المشهد الأول: العالم يغني صيدلي يا صيدلي بدي دوا إلها وبدي دوا إلي
أنظار العالم تتوجه يوما بعد يوم نحو المختبرات العلمية، لعلها تجد أخبارا تبهجها عن تطور البحث العلمي لإيجاد لقاح للوباء الفتاك. خبراء الصيدلة والفيروسات يسارعون الزمن من أجل إيجاد صيغ علمية لإيقاف الزحف القاتل للفيروس، أو على الأقل “للتفاوض الطبي” مع الفيروس لكي يبطئ قليلا من حركته السريعة. زمن كورونا جعل من مختبرات الأدوية والصيدليات قبلة جديدة للعالم كله. وضع خلق نوعا جديدا من التبعية الفردية والجماعية والدولية لمن يملك الدواء ولمن يملك المختبرات. هنا تبرز أهمية البحث العلمي وضرورة الإنفاق عليه في الدول النامية. إنفاق سيساهم لا محالة في فك قيود التبعية العلمية و في إيجاد حلول وطنية لمشاكل الأوبئة وغيرها.
المشهد الثاني: الوقاية خير من العلاج ولن اعطس في وجه أحد
الشعوب بحكامها وجميع طبقاتها أصبحت مدمنة على الكحول. هذه المادة أصبحت أكثر جاذبية من الذهب والبترول، وحلت محل الوضوء عندنا وعند شعوب كثيرة بل إننا أدمنا عليها وستخلق لنا متلازمة الكحول بعد زوال الأزمة، لكثرة استعمالنا لها يوميا.
سوريالية المشهد العالمي تتجسد أيضا في الامتناع عن العطس محيط العاطس. هذه الحركة البيولوجية الطبيعية غدت مصدرا للقلق والريبة، وأصبح كل عاطس أمام الملأ شخصا مشبوها يحمل قنبلة موقوتة، يتعين توقيفه والحجر عليه والهرب منه ولم لا التبليغ عنه للسلطات العمومية. مفارقات بشرية مضحكة احدثها الفيروس العالمي الجديد، فتحولت عادتنا وحركتتا البيولوجية أكثر انظباطا جراء محاولات الأفراد التحكم فيها أو في آثارها.
المشهد الثالث: معذرة لن أصافحك حتى تنظف يديك
المصافحة باليدين رمز السلام والمودة. آهِ من يمناك هذي..والذي منها سقينا؛ عللتنا بالأماني..فشربنا ظامئينا؛ وكأن الآن كفي..حملت ثأرًا دفيا؛ تتمناك حبيسًا..عندها العمرَ سجينا. هكذا قال الشاعر إبراهيم ناجي. فأضحت مصافحة كف عليل حكما بالحبس الصحي وسط المرضى. تحولت من علامة للمحبة إلى حركة منبوذة مخيفة أوصى الأطباء بتركها والعلماء بكراهتها فقد تحولت إلى جسر جديد للجائحة. الوباء غير طقوسنا وعاداتنا في إلقاء واستقبال التحايا، وكأنه يرفع الخصوصية عن كل أمة ويوحدنا في طريقة سلام واحدة، وتعبير عن التحية بشكل واحد ولغة إشارات واحدة، إنه يهذبنا ويعيد تربيتنا من جديد.
المشهد الرابع: إني ذاهب إلى بيتي.. لن أبرحه حتى تأذن لي الدولة أو يحكم الله لي
في البداية كان المكوث في البيت واجبا وطنيا وإنسانيا. ثم مع ارتفاع ضحايا الفيروس تحول إلى التزام قانوني يخول للسلطات العمومية مجازاة مخالفته بالغرامات وأيضا بالحبس النافذ. نظرية الحجر الصحي المنزلي، أو العزل الصحي، تمكنت من كل تشريعات الطوارئ العالمية في ظل اكتساح الوباء عن طريق العدوى. حددت للشعوب مواقيت للحج إلى الأسواق وأماكن العمل كاستثناء لاستمرار الإنتاج والحياة. غير أن الأصل في ظل الأزمة الفيروسية العالمية هو ملازمة البيوت إلى أن تأذن مؤسسات الدولة بذلك التابعة هي الأخرى لقرار الطبيب الذي أصبح ذا سلطة على الجميع بما في ذلك على السلطات العمومية الكبرى.
