التسويات السياسية بين الدول لا تمر بالضرورة عن طريق التفاهمات الاقتصادية أو التحالفات العسكرية، وإنما هي ممكنة أيضا عن طريق القوة الناعمة أيضا.
قد تكون البراغماتية الاقتصادية المعبر عنها صراحة من قبل دولتين، من خلال البحث عن الأرباح، حلا لمشاكل سياسية عالقة. ومع ذلك فهي ليست دائما الحل الأمثل للمشاكل المتعددة بينهما. في كثير من الحالات تظهر بوادر الحلول في مفاتيح، مهما بدت صغيرة ومهمشة، إلا أنها فعالة ومؤثرة بإمكانها تغيير مسار شعوب بأكملها.
الذهنيات السياسية المستعصية على تمرير قناعات الوحدة والتوافق والانفتاح، يمكن أن يتم الإلتفاف حولها، عبر ممر الحوار والاعتراف بالتلاقح الثقافي بين الشعبين. وهنا لا بد من التدقيق في الفاعل الثقافي، ودوره في مد الجسور. الشعوب تكره من يحتقرها ويزدري تقاليدها و ثقافاتها، فعندها قد تنغلق على نفسها وعلى هويتها المصنوعة، وثد تختار التشبث بقيادة سياسية وإن كانت تصب مزيدا من الزيد على نار الأحقاد الثقافية.
وعندما نتحدث عن الحوار الثقافي، فهو ذلك الحوار الذي يقوده المثقفون باستقلالية عن التسلسلية الرسمية. بمعنى أنه غير خاضع لهياكل وزارات الخارجية أو مبني على اتفافات سياسية. هذا الحوار تعتمل فيه رغبات تجاوز الانغلاق، وتترسخ فيه قناعة المصير المشترك، بعيدا عن عقلية التسيد الثقافي الذي ترفضه كرامة الشعوب.
ولعل محاور هذا الحوار مفتوحة تمتد من القراءات العقدية والفقهية للدين المشترك، إلى جميع السلوكات الثقافية الاجتماعية، من هندام وطقوس للطعام والعمارة والشعر والأدب و الفنون و الرياضة وغيرها.
ولا يخونني الحدس إذا افترضت أن أزمة العلاقة بين المغرب والجزائر، تكاد تكون في عمقها أزمة اعتراف ثقافي متبادل، أو أزمة ثقة ومصالحة ثقافية، التي لن تحسمها السياسة بالمطلق، وإنما علاجها لن يكون سوى في محراب المثقف المغاربي.
ولأعطي مثالا عن وجود رفض ثقافي متبادل بين المغرب والجزائر، والذي لا شك طعمه الاستعمار الفرنسي. أستدعي ذاكرتنا للنظر في مراجع الاختلاف الفقهي الإسلامي بين البلدين، باعتبار الدين محركا نفسيا وعصبيا للثقافة وللسلوك الاجتماعي للشعوب، أكثر من أي عامل آخر.
وهو من جهة أخرى تمارس على أساسه بعض السياسة في المنطقة، وهو أحد نقاط الاختلاف الجوهرية بين البلدين. لا أذكر أننا فتحنا الحوار بشأنه بين البلدين، عكس الحوار الفقهي والديني بين المغرب وتونس مثلا.
ولعل أحد الأسباب هو غياب بنية علمية عريقة تعيد إنتاج قيم الإسلام في الجزائر، كما هو الشأن في جامعة الزيتونة في تونس والقرويين بالمغرب.
خلال القرن الماضي وتحديدا مع مطلع الثلاثينيات منه، عندما أسست جمعية العلماء في الجزائر على يد الشيخ عبد الحميد بن باديس والشيخ البشير الإبراهيمي وغيرهما، وقبلها عند تأسيس نادي الترقي في أواخر العشرينيات، كان محرك هؤلاء العلماء مدارس فقهية ومذهبية مشرقية سعودية ومصرية تخرجوا منها. كانوا متأثرين إلى حد كبير بالفكر الوهابي والعروبي، وهي في عمقها مدارس متناقضة إلى حد ما مع المدرسة الفقهية المغربية والأندلسية.
