ذهب المؤرخ عبد الله العروي بعيدا في ارتياباته وتأويلاته بشأن شخصية الإخباري المغربي محمد بن مصطفى المشرفي، حتى أنه شكَّك في مدى صِحَّة نِسْبَةِ مُؤَّلَّفِ “الحلل البهية في ملوك الدولة العلوية وعد بعض مفاخرها غير المتناهية” له. تساءل هل فعلا وحَقّاً الكتاب المذكور للمشرفي أم لشخص آخر، وبخصوص اعتبار العروي ترجمة القسم الخاص من كتاب الحلل البهية، الذي يتطرق فيه المشرفي إلى رفض الاصلاحات الانجليزية وضريبة الترتيب، من اللغة العربية إلى اللغة الفرنسية ونشر ذلك من طرف الفرنسيين في الوثائق المغربية، من الغرائب، فهذا أمر لا يعود له، ولا علاقة للمشرفي به لا من قريب ولا من بعيد، ولا يدل ذلك أبدا على ضُعف وسخافة العقل المغربي، بل هو عمل قام به الأجانب ولا يد له فيه. كما أن ربط ذلك بتعليل ضرورة الاحتلال الفرنسي كما ساقه الأستاذ العروي دائما في تحليل موقف هذا الأخير من ضم الفرنسيين لتوات يبقى تأويلا منافيا للحقائق الواردة في كتاب الحلل البهية، حين نُعيد قراءته وِفق سياق الأحداث.
حين نقف مع مضامين كتاب المشرفي نتبين الانتقادات القاسية التي وجهها لطريقة تدبير السلطة المخزنية لأمور الحدود منذ عهد السلطان مولاي عبد الرحمان، فقد بيَّنَ أسباب عجزها عن المحافظة على مجالها الترابي، وانتقل في مرحلة ثانية إلى تعرية قصور الديبلوماسية المغربية في مُعالجة مسألة احتلال توات لدى قناصل الدول الأوربية، بقوله: “وَبَعْدَهُ وجه الوزير القائم بالأمر كاتبه الفقيه العربي المنيعي لطنجة، بِقصد بث حُجَجِهِ لدى قناصل الدول بها مع لائحة لكل منهم، شاكيا بخصمه، طالبا الإعانة بالكلام معه في شأن هذه النازلة، يريد الإنصاف على وجه العدل والمساواة، فَمِنَ القناصل من أجابه بأن لا دخل له فيما يقع بين الدول في شأن الحدود، ومنهم من تصامم عنه ولم يجبه بشيء، فحينئذ أيِسَ أهلها من الخلاص وتعذر لديهم المناص، حيث حكمت قوة العدو بنفوذ حججها، وأغرقت دعاوى الإسلام بعظيم لُجَجِهَا، فاستسلموا للقضاء، وتم أمر الاستيلاء وانقضى، كما انقضى أجل الكاتب المذكور بطنجة، المحاول الدفاع عن وطنه وممالكه بكلام غيره، دون قوة قاهرة، وهو من سوء تدبيره ودليل حمقه ومزيد غيه، وكان ذلك بسبب دخوله الحمام بدار المخزن من القصبة، وإيقاد الفحم به مع غلق بابه، فغمه دخان الفحم ومات منه. وانقطع الكلام في شأن توات وسلمت لآخذها”. ويستطرد متمِّما قصة استيلاء الفرنسيين على قصور توات بالكامل، بالقول: “وفي أثناء هذا (اضطراب المخزن بوفاة اباحماد وتصاعد الخلافات بين الوزراء) تم استيلاء العدو على قصور توات، وحازها حوزا تاما، فعظم الأمر واشتد الخطب، وتداخلت الأجانب من الدول في الكلام في شأن هذا، ممن له غرض قوي في المغرب، ولا سيما الدولة الانجليزية المحتوية على جل الممالك بدسائسها، وتمكين مكائدها بقوة ناموسها. فقد أمكنتها هذه القضية من انتهاز الفرصة بهذا السبب، حيث خابت مكائدها السالفة من سفرائها، التي منها: نَصْبُ رايتها سِرّا يوم عيد النحر لاشتغال المسلمين بصلاة العيد، وغير ذلك من المكائد، فجعلت تبذل النصيحة بكيفية العمل في أخذ الثأر، وتظهر لأكابر الدولة الشريفة المحبة والمودة بالانتصار، ومرادها التوصل بذلك لمقصودها، بمزيد اختصاصها وتكرار ورودها”.