المشهد الخامس: أيها الوباء المتخفي أو عندما يشك الإنسان في نفسه ويهرب من أمه وبنيه وصاحبته التي تؤويه
من سخرية القدر أن هذا الوباء بقدر ما خلق نوعا من التضامن والتآزر وبعث الروح في مؤسسة الأسرة والاجتماع المنزلي، بقدر ما أحدث شرخا في قنوات اللقاء والتواصل البشري. المرء منا فقد الثقة الصحية في أقرب مقربيه، فلم بعد هناك مجال للتسامح مع الحالة المشبوهة ولو كانت فلذات الأكباد. وكأنه يوم حشر دنيوي كبير، كل إنسان بما كسب رهين. إنها مرحلة الشك الطبي حلت محل نظرية الشك المنهجي الذي أبدعه فكر الأنوار في الغرب. وصل التسامح إلى درجة الصفر، ولم يعد أحد يقبل مجالسة حاول الوباء ولو كان قطعة منه، والاكتفاء بالبكاء والدعاء على بعد أمتار من أم حملته أو مولود عزيز عليه.
المشهد السادس: المتدينون والوباء: اتقوا الله إنه يرانا
قيمة الدين في الحياة وفي الأمن النفسي تعود بقوة. عودة ليست محدودة في دول العالم الثالث أو لدى الشعوب المتدينة، أو عند المتعصبين، بل عاد من باب واسع من السماء إلى الأرض حتى في بلاد المادة والتقدم. زعيم أكبر دولة في العالم، دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، يصلي و يأمن بعد الكهان أمام عدسات العالم. وكأنه تعبير عن فطرة عميقة في النفس البشرية بأن الله هو خالق البلاء وهو مرسل الدواء. العباد ينشرون الصلوات والدعوات والابتهالات، حتى أصاب القوم بعض الجذبة أحيانا في التماس الشفاء ورفع الحصار عن الأمم في الأرض. الفيروس التاسع عشر عندما يشاهده المتدينون مكبرا عبر الميكروسكوب العلمي، يرونه وكأنه كائن وديع تائه في الفضاء خلقه الله و يحتاج إلى هداية ربانية، أو كمرسول أرسل برسالة ليقوم بغزوة ما، فينهالون عليه بالصلوات النافذة لعله يسمع النداء، فيغير الوجهة نحو قوم آخرين هم هدفه الحقيقي، أو يفتته الذكر الرباني إلى حطام. فقد اعترف الجميع أنه ليست المساجد وحدها لله بل أيضا الأوطان لله. ما بين البحث عن الدواء في المختبرات و مابين الدعاء والصلوات، يظل الوازع هو البحث عن جسر للعبور ما بين الخوف والرجاء.
المشهد السابع: أيها الغرب الحضارة أيضا توجد في الشرق
الفيروس المجهري كشف لنا حقيقة أو كشف كذبة عالمية كبرى، وهي أن الغرب هو مصدر التطور والقيم الحضارية والإنسانية الكبرى. تعريفات كثيرة أعطيت للتحضر والحضارة. مجملها تربط بين تقدم المعرفة وتنظيم تفاصيل السلوك والحياة و الاعتراف بالحقوق الإنسانية. شعارات لا طالما رفعا الغرب في وجه الدنيا، معتبرا نفسه أهلا لتلقين البشرية درس الطاعة لمصدر التحضر الغربي، شعارات طرحها الفيروس أرضا في أيام معدودة، فصار الشرق يبدو أكثر تحضرا من الغرب في تقديم يد الشفاء للمحتاج وفي إبداع صيغ إنسانية للتعافي الجماعي. من اقتصاد المعرفة والبترول والبورصات، الذي فرضه علينا الغرب وتوفق فيه كثيرا، فشل في الاقتصاد العالمي الجديد، اقتصاد الازمة، اقتصاد الكمامات والكحول والمعقمات وأنابيب الأكسجين، إنه الإقتصاد الإنساني الذي نجح فيه الشرق كثيرا.
