لا يكف التونسيون عن الفخر، في كل مناسبة، بأنهم منحوا اسم بلادهم القديم «إفريقية» للقارة التي ينتمون إليها. هذا الانتماء يكاد يكون منسيًا في متخيل الشعب عن نفسه. وحدها كرة القدم تقف حارسًا له من الضياع، حيث تلعب مشاركة الأندية المحلية والمنتخب في المسابقات الإفريقية دورًا في تذكير الناس بأنهم ينتمون إلى هذه القارة الشاسعة. تونس ليست نشازًا في المغرب العربي، حيث يستحضر مصطلح «إفريقيا» بشكل عفوي جميع الدول الواقعة جنوب الصحراء. غالبًا ما يستخدم الاسم الاثني «الإفريقي» للإشارة إلى «الآخر» ولكن نادرًا ما يستخدمه المرء للإشارة إلى نفسه. إنه يشير إلى إفريقيا الخارجية، مرادفة لأي مكان آخر أو حتى مسافة ثقافية. باستثناء المغرب الأقصى، الذي يملك علاقات أكثر تعقيدًا مع عمقه الإفريقي لأسباب دينية وسياسية، فإن أي مواطن مغاربي يطلق لقب «إفريقي» على أي فرد من جنوب الصحراء، تمامًا كما نفعل كعرب مع الآسيويين، فكلهم في نظرنا صينيون دون تفرقة بين الكوري والياباني والفيتنامي.
منذ بداية القرن الحادي والعشرين، بدأ وعي المغاربيين بإفريقيا أكثر معايشةً، حيث تدفقت على دول المغرب موجات من المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء. كانت في البداية هجرة نظامية لأفراد يبحثون عن فرص للعمل والدراسة. وفي تونس، كان محورها انتقال مقر البنك الإفريقي للتنمية من ساحل العاج، في أعقاب اندلاع الحرب الأهلية. كان البنك أهم مؤسسة مصرفية إفريقية، ويشغل عددًا كبيرًا من الموظفين من جنسيات إفريقية مختلفة. سيسمح هذا الوجود عبر إفريقيا لشبكة واسعة من المهاجرين بالمرور عبر تونس من خلال علاقات القرابة والتعارف: الأصدقاء وأفراد الأسرة والمعارف. لكن ومنذ منتصف العقد الأول من القرن تحوّلت الهجرة على نحو جذري، حيث اعتبَرت الموجة الثانية من مهاجري جنوب الصحراء بلدان المغرب محطة نحو أوروبا، من خلال رحلة منقسمة إلى شوطين: شوط أول من دول الانطلاق وصولًا إلى تونس والمغرب وليبيا والجزائر عبر الصحراء الكبرى، ومن خلال شبكات تهريب محترفة. وشوط ثانٍ من سواحل المغرب العربي إلى السواحل الأوروبية (إيطاليا وإسبانيا) عبر القوارب، وتتم أيضًا من خلال شبكات تهريب أكثر احترافية.
في تلك الفترة، التي سبقت الثورات التي أطاحت بالنظامين الليبي والتونسي، كان زين العابدين بن عليّ ومعمّر القذافي، يستعملان ملف الهجرة ورقةً في لعبة توازن القوى مع نظرائهم شمال المتوسط، فكان القذافي أساسًا يحمل مشروعًا إفريقيا طموحًا في ذلك الوقت، ويسعى إلى افتكاك اعتذارات أوروبية تاريخية عن حقبة الاستعمار كما فعلت ليبيا مع إيطاليا. وضمن هذا النهج كان يطالب الجانب الأوروبي بدفع خمسة مليارات دولار سنويًا من أجل مساعدة ليبيا على الحد من تدفق المهاجرين رافضًا أن تكون بلاده «حارسا لحدود أوروبا الجنوبية». وحتى العام 2010 شكلت ليبيا وجهةً مفضلةً للمهاجرين من جنوب الصحراء، حيث اعتبرت في ذلك الوقت المنصة الأكثر سهولةً للعبور إلى السواحل الإيطالية، كما أنها تمتلك ميزة توافر فرص العمل للمهاجرين الذين يريدون الاستقرار. كما حافظت أغلب الأنظمة المغاربية -حتى ذلك الوقت- على نوع من التوازن بين الاستفادة من ملف الهجرة في تحقيق مكاسب من الجانب الأوروبي وبين سياسات صارمة لضبط الحدود.
مؤخرًا، بات الحضور المرئي للمهاجر الإفريقي في بلاد المغرب أرضية خصبةً لانبعاث الحركة الانعزالية وخطابها العنصري، لاسيما في تونس والمغرب الأقصى.