اتخذ الأستاذ عبد الله العروي من تعليق المؤرخ محمد المشرفي على كلام الفرنساويين حُجَّة للتشكيك في وطنيته، بينما يتعلق الأمر بتوضيح المشرفي بموضوعية، قل نظيرها آنذاك، مواطن ضعف الجهاز المخزني وفشله في المحافظة على حدوده الترابية، لإهماله الإصلاح العسكري والإداري والتعليمي، وانشغاله بالمهادنة والمصانعة مع الأجانب باختلاف تلاوينهم، وقد ظهر العجز جليّاً عندما فشل المخزن دبلوماسيا في إيقاف التدخل الفرنسي لاحتلال الواحات، حيث تم احتلالها وبها ممثلون للسلطة المخزنية المغربية، ولم يستطع السلطان المغربي عبد العزيز إرسال حملة ولو رمزية لإيقاف الاحتلال العسكري للمنطقة التابعة لمجال نفوذه، بل ترك الساكنة تعتمد على إمكانياتها الذاتية في مواجهة الخطر الفرنسي المحدق، ولم يكن هذا العجز إلا مثالا واحدا من بين أمثلة أخرى تظهر مدى العجز الذي أصبحت عليه السلطة المخزنية منذ عدة قرون (يراجع بهذا الشأن أطروحة محمد أعفيف).
وزاد سَرْدُ المشرفي لائحة تتضمن النصيحة بعدم الإصغاء للأجانب من شكوك العروي في نواياه، وكان المشرفي يقصد انجلترا وألمانيا واسبانيا، والنصيحة المشار إليها عبارة عن رسالة طويلة كتبها أحد الفقهاء، رأى فيها العروي دفاعا للمشرفي عن فكرة التخلي عن توات وتبريرا شرعيا للتنازل عنها، مُحملا بذلك المسؤولية بشكل ضمني لعقليته السخيفة، باعتبارها عقلية انهزامية تُعلِّلُ الاحتلال الفرنسي بالقضاء والقدر، وهذا الاتهام بعيد جدا عن الواقع الفعلي، ذلك أن العبارات التي تُحيل على التسليم في قضايا مصيرية، بعد حدوثها، كانت من مرتكزات الخطاب الشرعي الإسلامي آنذاك ومن صميم الإيمان السُّني والفقه المتداول، وكان يستعملها جميع الكُتّاب والمؤلفين دون استثناء، باعتبارها جزءا من أركان الإيمان. ولذا كان على الأستاذ العروي أن يُوجِّه الملامة والنقد للمخزن العزيزي (وهو ما فعله المشرفي)، الذي كان في وضعية سيئة للغاية غداة احتلال توات ونواحيها، حيث كان عاجزا تماما عن القيام بأي مناورة أو خطوة عسكرية، إذ تركزت جهوده فقط على القيام بمجهود ديبلوماسي احتجاجا على الاحتلال، غير أنه فشل في تحقيق أي نتائج تذكر من ورائه. وإثر ذلك دخل ممثلو السلطان مولاي عبد العزيز في مفاوضات طويلة ومتقطعة مع الحكومة الفرنسية في شأن الحدود انتهت باتفاقية 1901، وهي الاتفاقية التي وُقِّعَتْ في باريس دون أن تشير إلى توات والساورة، والتي يُمكن اعتبارها اعترافا ضمنيا منه بالأمر الواقع ، وخروجا لهذه المنطقة من السيادة المغربية لتلتحق بالسيادة الفرنسية وتصبح لاحقا جزءا من الأراضي الجزائرية.