ومن غرائب اللحظة التاريخية، أن ذلك الغرب الذي كان يظهر نفسه مادا يد العون للشعوب المقهورة جراء الحروب المفتعلة أو الأزمات السياسية، دخل قمقمه وتقوقع على مشكلة المرض في أجساد البلد الواح دون غيرهم.
فكدنا نشهد انهيارا لمنظومة المؤسسات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أهمها المؤسسات المالية والتجارية لبريطن وودس ومنظمة التجارة الدولية، وتفككا تدريجيا للاتحاد الأوروبي والعودة ربما إلى منطق السوق المشتركة، بعدما تخلت كل دولة منه عن الأخرى بسبب الجائحة.
الغرب الليبرالي المتمدن لم يعد جديرا بقيادة العالم، لأن نهضة حقيقية أبرزها الشرق في مداواة نفسه انطلاقا من قيمه. الغرب كان دائما يقول أنه لا جديد هناك يحكى اعلى الجبهة الشرقية، فجاءت الأزمة لتكذب هذه اللازمة المتآكلة. وعلى رأس الشرق تفوقت الصين في جعل وصفة العلاج مشاعا بين الأمم ولاسيما الضعيفة منها. فأي الفريقين أحق بالاتباع في زمن الجائحة وما بعد زمنها، فمن يملك العلاج سيحكم العالم؟
المشهد الثامن: الدولة الراعية المركزية كم كنا في حاجة إليك
إنها دولة تحقق الركنين المهمين لوجودها ” أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” الآية.
فتعلمنا من جديد أن أركان الدولة وشروط مقاومة الوباء ميدانيا هي الدواء والغذاء والأمن العام، وعليها أن تعد ذلك جيدا للمستقبل. تعدها عبر المعرفة والتوقع، وعبر
دروس التربية والقيم والعلم، هذا الثلاثي المتلازم للخلاص من الوباء ومن الأزمات.
الأزمة الوبائية العالمية لكورونا التاسع عشر، أعادت إلى الواجهة مفهوم الدولة الراعية، وأحيت افكار اقتصادية تعود هي أيضا . لم يكن هناك من حل لمحاصرة الوباء سوى حزم الدولة، ومركزة القرار في العواصم، والتخلي عن جزء من الحريات لفائدة التحرر الجماعي. بعض الدول كانت تعودت حياة الكسل والتسيب، صعب عليها ضبط الإيقاع ومنع الفوضى ، وبعضها لم يتخلى كثيرا عن الصرامة ولم يتوغل بعمق في عالم الحريات والديمقراطية فسهل عليه العودة من بداية الطريق أو من وسطها إلى ما كان عليه الحال من قبل من تحكم وسيطرة. وللأمانة فقد كنا في حاجة ماسة إلى دولة راغبة فاعلة متتبعة لكل التفاصيل حتى لا يهرب الفيروس إلى جنباتها المظلمة في الاقتصاد و الثقافة وغيرهما. اليوم تعيش الأمم على نظام دولة اقتصادي واجتماعي مختلط مابين الرعاية وما بين الكينيزية في ضبط حركة المال من خلال تدخل مؤسساتها في كل تفاصيل الحياة الجماعية وبعض جوانب الحياة الخاصة. في هذه الازمة ظهرت “بورجوازية مواطنة”، تعي المرحلة التاريخية، وتعي ضرورة حماية الدولة، وأنها بدون دولة ومجتمع لا يمكنها أن تحيا فكانت أول المساهمين في محاصرة الوباء وآثاره. ولعل هذا المعطى سيعمق وعي هذه الطبقة، بضرورة المساهمة الاجتماعية في بناء الدولة بعد مرور الأزمة.