بعد التحوّل الجذري الذي حصل في تونس وليبيا، وعلى نحو نسبي في المغرب الأقصى ولاحقًا في الجزائر، تحوّل الثقل الأكبر لحضور مهاجري جنوب الصحراء من ليبيا إلى تونس بسبب الحرب الأهلية، فيما حافظت المغرب على تدفق متواصل لمهاجرين من دول غرب إفريقيا. أدى ضعف السلطة المركزية في تونس إلى اهتراء سياسات ضبط الحدود الصارمة بموازاة صعود نسق هجرة التونسيين غير النظامية نحو شمال المتوسط. في الوقت نفسه زادت الحكومات الأوروبية من تشديد سياسة تطويق حدودها البحرية على نحو غير مسبوق، ليجد عدد كبير من مهاجري جنوب الصحراء أنفسهم داخل قفص حديدي، فلا هم قادرون على العودة إلى دولهم لعدم انتفاء الأسباب التي دفعتهم للمغادرة، ولا هم يستطيعون العبور إلى وجهتهم النهائية في أوروبا.
وفي هذا البرزخ الجغرافي يسعى بعضهم إلى تدبر أمره في الدول المغاربية من خلال العمل، فيما يجد كثيرون أنفسهم دون مأوى. في ظل هذه الظروف الصعبة بدأ قطاع واسع من التونسيين يلاحظون وجود هؤلاء «الغرباء»، فقد تحول المهاجر غير المرئي، والذي كان يصل تونس ومباشرةً يذهب إلى أقرب مهرّب كي يركب البحر إيطاليا، مرئيًا للعيان. وعند لحظة الانكشاف تلك بدأت النزعات العنصرية، وأحيانًا الفاشية، في الظهور. حيث أصبح بعض المواطنين يرون في هؤلاء مصدر تهديد «أخلاقي أو اقتصادي أو حتى ديني».
الخيال التآمري: وعيًا مقلوبًا
هذا الحضور المرئي للمهاجر الإفريقي في بلاد المغرب أصبح أرضية خصبةً لانبعاث الحركة الانعزالية وخطابها العنصري، لاسيما في تونس والمغرب الأقصى. تحت شعار «حماية الهوية» أطلق ناشطون مغاربة حملة على وسائل التواصل الاجتماعي ضد زواج المغاربة من المهاجرين القادمين من جنوب الصحراء «خوفا من انتشارهم داخل النسيج المجتمعي». في تونس يحدث الأمر نفسه منذ شهور، حيث يقود حزب انعزالي يسمى «الحزب القومي التونسي»، حملةً على وسائل التواصل وفي الشوارع ضد وجود هؤلاء المهاجرين بدعوى أن هذا الوجود جزء من مؤامرة تريد العبث بالتركيبة الديموغرافية للبلاد، محذرًا من «مشروع استيطاني لإزالة تونس من الوجود».
ينطلق الحزب، شأنه شأن الأحزاب الشعبوية القومية التي ظهرت في أوروبا بعد الحرب الباردة وشكلت ما بات يعرف باليمين المتطرف، من تحليل تآمري، يجعل من المهاجرين أكباش فداء ومصدر شرّ مطلق، بوصفهم عنصرًا دخيلًا على المجتمع وغرباء يريدون تلويث نقاء الأمة واحتلال مواقع السكان الأصليين في العمل وغيرها من أطروحات ظهرت في أوروبا الغربية، ويعيد التنظيمُ الانعزالي إنتاجها، معتمدًا في خطابه على مراجع فكرية وأكاديمية تنتمي إلى اليمين المتطرف الأوروبي، مثل برنار لوغان، المؤرخ الفرنسي، ذي النزعات الفاشية.
لكن الحملة العنصرية ضد المهاجرين، في تونس، لم تأخذ زخمًا شعبيًا إلا بعد أن أعطاها الرئيس قيس سعيد شرعية الدولة. عندما أعلن في بيان رسمي عن وجود «ترتيب إجرامي تمّ إعداده منذ مطلع هذا القرن لتغيير التركيبة الديمغرافية لتونس، وهناك جهات تلقت أموالا طائلة بعد سنة 2011، لتوطين المهاجرين غير النظاميين من إفريقيا جنوب الصحراء في تونس. والهدف غير المعلن لهذه الموجات المتعاقبة من الهجرة غير النظامية، اعتبار تونس دولة إفريقية فقط، ولا انتماء لها للأمتين العربية والإسلامية».
