سيصدر قريباً في مصر كتاب “حق الكد والسعاية..مقاربات تأصيلية لحقوق المرأة المسلمة” للأستاذ الدكتور محمد بشاري، أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، العضو بمجمع الفقه الإسلامي الدولي، عن دار النشر: دار نهضة مصر.
تناول هذا الجهد البحثي موضوع الكد والسعاية، في مسار تأصيل حقوق المرأة المسلمة وفق نظرة اجتهادية شرعية، لما له من أهمية بالغة في رد الاعتبار للمرأة المسلمة وللعمل على حفظ حقوقها وللاعتراف على ما تقوم به من جهد وعمل داخل البيت أو خارجه.
وتعد هذه النازلة الفقهية مهمة أيضاً لما يترتب عليها من ارتقاء في التماسك الأسري وتوثيق روابط العلاقة الزوجية، حيث تزيد من اعتبار كلا الزوجين بعضهم بعضاً كما تلعب دوراً مهما في تحصين مال الزوج من السحت وأكل مال زوجته وكدها وتعبها بالباطل.
وتأتي هذه النازلة في وقت زاد فيها عدد حالات الطلاق والمشاكل الزوجية لتعيد كلمة الله الحق في قلوب الناس وترشدهم في الطريق الإسلامي، طريق الهدى والنور. فعالمنا المعاصر و منه عالمنا العربي و الإسلامي، لم يستثنى من تفشي ظاهرة التمزق الاسري حيث تستمر نسبه في التزايد، وتعتبر فئة المطلقات اللواتي كن متزوجات لسنوات عديدة فئة هشة ومهضومة الحقوق في هذا الجانب بشكل خاص، سيما لما يجدنه من تجريد حقوقي في مشروع التنمية الاقتصادية للأسرة التي انفصلت عنها، والتي كانت شريكاً رئيساً في قوامها وتطورها، لتجد نفسها بعد الطلاق مجردة من حقها المبذول في الكد والسعاية، ناهيك عن تخلي بعض الأزواج عن مسؤوليته في النفقة على الأولاد وغيرها، كظروف مصاحبة للانفصال عن العلاقة الزوجية التي باتت المرأة تدفع ضريبتها “مضاعفة”.
وبعد السبر في مجالات وزوايا هذا الجهد البحثي المتواضع، وجدنا أنَّ لمسألة حق الكد و السعاية المثارة في القرن العاشر ما يفند مزاعم الذين قالوا بغلق باب الاجتهاد، و يدل على أن حركة الاجتهاد الفقهي لم تنقطع على مدار السنين و في مختلف الأمصار. و في النظر الفقهي للمسألة اعتبار واضح للواقع على أساس أنه شريك في استنباط الاحكام الفقهية، فلم ينبع من ترف فكري تنظيري ، و إنما هو تفعيل أحكام الشرع في الواقع بمحاكاة مستمرة و مستميتة لقضايا الناس.
وفي إمعان الحركة الفقهية المالكية التي شاعت لدى الغرب الإسلامي في مجال النوازل الفقهية، نرى أن الحراك الفقهي المستمر ومنها نازلة سعاية المرأة و كدها، مثال واقعي وقوي، على حجم التجاذبات التي كانت بين الفقهاء، والتي جاءت لتؤثث مسرح أحداث ودراسات الاختلاف المذهبي في تاريخ الغرب الاسلامي. فإن الوقوف على نماذج من هذا النوع، من الاختلاف المذهبي في تاريخ الغرب الاسلامي، لحقيق أن يمكننا من ملامسة جهود الفقهاء، وأدلة كل طرف، والاقتراب من بنيتها الاستدلالية، ونسقها الدلالي.
وإن نظام الكد والسعاية أو إدارة الأموال الأسرية أحد أهم بنود التدبير التعاقدي لأحوال الاسرة والتي يرفع الحرج عن المكلفين بإعطاء المرأة المسلمة كامل حقوقها بتقدير كل عمله في سبيل خدمة بيت الزوجية أو المشاركة في بنائها و تنمية ثروتها، وهو ما يتطلب وجود نشاط إيجابي يقوم به الساعي يؤدي إلى تكوين ثروة أسرية أو الزيادة في نمائها، على أن تكون تلك الزيادة راجعة في سببها إلى ذلك النشاط الإيجابي.
و أن موقف الفقهاء من نظام الاتفاق المتبادل بين الزوجين هو موضوع ذو أهمية كبيرة في مجال قانون الأسرة، حاولنا وضع مقاربة بحثية في وجهات نظر الفقهاء ، ودراسة وجهات نظرهم حول النظام وآثاره في إجراءات الزواج والطلاق، بالتعريج على بعض التعقيدات القانونية المحيطة بهذا النظام وتقديم رؤى قيمة للممارسين وصانعي السياسات والأفراد الذين يتعاملون مع تعقيدات الخلافات الزوجية.