لم يكن أحد من علماء الجمعية متخرج من القرويين مثلا أو له علاقات مع علماء المغرب. لم يتأثروا برواد السلفية المغربية الوسطية ذات البعد المقاصدي الإجتماعي، كأفكار علال الفاسي أو بعلماء المغرب، بقدر ما تأثروا كثيرا بالمشارقة أمثال محمد عبده وغيره.
كان هاجس الجمعية الرئيسي هو إرجاع شباب الجزائر إلى الدين الإسلامي وإلى اللغة العربية. فقد كان الضرر كبيرا، عرضه لهما الاستعمار الفرنسي، من تدمير ممنهج وواضح وعميق جدا.
من بين ما قامت به جمعية الشيخ بن باديس أنها ركزت في البداية على إنشاء عدة دور لتحفيظ للقرآن. ثم ساهمت في تأسيس الكشافة الإسلامية، التي تعد مشتلا للثوار الجزائريين. شاركت في إنتاج وجوه ورموز وشهداء الثورة الجزائرية، منها مراد ديدوش و هوراي بومدين وعدة قادة عسكريين.
وكان لافتا أن يسمي الثوار الجزائريون أنفسهم بالمجاهدين. وهي الصفة التي يحملونها إلى اليوم، معتبرين أن ثورة 1954 هي جهادا دينيا قبل كل شيء، وأن كل الذين قضوا شهداء بالمعنى الديني للكلمة، بل أن وزارة المجاهدين مستمرة في الحكومات الجزائرية إلى الآن.
كان الرئيس الراحل التقدمي أحمد بن بلة ضد الجمعية فقام بحلها. غير أن الرئيس الراحل هواري بومدين، كان معترفا بجميلها و متأثرا بها في عدة قرارات ذات طابع ديني اتخذها كبناء مساجد مثلا.
كانت الدولة الجزائرية تعي أن هناك فراغا قاتلا في التأطير الديني، خصوصا في غياب جمعية العلماء المنحلة. لذلك فإن الرئيس الراحل الشاذلي بنجديد، ولملأ هذا الفراغ، استقدم عدة دعاة وعلماء كبار من المشرق العربي بدل الاستعانة بعلماء تونس أو المغرب. وكان لهؤلاء العلماء من المشرق تأثير قوي على نخب الجزائر، انطلاقا من جامعة قسنطينة تحديدا.
كان من أبرز العلماء الأزهريين الشيخ محمد الغزالي الذي مر من جماعة الإخوان المسلمين ثم انسحب منها بسبب خلافات في تصور إدارة الصراع أو العلاقات مع الدولة. وقد مكث في الجزائر مدة ليست بالقصيرة. كون خلالها أجيالا وأطرا كثيرة، ساهمت في ظهور الفكر الإسلامي من جديد في الجزائر، وفي نشأة الحركة الإسلامية، وعلى رأسها جبهة الإنقاذ الإسلامي بزعامة عباس مدني وعلي بلحاج.
بعد ذلك لم يكن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة بعيدا عن هذا التوجه، أي البحث عن الذات الثقافية. سعى بوتفليقة إلى تعزيز الثقافة التقليدية في الفضاء العام، من خلال فتح المساجد وإطلاق دروس دينية والاهتمام بالتقاليد العمرانية تشبها بالمغرب إلى حد كبير.
هذه عناصر من جملة عناصر كثيرة تساعد على فهم مسعى الحركة الوطنية الجزائرية، خلال الاستعمار الفرنسي، و مسعى الدولة الجزائرية غداة الاستقلال، من أجل البحث عن ممرات ترجع الشعب الجزائري إلى هويته والى ثقافته وتقاليده، التي طمس جزء مهم منها إبان الخلافة العثمانية ثم جراء الاستعمار الفرنسي الطويلي الأمد.