في أعقاب هذا التبني للتفسير التآمري، الذي صاغه وروج له التنظيم الانعزالي، انطلقت في البلاد موجة من العنف مختلف الدرجات ضد المهاجرين. ورغم محاولة الرئيس التونسي التلطيف من تصريحاته، إلا أنها وجدت صدى سلبيًا في منظمة الاتحاد الإفريقي واعتبرت تصريحات عنصرية. لكن من حيث الجوهر، هل يمكن أن نتحدث عن مؤامرةٍ لتغيير التركيبة الديموغرافية في تونس؟ هنا، يعيد الرئيس التونسي إنتاج «نظرية الاستبدال العظيم»، التي قدمها الكاتب الفرنسي رينو كامو في عام 2010، والتي تستند إلى الانطباعات أكثر من اعتمادها على المعطيات الكمية، بسبب كره صاحبها للأجانب، حيث يؤكد أن هناك عملية استبدال للفرنسيين والسكان الأوروبيين من قبل سكان غير أوروبيين، ينحدرون أساسًا من إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى والمغرب العربي. وهذه العملية – حسب كامو- ستؤدي إلى تغيير شكل الحضارة، وهي إعادة صياغة لأفكار فاشية قومية ظهرت خلال العقود الأولى من القرن العشرين.
لكن القول بتهافت التفسير التآمري، لا ينفي وجود نهج أوروبي متكامل، هدفه إقامة حواجز أمام المهاجرين من إفريقيا جنوب الصحراء، وبالتالي حصرهم في دول المغرب العربي. وهنا لا بد من التأكيد على أن هذا النهج معلن ومكشوف ومنشور للعموم، وتشارك فيها الأنظمة السياسية المغاربية الحاكمة وتستفيد منه، وليس مؤامرة سرية، ولا يهدف أخيرًا إلى تغيير التركيبة الديموغرافية لدول المغرب.
تشير تقديرات لجنة الشؤون الاقتصادية والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة إلى أنه يعيش في تونس من دول جنوب الصحراء حوالي 57 ألف شخص، فيما أشارت دراسة للمعهد الوطني للإحصاء، وهو مؤسسة حكومية، إلى أن عددهم لا يتجاوز 59 ألفًا. وبالتالي يحضر «خطر تغيير التركيبة الديموغرافية» بوصفه سببًا مضللًا للسبب الرئيسي وهو التبعية التي تعاني منها الدول المغاربية للاتحاد الأوروبي وتحولها إلى جزء من سياسات الهجرة التي يعتمدها الاتحاد أو حارسًا لحدوده الجنوبية، على حد تعبير العقيد القذافي. لذلك يبدو الخيال التآمري في قضية الهجرة بمثابة الوعي المقلوب، فبدلًا من أن يجد لها تفسيرًا، يغرق في مستنقع الفاشية. خاصة أن السبب الرئيسي لدخول هؤلاء المهاجرين إلى تونس، ليس مؤامرة سرية تقودها أطراف مجهولة تريد ملء البلاد بالغرباء، بل هي سياسة الإعفاء من التأشيرة، التي تنتهجها الدولة التونسية، منذ سنوات تجاه جيرانها الأفارقة.
«تصدير الحدود» وريوع الموقع الجغرافي
منذ بداية القرن الحالي أخذت الهجرة مكانها ضمن السياسة الأمنية الأوروبية، واحتلت بالتالي موقعًا مركزيًا ضمن العلاقات الخارجية لأوروبا بجوارها الجنوبي. منذ منتصف التسعينيات شرع الاتحاد الأوروبي في عقد شراكات مميزة مع المغرب الأقصى وتونس، إلى جانب الشراكة الأورومتوسطية متعددة الأطراف التي يروج لها إعلان برشلونة. في هذه الاتفاقيات الثنائية والمتعددة، توضع مسألة الهجرة في البند السادس، المخصص للتعاون الاجتماعي والثقافي، حيث يُذكر أن القصد هو تقليل ضغط الهجرة من خلال التدريب وتعزيز الوظائف في مناطق الهجرة.
في هذا الإطار، يوجد أيضًا بند لإعادة ترحيل من هم في وضع غير نظامي في الاتحاد الأوروبي بالإضافة إلى المهاجرين غير النظاميين الآخرين الذين مرّوا عبر إحدى الدول الموقعة قبل وصولهم إلى الاتحاد الأوروبي. وضمن هذا المشهد الأمني في إدارة ملف الهجرة أسس الأوروبيون شبكة مؤسسات ذات طبيعة أمنية استخباراتية، مثل وكالة فرونتكس الأوروبية للحدود وخفر السواحل، التي تنشر فرقًا عسكرية على الحدود وفي البحر المتوسط، كما تساعد في تنفيذ عمليات الإعادة القسرية للمهاجرين. كما يقوم النموذج الأوروبي الجديد لسياسة الهجرة على تفويض دول خارج الاتحاد، وأساسًا، دول المغرب العربي وشرق أوروبا، بمسؤولية التحكم في تدفقات الهجرة إلى أوروبا، من خلال إنشاء مناطق عازلة تفصل بين المهاجرين والحدود الأوروبية. وتتضمن «حزمة الهجرة» التي يصدرها الاتحاد الأوروبي سلسلة من المهام لدول ثالثة، تتضمّن تعزيز الضوابط الحدودية، ومكافحة الدخول غير القانوني وتهريب المهاجرين، وبناء القدرات الأمنية في مجال الهجرة واللجوء. ولتنفيذ هذا النموذج يقوم الأوروبيون بالربط على نحو صارم بين عملية تفويض السيطرة وإبرام الاتفاقيات التجارية، وكذلك امتياز المساعدة الإنمائية. وهنا تستفيد الأنظمة السياسية المغاربية المنخرطة في هذا النموذج، إلى جانب المساعدات المادية من كسب شرعية دعم الشريك الأوروبي، ضمن علاقات أساسها ريع موقعها الجغرافي.