إن إدراج حق الكد وسعاية كنظام إلزامي مدني، ذي مرجعية شرعية و تطبيق تاريخي، من الأمور الأساسية التي علينا النظر فيها، لما تحمله من آثار وامتدادات ملموسة ومهمة على حاضرنا بل و مستقبل أجيالنا الصاعدة، وبخاصة، أنه من صلب أعمال ومهام العلماء الأمناء استباق حلول فقهية تعمل على تأطير وتأصيل الأحكام في النوازل المطروحة، وذلك بالرجوع إلى بعض المقاصد الشرعية و القواعد الفقهية و الاصولية المهجورة مثل “ما جرى به العمل” الذي اختص به مالكية الغرب الإسلامي والذي يهدف إلى الأخذ بأعراف مشهورة لدواعي الضرورة، أو لمصلحة شرعية خدمة للفرد و للصالح العام، بما يتطابق مع القاعدة الفقهية: “درء المفاسد مقدم على جلب المصالح” ، و باب “سد الذرائع”، و عليه يكون الأخذ بمبدأ حق الكد والسعاية ، وسيلة شرعية تسمح بالمحافظة على مصالح العباد و منها إنصاف المرأة وتقديرها و صون كرامتها وتمكينها من نيل حقوقها.
ومن الجوانب المميزة التي يخرج بها هذا المؤلف إزاء حق الكد والسعاية، اعتباره الحق الذى يمنح المرأة جزء من ثروة زوجها نظير عملها معه، وفى تكوين ثروته وهذا الجزء بعيداً عن نصيبها المفروض شرعاً في الميراث أو بعد الانفصال، ليصبح آلية قانونية عرفية ممكن أن تساعد في الاجتهادات القضائية في الدول العربية و الإسلامية، بل أن تدرج في قوانينها المنظمة لشؤون الاسرة، و قد يعتمد عليها التحكيم الإسلامي في المجتمعات المسلمة أو ممكن تكييفها مع بعض مخرجات الاحكام القضائية في الغرب، فتضمن للأفراد المساهمين في تكريس الثروة الأسرية أو تنميتها، إمكانية المطالبة بحقوقهم المالية المترتبة عن مساهمتهم في تلك الثروة من المفاهيم القانونية التي بدأت تعرف اهتماماً ملحوظاً ما قبل العديد من المنشغلين بقضايا الأسرة ونظامها المالي، إذ تفيد التكاملية، هذه، الشراكة في الحياة بما فيها من تكلفة وأعباء وسعادة وهناء، فالرجل والمرأة شريكان في بناء الأسرة والإتيان بكل شروطها ومسبباتها حتى تتحقق أهداف الزواج من سكن وسكينة و طمأنينة و تربية الأولاد والاهتمام بمستقبلهم. إذ لا يتحقق للأسرة ذلك بدون جهود الطرفين كلاهما على حد سواء، والمرأة شريك في الداخل بحرصها القيام بإدارة البيت الداخلي وتهيئة المناخ الإيجابي للنهوض والتنمية وتساهم مباشرة أو غير مباشر في التنمية المالية لبيت الزوجية.
و خلاصة القول، أن اعتبار “الكد والسعاية” من باب الحق، هو اجتهاد فقهي ينتصر للمرأة)، وأن “حق الكد والسعاية”، يمثل قاعدةً تستمد سندها الشرعي من مصادر التشريع الإسلامي المتفق عليها، و إن هذه المصادر والأسباب التي تقول بشرعية حق الكد والسعاية يكمل بعضها البعض ويقويه ويعضده ، و يخضع جملةً وتفصيلاً، ابتداء من نشوئه ومروراً بالقواعد الضابطة له، وانتهاء بقسمة المستفاد وإثبات المساهمة إلى مقتضيات قاعدة ما جرى به العمل ، كما تجد سندها الواقعي في قضاء ثاني الخلفاء الراشدين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.
و عليه، يكون الاعتراف بحق الكد و السعاية مرغوباً فيه ، بل العمل على تضمينه في التشريعات والقوانين المنظمة للأسرة بحيث يكون هناك اتفاق صريح بين الزوجين في شروط العقد أو تضمينه وثيقة الزواج في الشروط الخاصة أو بعقد مستقل ينص على البنود المتفق عليه و مسجل لدى المصالح المختصة لأن تركه – كما جاء في بعض الدساتير- لقواعد الإثبات سيشكل عقبات كثيرة نحو جمع الأدلة والقرائن التي تدلل على حق الزوجة في ذلك، كما وأن فكرة إقراره كقانون لابد أن تكون بعيدة عن فكرة استقلال الذمة المالية للزوجين، وتنحصر في عمل أحد الزوجين أو كلاهما خارج بيت الزوجية وفى الثروة المحققة حال قيام العلاقة الزوجية و ليس قبلها.
تعليقات الزوار ( 0 )