وبذلك أصبحت نظرية الدولة المعاصرة على المحك وبحاجة إلى تعديلات، وغدا العالم بحاجة إلى نظريات فكرية جديدة بديلة عن الحالية، لتنظيم المجتمعات، نظريات حتما ستكون مختلفة عن النظريات الليبرالية والرأسمالية المعولمة، ونظريات نهاية التاريخ والانسان لأننا نعيش ولادة جديدة له، وبدل نظرية صدام الحضارات نعيش صراع الكمامات بين الشرق المتفوق فيها طبعا، وأيضا نظرية الحجر الصحي الخلاق الذي أعاد النظام وحارب الفوضى في كل شيء بما في ذلك في ممارسة الحريات.
المشهد التاسع: أيها السياسيون الشعوب لا تكرهكم ولكنها بحاجة إلى كمامات ومعقمات
لقد انهارت كل خطوط دفاعات الكاريزمات السياسية أمام أقنعة وكمامات الأطباء والممرضين في ساحات معارك المستشفيات.
كثيرا ما كان يسأل الناس عن دور السياسيين في الحياة بصفة عامة. مخلوقات تطير بلا أجنحة، وتجيد الألعاب البهلوانية في الفضاءات المتنوعة. هل لهم حاجة في زمن كورونا؟ هل ينفع خطابهم وكلامهم وتحليلاتهم وتراشقهم مع الوباء؟ هل لهم منفعة أصلا أمام بروز دور الدولة المركزية ووسائطها الأمنية والصحية؟ الشعوب تتأمل في الدولة وتتبع القوة البازغة الحاضرة في كل لحظة وحين. الشعوب لا تحب الآفلين، ولا تحب أيضا من لا يستطيع أن يوفر لها الكمامات والمطهرات.
ومن أهم ما تسلحت به الشعوب الإعلام البديل كقوة رسخها الفيروس القاتل، فاستعملتها لنشر المعلومة والتوعية ومقاومة الزيف والزور وللنداءات الإنسانية والتوعية والمساعدات والتفاعل مع السلطات، وأيضا للحديث عن مؤامرات عالمية وضرورة التوحد ضدها.
لذلك على محترفي السياسة أن يبحثوا لهم عن بوابات جديدة لولوج المجتمع، كما فعل بعضهم عبر الاقتصاد والقفف أو التطوع بشيء يفيد الناس، وإلا فإن التفاتة الناس إليهم بعد عاصفة الوباء ستكون بشكل آخر وبعين أخرى.
المشهد العاشر: المثقفون.. كم سنحترمك يا سور الصين العظيم
الصين رغم النكبة التي تعرضت لها اقتصاديا مع بداية انتشار الوباء، تعود إلى الواجهة بشكل أقوى. هؤلاء الآسيويون تعلموا كيف يداووا جراحهم بأيديهم وكيف ينهضون بسرعة وتحد كبير. حتى فنون الحرب عندهم فيها شرف وفيها تأمل وحكمة و انتظار فرصة الانقضاض. الصين قدمت للعالم نموذج إنقاذ الشعوب، فأصبح للضعفاء مكان يجلسون فيه على طاولة صياغة العالم والتفاوض مع من الأقوى. الصين وضعت خطة للحفاظ على شعوبها وعلى أمنها الصحي، وانتجت خبرات مهمة في هذا المجال ووضعتها رهن إشارة الأمم الأخرى. بل إنها واصلت عملية إنتاج كل مستلزمات العلاج ولم تحتكرها لنفسها كما فعلت دول غربية، فاستحقت الاحترام من قبل المثقفين الذي يتابعون ويقارنون كيف تتعامل الجبهات العالمية مع الإنسانية. لذلك فإن حفدة بناة السور العظيم دخلوا قلوب العالم واستحقوا التعظيم بحسب عظمة خدمتهم للوجود الإنساني على الأرض في زمن الموت بالفيروس. وبعدما سادت أفكار من يملك وسائل الإنتاج والمعرفة هو من يملك السلطة، أصبح المثقفون بغريزة البقاء والواقعية، يرون أن من يملك الكمامات والمعقمات أولا هو من يملك السلطة اليوم.
المشهد الحادي عشر: قوات الأمن والمصالحة الكبرى: ضابط إيقاع الشعوب ومتعقب آثار جرائم الفيروس
اختفى نجوم الشاشة عن التأثير والتنظيم المباشر للجماهير، وأنيط الدور بالجهات الأمنية التي تلعب دورا تأطيريا صحيا غير مسبوق. تلعبه بشكل عاطفي مؤنسن وتتواصل مع العباد كالأب الراعي لأبنائه بالحزم حينا وبكثير من اللطف والحرص أحيانا أخرى. رغم كل المصالحات التي وقعت، فإن أكبر مصالحة تحدث اليوم إلى جانب المصالحة مع المستشفى والطبيب العمومي، هي مصالحة رجل الأمن وقبول مهامه بشكل سلس ودون اعتراض أو احتجاج او اتهام بتلفيق الجرائم. من باحث ومتحر عن الجرائم والمجرمين إلى متجر عن بؤر محتملة لقبوع الفيروس. في نظر رجل الأمن الكل مشتبه بهم إلى أن يتثب العكس، لذلك وجب الحرص على إيداع الجميع في الحراسة النظرية في المساكن والإقامات. القاتل لا تراه كاميرات المراقبة، ولا تشمه الكلاب البوليسية، ولا يمكن التصنت عليه، لكنه يترك اثرا بعد ممارسة الفعل “الجنائي”، ويوقع على جسد الضحايا ويخفي أداة الجناية، التي تتعدد بتعدد المعادن و الأشياء حولنا. الناس قبلت الدور الجديد لرجل الأمن وامتثلت له بل ونوهت به أيما تنويه، لأنه ببساطة يشتغل انطلاقا من فلسفة وجوده وهي محاربة الخوف.
المشهد الثاني عشر: الأطباء قادة الشعوب
نعم المعلمون قادة الشعوب ولولاهم لما أنشأ لدينا جيل من القادة: إنهم الأطباء والممرضون. هؤلاء في الحكم التاسع عشر لفيروس كورونا، لم يعد ينظر إليهم كموظفين يتقاضون راتبا ليقوموا بوظيفة كغيرها من وظائف الدولة. انهم اليوم وعاظ الأمم والشعوب، منابرهم غرف الحجر الصحي ونصائحهم تعاليم مقدسة لا ينكرها إلا كافر بالوباء. سيسجل لهم التاريخ أنهم انقدوا البشرية من طاعون اكتسح الإنسان، و ستسمى الشوارع والساحات باسمائهم، لأن منهم شهداء ولأنهم أول خط الجبهة في الاشتباك جسد لجسد مع “العدو” الغادر. الزي الأبيض أو الأخضر الذي يلبسون أصبح زيا عسكريا قتاليا، يسعف الأرواح بدون ميز بين كبير أو صغير بين غني أو فقير وبين حاكم أو محكوم. هم الآمر المدني والعسكري الحقيقي، بل هم القادة الحقيقيون للمعركة والكل إنما طوع أمرهم وتعليماتهم.
المشهد الثالث عشر: وصفة الوقاية المغربية حينما يعظنا الفيروس بالمقاومة الجماعية وبنبذ الفردانية
منذ زمن ليس باليسير، توغلنا في حياة الفردانية والبحث عن الربح الشخصي، وأغفلنا حياة الجماعة وقيمها. الفيروس أحدث الصدمة الخلاقة وأول نتائجها أعادنا إلى ذاتنا الجماعية. نبش في خزان الذاكرة فأخرج منها صور قيم التضامن والتآزر والتواد والمحبة. ذكرنا بالانتماء الجماعي، وبالمصير المشترك. ذكرنا بالسفينة الواحدة التي تحملنا جميعا، وأي ثقب فيها سيهلكنا جميعا. لقد علمنا “المعلم” كورونا 19 بأن حب البقاء والحياة رهين بحب بعضنا البعض والاعتناء ببعضنا البعض وإلا اختلى الخوف والموت المتربص عند أبواب المساكن، بكل منا خلسة من الآخر.
لقد علمنا أن تاريخ الأمم يكتبه أيضا المتضامنون والمتطوعون.
