في السادس من كل فبراير، تحل علينا ذكرى وفاة المقاوم المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي والملقب في الريف بـ” مولاي موحند” ، الكثير من المؤرخين وصفوه بملهم “غيفارا” و “ماوتسيتونغ” والعديد من رموز الحركات التحررية العالمية، هذه المكانة السامية، جعلت رمزية هذه المناسبة تتعاظم سنة بعد أخرى، حتى أضحى يتذكرها المغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من الفخر و الاعتزاز، نظرا لما تحملها من رمزية كان لها تأثيرا كبيرا على تاريخ المغرب الحديث.
– سيرة الأمير
في بداية ثمانينات القرن التاسع عشر رأى محمد بن عبد الكريم الخطابي الملقب أيضا بـ”الأمير” و”أسد الريف”، النور في بلدة أجدير، شمال شرق المغرب. ولد الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1882 ببلدة أجدير في منطقة جبال الريف قرب مدينة الحسيمة، وتلقى تعليمه الأولي والمتمثل أساسا في حفظ القرآن الكريم في بلدته أجدير، قبل أن ينتقل للدراسة في مدينة تطوان، ثم فاس، وتوجه بعد ذلك إلى مدينة مليلية حيث نال شهادة الباكالوريا بها، ليعود إلى جامع القرويين بفاس حيث تتلمذ على يد مجموعة من كبار علماء الدين والسياسة. وكان ختام تعليمه الجامعي في مدينة صلمنكا الاسبانية، حيث درس هناك القانون لمدة ثلاث سنوات.
كانت بداية حياته المهنية في مدينة مليلية، حيث زاول بها مهنة تدريس الساكنة المسلمة، بين سنتي 1907 و1913، ثم انتقل للاشتغال كمترجم وكاتب بالإدارة المركزية للشؤون الأهلية بمليلية سنة 1910. واشتغل بالموازاة مع ذلك كصحفي بيومية “تيليغراما ديل ريف” الناطقة بالإسبانية بين سنتي 1907 و1915، حيث خصص له عمود يومي باللغة العربية.
وفي سنة 1913 عين قاضيا بمليلية، ثم رقي سنة 1914 إلى منصب قاضي القضاة بأمر من المقيم العام الإسباني عن سن 32 سنة. وتبوأ بذلك أرفع درجة في سلك القضاء الخاص بالساكنة المسلمة للمدينة مليلية. وفي نفس السنة، عين أيضا كمعلم بأكاديمية اللغتين العربية والريفية بمدرسة الشؤون الأهلية بمليلية.
يجمع المؤرخون على أن محمد بن عبد الكريم الخطابي كان إلى حدود هذه المرحلة مؤمنا بالتعايش السلمي مع المستعمر الاسباني، وشكل حادث سجنه سنة 1915 نتيجة تعاطفه مع ألمانيا والدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى، إضافة إلى انتقال الاستعمار الإسباني إلى مرحلة التغلغل العميق داخل المغرب، بعدما كان ممركزا في البداية على السواحل المغربية الشمالية، (شكل) نقطة تحول في وعيه السياسي.
– العمل السياسي والعسكر
بعد فرض إسبانيا نظام الحماية على شمال المغرب، رفض والد الخطابي الخضوع للإسبان، فعزلت إسبانيا الخطابي الابن عن القضاء وسجنته نحو سنة.
ولما أطلق سراحه وجد أباه يعد لمقاومة الاستعمار الإسباني لكن الموت عاجله عام 1920، فخلفه وهو في التاسعة والثلاثين- في زعامة القبيلة وإكمال ما بدأه. رغم قصر مدة التحضير و التجهيز، استطاع محمد بن عبد الكريم الخطابي أن يجهز بمعية بعض زعماء القبائل، مقاومة باسلة استطاعت مهاجمة المواقع الحساسة التي احتلتها و إسبانيا و تغلغلت داخلها.