يسمى هذا النموذج في أدبيات المنظمات التونسية المناهضة للسياسات الأوروبية في الهجرة بـ«سياسة تصدير الحدود» وهو تعبير بليغ لفكرة أن تتحول تونس أو المغرب إلى حارس لحدود الاتحاد الأوروبي، أي أن تتحول حدود الاتحاد الأوروبي إلى داخل هذه الدول ضمن علاقة تبعية، بين مستعمر قديم ووكيل محلي ينفذ سياساته. تقوم هذه السياسة على منح الوكيل مساعدات مالية والمحافظة على استقرار نظامه السياسي ودعم ترسانته الأمنية، لاسيما حرس الحدود والحرس البحري وتمكينه من وسائل تكنولوجية عالية الدقة، كي يقوم بمهام ضبط الحدود والمعابر البحرية المؤدية إلى الضفة الشمالية للمتوسط. في هذا السياق، تعترض السلطات التونسية قوارب المهاجرين المنطلقة من السواحل الليبية في المياه الدولية، وتنزلهم في الموانئ التونسية غير الآمنة حيث لا تتوفر الإمكانيات اللوجستية أو المنظومة القانونية التي تحمي حقوق المهاجرين واللاجئين وتحفظ كرامتهم. كما وقّعت الحكومة اتفاقيات، لم تعلن عن مضمونها حتى اليوم، مع الجهات الأوروبية لقبول مبدأ الترحيل القسري للمهاجرين التونسيين في أوروبا. في تشرين الثاني 2021، كشف فيلم وثائقي يحمل اسم «طريق العودة» (la via della ritorno) قامت ببثه قناة «rai news 24» الإيطالية عن نص اتفاقية بين تونس وايطاليا تعهدت فيها السلطات التونسية بتشديد المراقبة البحرية ومزيد من التعاون في الترحيل القسري للمهاجرين غير النظاميين التونسيين مقابل تعهد إيطاليا بمصاريف صيانة ست خافرات وتجهيزات للمساعدة على مراقبة الحدود.
هذا الانخراط الرسمي في النموذج الأوروبي للهجرة وتصدير الحدود يكشف بوضوح أن طرح المسألة في شكل مؤامرة هدفها «العبث بنقاء الأمة وتغيير تركيبتها الديموغرافية» ليس إلا محاولةً ربما تبدو مجديةً حتى الآن لإيهام الناس بأن هؤلاء المهاجرين يريدون افتكاك بلدهم، كي تنجح السلطة في تنفيذ جملة واسعة من عمليات الترحيل القسري، التي لن تبخل الدول الأوروبية، ولا سيما إيطاليا وفرنسا في تمويلها. شأنها شأن الحكومات السابقة لا تفعل حكومة الرئيس قيس سعيد سوى اللعب بورقة الموقع الجغرافي لحصد المساعدات الغربية وانتزاع شرعية دولية هي في أمس الحاجة لها، في ظل اهتراء شرعيتها الانتخابية بعد نتائج انتخابية مخيبة وغياب شرعية الإنجاز في ظل أزمة اقتصادية غير مسبوقة. وهو النهج نفسه الذي يعتمده المغرب في الضغط على نظرائه الأوروبيين، إلا أن موقف الرباط في هذه اللعبة يبدو أقوى وأكثر طموحًا، ذلك أن المغرب الأقصى، ليس في موقف الضعف المالي والاقتصادي الذي تعاني منه تونس، حيث أصبح من خلال نموذجه الاقتصادي الأساسي في سلاسل الإنتاج بالنسبة لشركائه الأوروبيين، يتعامل بنوع من الندية معهم، وهو ما بدا واضحًا في أزمات دبلوماسية خاضها البلد مع إسبانيا العام الماضي واليوم مع فرنسا، وفي قلب هذه الأزمات، التي كان ملف الصحراء محورها.
*عن مجلة حبر
تعليقات الزوار ( 0 )