إلى هذا يمكن أن نضيف المواجهات المذهبية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وهي خلافات ذات عمق ثقافي ايديولوجي سياسي ومعرفي تنموي بين المغرب والجزائر، منذ الحرب الباردة. خلافات بين اختيارات الإشتراكية والحزب الوحيد والدولة الراعية في الجزائر، وبين التعدد الحزبي وبعض مبادئ الليبرالية الاقتصادية كاقتصاد السوق والتقاول الفردي في المغرب، باعتبارها توجهات ثقافية اجتماعية وسعت الهوة بين البلدين والشعبين.
غياب الحوار الثقافي المنتظم والدائم بين البلدين، زاد من حدة الجفاء والنفور وعدم التجاوب السياسي. ولا أذكر أن لهم من العلماء من طلب لإلقاء درس في الدورس الحسنية مثلا، أو للمشاركة في تأطير ندوات دينية إو تكوينية في المغرب، والعكس أيضا صحيح. كما يظهر أيضا الجفاء بين رواد التصوف والزوايا أنفسهم، ليشمل حتى الفنون وباقي الإنتاجات الإبداعية والثقافية.
لذلك يمكن اليوم للمغرب وللمغاربة، أن ينفتحوا من جديد مع الجزائريين في إطار محاولات حوار ثقافي حقيقي، يشمل الدين والأعراف والتقاليد والعمران والخيارات الإقتصادية وتبادل الخبرات والاستثمارات، بدون حزازات استعلائية، بغية اعتراف ثقافي متبادل، قوامه الإحترام والحب الحقيقي بين البلدين والشعبين.
هذا الحوار هو أساس أولي موازي لانطلاق أي اتفاقات مستقبلية في جميع الميادين. حوار ينبغي أن يتفهم العقلية و الذهنية الشعبية الجزائرية التي ترفض أي تعامل مادي اقتصادي بدون اعتراف ومحبة حقيقية. ممكن جدا أن يخسر الجزائري البسيط كل ما لديه في الحرب ضد طرف ما يحتقره ولا يحترمه ثقافيا. في المقابل يمكنه أن يعطيك كل ما يملك إذا كان أعترافك به واضخا ومحترما.
هذه الذهنية هي التي أطرت جزءا مهما من علاقات الجزائر الدولية، خصوصا مع المغرب، فكان جزء من حكام الجزائر لايروقهم حفاظ المغاربة تقاليد عريقة تعطي تفوقا للمغرب، وقد عبر عبد العزيز بوتفليقة عن ذلك في أحد تصريحاته وهو رئيس الدولة.
المهم حاليا هو البحث عن معابر ثقافية صلبة للتوافق مع الجزائر من شأنها أن تزيل أو تخفف أو على الأقل تمهد للسياسي المرور في حقل من الألغام المزروعة في الدهنيات الثقافية، ولم لا مع كل الدول المغاربية.
هذا الخيار تمليه الحاجة إلى التكتل أمام مخاطر زحف ثقافات مسيسة دخيلة، وأيضا للتصدي لزحف مشرقي مخيف وغير منفتح على القيم الانسانية، زحف إعلامي سياسي وأمني عسكري، يهدف للسيطرة على المنطقة ولم يطرق باب المغرب الكبير بلطف.
لا خيار لنا جميعا، فالتهدئة سمة العقلاء وهي صفة المغاربة منذ القدم. فإما أن نحافظ جميعا على هوية المنطقة وأن نشترك في خيراتها واستثماراتها وأرباحها ، ونتجنب الاشتباك المميت، وإما أن نجعلها ساحة تنافس خارجي عربي وعربي حاد وقاتل، لذلك فإنه لا ينبغي أبدا أثناء وضع خطط السياسية والعلاقات الخارجية إغفال دور الفاعل الثقافي الذي بإمكانه أن يحسم النزاعات بقوته الناعمة أو على الأقل يخفف من حدتها، خصوصا مع وجود سياق جزائري جديد ومتحرك ضاغط على النخبة التقليدية، يبحث عن ذاته ويميل إلى حلول عقلانية براغماتية وسلمية.
- باحث في العلوم السياسية بكلية الحقوق أكدال الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )