صدر حديثاً، الكتاب الفلسفي الموسوم ب(جدلية الفلسفة والأخلاق)، للمفكر والكاتب الدكتور محمد بشاري، عن المركز الثقافي للنشر، مقدماً وجهة نظر فلسفية متعمقة عن الوجود، والإنسان، والقيم، في محاولة لتتبع المسار الأخلاقي الإنساني ونقده.
ويضم هذا المؤلف بين دفتيه ثلاث فصول متسلسة في طرحها الموضوعي، ليبتدأ الكاتب في أولى فصول الكتاب (الإنسان على خريطة الوجود الأخلاقي)، متحسساً جغرافية الإنسان بين الحتمية والإرادة، موضحاً الإلزامية الحركية التي يعيش فيها الإنسان، والتي تتعارض مع الثبات المستمر، وشارحاً دور الإرادة الإنسانية في توجيه تلك الحتمية، واختيار “مسار التغيير”، ليتبع ذلك مفرقاً ومميزاً بين ما يتداخل مع البناء الأخلاقي الإنساني من كونه عادة، أو فطرة، سيما أن ذلك لا يتوقف على قرار لحظي، بل هو تعبير واضح عن الحاجة لتغذية الوعي والانطلاق من نضج كامن به، إذ يقول المؤلف بين سطور مؤلفه: “إن الإجابة على تساؤلات العادة والفطرة في ظل رؤية عميقة لأبعاد الايدولوجية في الواقع الإنساني، وتتبع سلوكه بعد تفكيكه لفهم مجرياته ونوابعها، لا يتوقف على الملاحظة وحسب، وبخاصة أن الذات القائمة على دراسة نفسها في قوالب مختلفة تنطلق من معرفة بما تمر به من أحاسيس ومشاعر إزاء الأفعال والسلوكيات العابرة أمامها، فالإنسان يحمل بداخله وعي عن وجود جدلية داخلية تسكن خلجاته ما بين الشر والخير، وقياساً عليها يستطيع التفريق بين الممدوح والمذموم من السلوك الذي يعتد بما لديه من حرية يستخدمها لتوجيه ترجمته النفسية والقيمية المكتسبة والفطرية على أرض الواقع”.
ويستكمل بشاري تلك النقاط التأسيسية للإجابة عن موقع الإنسان بالنسبة للوجود الأخلاقي، من خلال تتبع ملامح تشكيل الهوية الأخلاقية، ابتداءاً من منبع الأخلاق، ثم أنسنتها من خلال تحرير الإنسان من كافة القيود غير النافعة، وتوجيه طاقته نحو “الفضيلة”، باعتبارها شيفرة الهوية الأخلاقية، وبخاصة، أن : ” … النظر للكينونة الأخلاقية، والإجابة على أبرز تساؤلاتها، لا يكون من خلال استخدام عدسة خصصت للإمعان في غير ما مجال، وهذا لا يعني الاستنقاص مما يحققه الوجود المعرفي من تكامل وتعاضد، وإنما هو تشجيع وتأكيد على ضرورة تحرير القراءة الأخلاقية من دوائر الاحتجاز المقتصرة على رؤية أخلاقية من منظور ديني بحت، أو تقليدي موروث بحت. وبخاصة أن ذلك يؤول لتصدير العديد من المفاهيم “الأخلادينية”، التي لا تحقق ما تأمله الأخلاق من توسيع معرفتها، ولا الدين فيما يأمر به من استرسال في التفكير والاجتهاد، وهو ذات الأمر الذي شكل ربطة وثيقة على عنق الدراسات الأخلاقية من خلال تحديد نسلها وتقرير مصيرها بقالب الموروث الجامد حين وصوله، مما يحول دون التطوير والإضافة التي مثلها ذلك التراث في عصره وظرفيته الزمانية”.
في ثاني فصول الكتاب ينتقل الطرح ل: “تكوين صورة نقدية أخلاقية بين الشرق والغرب”، وبخاصة في ظل ما التقفته الثقافات والتيارات الفكرية من صور نمطية وانطباعات عن كل مجتمع أو حضارة، جعلت منها “ستاندرد” يتسلل عبر التاريخ، دون اعتبار المتغيرات والتطورات الحاصلة، أو أنه على العكس من ذلك يسعى لتحليل وتفسير السلوكات دون التفات لأصلها البنيوي المتأثر بالموروثات. وبالتالي فقد ضمت هذه الجزئية تحليل ملامح الفسيفساء القيمية بين الشرق والغرب، دارسةً أخلاق الإنسان قبل وبعد مجيء الأديان، ومتحسسةً لأبرز ملامح الكينونة الخُلقية في صلب الأديان السماوية. ليأتي بعدها النقد الأخلاقي العربي ضاماً: (التكامل التكويني للسلوك الإنساني) وأهمية صون الثابت في مسار الحركة الإنسانية، ومستعرضاً( التجربة الأخلاقية بين ما تحمله وما تحظى به من مكانة)، مشيراً الكاتب لدور الاستثمار الإنساني، الذي ينتهي بتوليد فكر أخلاقي عربي أصيل وحداثي، وفي ذلك ورد في المؤلف: ” … مثل الأساس الأخلاقي، “رأس مال” وموروث لدى معظم الأمم والشعوب القديمة، التي أثبتت محطاتها التاريخية اعتباراتها الحازمة تجاه كل من فضائل القيم الأخلاقية والإنسانية. كما لا يعد من الغريب أو المستهجن ذلك الاتفاق الضمني للشرائع و الرسالات الربانية في تأكيدها وحثها على التحلي بمكارم الأخلاق، فهي صمام الأمان للجانب الاجرائي في شتى المجتمعات البشرية، وإنما تكرار الإشارة إليها يأتي بداعي “إنعاش” الذاكرة الإنسانية بمثل هذا الوجود القيمي السامي على “تشوهات الفكر” المستحدثة والمستهجنة، فالإنسان أخو الإنسان ولا ترتبط بينهما ذات العلاقة القائمة في “قانون الغاب” البتة”.
