقة عليه في البرلمان، غير أنه من الآن وضعت حدود لرقابة هذه المحكمة على المدونة، بألا تتجاوز ما صدر من فتوى شرعية تم قبولها من طرف الملك. وبالتالي هل ستصير الفتوى الشرعية الصادرة عن المجلس العلمي الأعلى، ضمن مرجعية المحكمة الدستورية لمراقبة العمل التشريعي وأيضا مراقبة شرعية أعمال السلطة التنظيمية وتحديدا الحكومة، من قبل محاكم المملكة؟ وهل تشمل هذه المرجعية الإفتائية فقط مواد الأسرة أم يمكن أن تتوسع إلى جميع النصوص التشريعية في كل مناحي الحياة؟
في نظري أن هناك خلل مؤسساتي، ربما آن الأوان أن يتم تداركه من خلال اجراء اصلاح جريء وشامل، يهدف إلى التقعيد المعياري لمؤسسة إمارة المؤمنين، لتتدخل بهذه الصفة الشرعية الافتائية كمرجعية ما فوق الدستور في جميع مفاصل الحياة، تماشيا إلى حد بعيد مع مفهوم الكتلة الدستورية، الذي يتجاوز وثيقة الدستور مثلا في فرنسا إلى قواعد ومبادئ واهداف وديباجات حقوق واتفاقات دولية وغيرها أسسها القاضي الدستوري كمرجعية فوق الدستور لمراقبة عمل تشريع الدولة.
فإمارة المؤمنين وفق منطق البلاغ، خصوصا فيما يتعلق “بعدم السماح بتحليل حرام أو تحريم حلال”، فهي توجد في صلب الدولة وفي صلب المجتمع بحمايته من أي خروج عن مبادئ الإسلام، طبقا لقواعد الاعتدال والانفتاح والاجتهاد تماشيا مع ما يقدمه العصر من تطورات وأيضا من اكراهات. وقد حمل البلاغ خطابا ايدلوجيا مضمرا، يميل إلى ترجيح كفة البعد الديني التقليدي المحافظ، على كفة دعاوى الحداثة والتوسع في الحريات والحقوق ولو كانت ضد نص القرآن مثلا.
لذلك فالذين يريدون أن يجعلوا من إمارة المؤمنين نموذجا “كنسيا” علمانيا يمارس “الفقهوت”، ويحصروا مجال تدخلها في مدونة الأسرة، وفي قناة محمد السادس للقرآن الكريم، لما تقدمه من فتاوى في كيفية الوضوء والصلاة والطواف مثلا، فإنما يحاولون افقادها تلك القوة التأسيسية العظيمة في بناء الدولة بشكل متجانس و وحدوي بدون غلو أو إكراه لمخاطبة العالم بهوية واضحة أصبحت مطلوبة أكثر من أي وقت مضى في عالم يعود فيه الدين والهويات الوطنية بشكل أقوى إلى الفضاء العام.
فلا يوجد مثلا نص يمنع الإفتاء الديني في ممارسات منافية لقواعد التنافس التجاري الشريف، وفي المضاربة والاحتكار، وفي كيفية استيفاء الضرائب بين الفقراء والأغنياء وفي الزكاة، وغيرها من المواضيع التي قد يكون الإفتاء فيها مفيدا، بحيث يمكن أن يصبح مرجعا تتأسس عليه نصوص قانونية وتنظيمة في مادة الاقتصاد تفك المغاربة من جبروت السوق وتغوله. إضافة إلى ذلك فإن للإفتاء الشرعي دور بيداغوجي يهدأ النفوس، ويجبر الضرر المعنوي، ويزجر المخالفين ويزيد من قوة إمارة المؤمنين، التي تعتبر المؤسسة الوحيدة، حاملة مشروع بناء دولة عبر تاريخ المغرب، وتمكنت من توحيد المغاربة والمغرب لزمن طويل، لذلك ربما نكون حاليا بحاجة ماسة لإصلاح هذه المؤسسة من جديد، وجعلها تمتد وتتزاوج مع باقي مؤسسات الدولة بهوية مغربية خالصة.
تعليقات الزوار ( 0 )