مظاهر التطوع والاهتمام المشترك ببعضنا البعض إحدى عناصر وصفة المقاومة الجماعية للبقاء الجماعي. هي قيم كنا قد نسيناها فارتفع عندنا تيار الغضب والعنف والمصلحة الشخصية. هي قيم ليست عابرة بل إنها أسس لبناء مابعد الأزمة حتى نطوي فصل الخصام السابق ونربت على أكتاف بعضنا البعض ونمضي سويا إلى البناء المشترك.
المشهد الرابع عشر: وبعد، هل يحتاج العالم إلى مخطط مارشال صيني بعد فيروس كورونا؟
لا شك أن الجائحة العالمية تشبه إلى حد ما الحروب العالمية الكبرى، من حيث النتائج الاقتصادية والسياسية وأيضا الديموغرافية. وهي حرب عالمية أولى حقيقية بين البشر وبين كائن غير مرئي. الحروب العالمية التي عرفها العالم في القرن العشرين، توجت باتفاقات بين المنتصرين على حساب المنهزمين، بتوزيع القرار الدولي وبإحداث مؤسسات تحكم العالم. مؤسسات مالية وعسكرية وسياسية دولية، منها منظومة الأمم المتحدة العاجزة اليوم على توحيد جهود الدول المنضوية تحتها لإيجاد حل للفيروس. من جانب آخر عجزت المؤسسات المالية والاقتصادية الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، في مواكبة الاقتصاد العالمي وتغطية حاجاته في ظل هذه الأزمة. ولعل أنظار العالم والشعوب تتوجه اليوم إلى المنتصر على الوباء ، باعتباره يملك أدوات الخلاص من المعاناة ومن الحجز الجماهيري القصري، وأيضا من الانغلاق اليومي القاتل للشعوب والدول. ومن المتوقع أن المشهد الدولي سيعرف عدة اختلالات بعد أن تضع الحرب أوزارها مع الكورونا، اختلالات اقتصادية والركود الذي سيعرفه العالم لبضع سنين، وتراجع الإنتاج والمداخيل التي عصفت بقطاعات برمتها كقطاع السياحة، واختلالات على المستوى الاجتماعي تهم الديموغرافيا وخريطة الهجرة وتياراتها ومفهوم الاستقرار والعودة إلى بلد النشأة للاحتماء بها بعد الرعب الذي خلقه الفيروس في الغربة.
ومع كل حرب عرفها العالم تتغير مراكز القوة، طبعا لفائدة المنتصر الميداني، وفي الظرف الراهن تظل الصين أكثر تحررا من الخوف ومن الحصار المفروض بقوة المرض، ويمكنها لن تستغل الارتباك الحاصل في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لتصنع تعاقدا دوليا مع دول كثيرة على غرار مخطط الجنرال الأمريكي مارشال لبناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. وحتما ستفرض الصين قواعد لعبة جديدة وهي الآن تقوم بحملة تواصلية إنسانية كبيرة، تسعى من خلالها دخول قلوب الشعوب أولا دون أن تطلب أي مقابل واضح، وهي التي كانت بالأمس القريب محط انتقاد شعوب كثيرة خصوصا العربية والمسلمة بسبب معاناة مسلمي الايغور. هذا التمهيد التواصلي الذي تقوم به الصين، من تعبير عن تقديم الدعم و المساعدات الإنسانية والخبرات الطبية، حتى لبعض الدول الأوروبية، لاشك أنه جزء من خطتها لإعادة خلق الثقة مع شركائها وإظهار حجم قوتها في اعتراض الوباء، ومن تم توسيع أسواقها بتعاقدات سياق الأزمة. الانشغال الأمريكي الأوروبي بازماتها الوبائية الداخلية، يطلق أيدي الصين في انتزاع مساحات تدخل دولية جديدة للصين، مع إمكانية إعطائها الأولوية في إعادة بناء اقتصادات الدول الصغيرة والمتوسطة المتضررة بالأزمة. لذلك قد تفكر الصين في صياغة مخطط تعاقدي شبيه بمخطط مارشال، تتقاسم من خلاله النفوذ العالمي مع الولايات المتحدة الأمريكية.
تعليقات الزوار ( 0 )