وفيما يتعلق بنقد الصورة الأخلاقية الغربية، فالكاتب يضعنا بين خيارين (أخلاقنا أم أخلاقهم)، في خطوة تمهيدية لدراسة السلوك الغربي بين النظرية والواقع، وإلحاقها بقراءة إنسانية بقالب فلسفي يراعي الظروف والتحولات التي أحاطت بها.
ويأتي الفصل الأخير، في سياق متناغم مع ما طرحه الدكتور محمد بشاري فيما تقدم من فصول، ليجيب عن السؤال الكبير الذي تقف على عتبته كبرى مجتمعات العالم، وأكثرها نمواً وتطوراً، سواءاً أكان ذلك التطور اقتصادي، أو ثقافي، أو سياسي وديمقراطي، وغيرها. وعليه، هل على المجتمعات السير مع تيار إضفاء الطابع الأخلاقي (الأخلقة)، أم الالتزام بفحوى العلمانية (العلمنة)؟
وفي ذات السياق، فإن استشراف الصورة الأخلاقية تتقرر من خلال عرض الصورة الأبرز بين سيادة المادي والمعنوي، وفهم الإرهاصات التي وقفت وراء البناء القيمي الإنساني، مما يجعلنا نقترب أكثر لاستشراف حال الإنسان القادم من ناحية “أخلاقية”.
كما يرصد المؤلف التداعيات الناتجة عن دراسة الأوضاع الراهنة العالمية، وبخاصة بعد المرور عبر العديد من الأزمات التي نجحت في إعادة انتباه الإنسان، وبناء قناعته حول المشترك الإنساني من حيث الفطرة والمصير، ليقترب أكثر نحو حنينه لجوهر إنسانيته، ويصب إرادته الواعية في قالب “التطبيق الفعلي والفعال”. ومن ذلك فإن هذا المؤلف يمثل اعترافا صريحاً بما أصاب المجتمعات من “عوز أخلاقي”، على كافة الأصعدة، والمجالات، وصولاً لعالم أخلاقي تربوياً وأكاديمياً، وبيئياً، وسياسياً، وإعلامياً، متوجاً بثقافة عريضة تؤمن بدور كل فرد في تحقيق التشاركية الإنسانية القيمية.
وكما يذكر الكاتب في مقدمة الكتاب: ” وبتوجيه أبصارنا الواعية نحو الحقيقية، فإن الوصول لقوة إنسانية كفؤ تناضل من أجل إصلاح واقع كبير ومترامي الأطراف، يحتاج لقوة كامنة في ذاته من خلال نفض غبار النمطية وتنفس الموروث برمته، والانتقال لحالة من الإصلاح في الإرادة، وتتبع صيرورة محطاتها القادمة، و في ظل كافة المعطيات وتفاصيلها، تبقى الأخلاقيات الشاملة تتفق بنسبة كبيرة مع الفكرة التي يدعو لها الإنسان من الإيمان بالمشترك الإنساني المتجاوز لحدود الزمان والمكان، والخروج من زقاق الفردية لفسحة جامعة تكون معيناً للبشرية أمام مختلف الأزمات، ومخرجاً آمناً من شتى النزاعات و تصاعد العوامل المضادة، ودافعةً لاجتماع الخير ونضوج قوته الروحية الفريدة” .
ومن المجدي ذكره أن الكاتب يشغل حالياً منصب أمين عام المجلس العالمي للمجتمعات المسلمة، وهو حاصل على درجة الدكتوراه في الفقه و أصوله، كما تم اختياره ضمن ال50شخصية المسلمة الأكثر تأثيراً على مستوى العالم. وحائز على وسام “الملك عبد الله الثاني ابن الحسين للتميز” من الدرجة الأولى، ووسام جمهورية مصر العربية للعلوم والفنون من الدرجة الأولى. وللمؤلف العديد من المؤلفات الشرعية و السياسية و الفكرية إلى جانب كتابته في صحيفة الإتحاد الإماراتية.
تعليقات الزوار ( 0 )