وقد أوقع الخطابي بالإسبان هزيمة تاريخية في معركة أنوال يوم 21 يوليوز 1921، حيث قتل حوالي 15 ألف جندي إسباني على رأسهم قائدهم الجنرال “سلفستر”، كما أسر 570 جنديا.
فانسحب الاستعمار من منطقة الريف وأجبرت القوات الإسبانية على مغادرة إقليم جبالة كله والتراجع إلى السواحل. وأعلن الخطابي حكومة خاصة بمنطقة الريف في 18 شتنبر 1921.
وحول رجاله المقاتلين إلى جيش نظامي وسعى إلى تنظيم الإدارة المدنية ووضع دستور وتشكيل مجلس عام مسطرا أهداف حكومته ” جمهورية الريف” في عدم الاعتراف بالحماية الفرنسية على المغرب، وجلاء الإسبان من المناطق المحتلة، وإقامة علاقة طيبة مع جميع الدول.
لم يَعد أمام الدولتين الكبيرتين (فرنسا وإسبانيا) سوى أنْ يَجتمعا على مهاجمة الأمير الخطابي، وأُعد لهذا الأمر عدته بالإمدادات الهائلة لقواتهما المتمركزة في المغرب.
ظَلت فرنسا غير راضية على سيطرة المقاومين على المنطقة، وهكذا بعد أن خسرت إسبانيا المعركة، وكاد وجودها أن يُمحى نهائيا، وجد المجاهدُ الخطابي نفسه مُضطرا لفتح جبهة حربية أخرى مع فرنسا، رغم أنه كان يَحرص على تجنب الاصطدام بالفرنسيين، بل كان يهادنهم بدبلوماسيته المعروفة، ولم يبق أمام مولاي موحند أي مجال لمواجهة فرنسا، حيث قام بمهاجمة المراكز العسكرية التي احتلتها فرنسا؛ ليتمكن في زمن وَجيز من احتلال ستة منها، وإلزام الجيش الفرنسي بإخلاء 25 مركزا آخر، وكَبر على فرنسا – وهي إحدى الدول العُظمى في العالم – أن يتكبد جيشها هزائم على يد قائد ريفي مغمور بدأ للتو العمل السياسي و العكسري، وزعيم منطقة فقيرة و”متخلفة” – على حد زعمهم – وأصبح الأمر يَمس سمعتها في العالم، الأمر الذي دفعها لكي تنزل بكل ثقلها؛ للقضاء على المقاومة المنتشرة في مختلف المواقع، بحيث استنجدت بجيش ضخم ، مُزود بآخر ما جادت به تكنولوجيا الأسلحة آنذاك، ووجهته نَحو جبهة الريف تَحت قيادة المارشال “بيتان”، وبدوره حشد الاحتلال الإسباني جيشا ضخما ، وتم استعمال وسائل عسكرية قذرة ومَحظورة عالميا، تمثلت قصف العديد من الأسواق و التجمعات السكانية بالغازات السامة ( و هو الذي جعل ساكنة منطقة الريف تعاني الويلات من السرطان جراء هذه الغازات الملوثة).
وقاوم الأمير العمليات العسكرية التي كان يقودها الإسبان والفرنسيين بكل بسالة، وبعدما اشتد قصف الإسبان للريف بالأسلحة الكيماوية، أعلن استسلامه حفاظا على أرواح الريفيين، وسلم نفسه للسلطات الفرنسية، وتم نفيه مع عائلته وبعض أتباعه إلى جزيرة “لارينيون” النائية في المحيط الهندي التي استمر فيها إلى حدود سنة 1947، ليستقر بعد ذلك بشكل نهائي في مصر، وأسس سنة 1947 مع ثلة من أبناء المغرب العربي لجنة “تحرير المغرب العربي” وتولى رئاستها، توفي عبد الكريم الخطابي في السادس من شهر فبراير 1963 بالقاهرة ودفن فيها بمقبرة الشهداء.
*طالب باحيث في الدكتوراه
تعليقات الزوار ( 0 )