يتساءل الأستاذ العروي بلسان القارئ: “هل الكاتب المشرفي مغربي حقا؟ هل هو من المهاجرين الجزائريين الذين انحازوا إلى الفرنسيين؟ لأن مثل هذا الكلام لا يكتبه مغربي عموما ولا يحتج مغربي بمثل هذه البراهين. هل هو جاسوس؟ لا ندري، إنما هذا ما نقرأ”.
نلاحظ بالفعل انحياز الكاتب محمد المشرفي للفرنسيين في العديد من النِّقاط الأخرى غير نقطة احتلال توات، وبالخصوص في مسألة الإصلاحات الانجليزية، تلك الاصلاحات التي عرضوها على وزير الحربية المهدي المنبهي حين حلَّ سفيرا عندهم. فيذكر المؤلف المشرفي، أن هذا الوزير غير مطلع على القوانين السياسية، ولا خبرة له قط بأمور السفارات، وأنه سَهْلُ الوقوع في حبال الانجليز ودسائسهم. وهذا كلام صحيح، فالدراسات التي تناولت لاحقا هذه الشخصية بالدراسة والبحث بيَّنت مُسْتواه المعرفي الهزيل، فقد كان شبه أمِّي، وتقاطعت مصالحه مع مصالح الإنجليز، وقد قدم لها خدمات كثيرة وسهل لها الطريق لتحصل على امتيازات جديدة في المغرب مستغلا منصبه وقربه من السلطان. فَلِماذا لم يَصِفْ الأستاذ العروي هذه الشخصية المتواطئة مع الإنجليز بخيانة البلد، أليس هذا كيلا بمكيالين؟
وبعد أن تكلم محمد المشرفي كثيرا عن الحزازات بين الوزيرين عبد الكريم بن سليمان والوزير المنبهي انحاز للطرف الأول المناصر للفرنسيين، وهذا لا يعني بالمطلق أنه جاسوس خائن، ولا يعطينا ذلك الحق لنُجرِّدَهُ من مُواطنتِه المغربية أو القول عنه: إنه “ليس مغربيا”، ولعل العروي انساق كثيرا خلف هواجسه وتحول إلى قاض وتجرد من جلباب المؤرخ في هذه النقطة، وهو الذي طالما انتقد أولئك الذين يصدرون الأحكام في مجال قابل للتأويل واختلاف الفهم.
إن الدائرة المحيطة بالسلطان المولى عبد العزيز كانت منقسمة على نفسها إلى تيارين، وساهم في ذلك وجود عدد من الأجانب ضمنها، وعلى رأسهم الانجليز ثم الفرنسيين، ويُعتبر المنبهي، وزير الحربية، المحرك الرئيسي لعجلة المصالح الانجليزية بالمغرب، وكان يوجد على رأس التيار المناوئ له لمفضل غريط، أحد المدافعين عن المصالح الفرنسية ومن المتحمِّسين لها .
إن ربط عبد الله العروي موقف محمد المشرفي المنحاز للتيار المناصر للمصالح الفرنسية بانتمائه للجزائر أمر لا يستقيم تاريخيا، واتهامه بكونه غير مغربي لمعارضته السلطان المولى عبد العزيز والإنجليز ومناصرته للفرنسيين في إطار صراع النفوذ يُنافي الوقائع والأحداث، فماذا يمكننا أن نقوله مثلا عن الوزير عبد الكريم بن سليمان الفاسي المناصر بدوره للإصلاحات الفرنسية بالمغرب والمُعارض للإنجليز وتدخلاتهم لدى السلطان، هل نتَّهمه أيضا بأنه جزائري، وغير مغربي!!!. ونفس التساؤل ينطبق كذلك على المفضل غريط!!. فمواقف هؤلاء هي نفس مواقف المشرفي، فلماذا انهال العروي وتحامل فقط على هذا الأخير؟
ومن الجدير بالذكر الإشارة إلى أن محمد المشرفي، وعكس ما ذكره العروي، كان ضِدَّ الركون للأجانب عامة، وللإنجليز خاصة، ولم يكن بتاتا مع الاحتلال الفرنسي للأراضي المغربية وإن كان مناصرا.
من المعلوم أن المؤرخ محمد المشرفي كان ضد الانجليز وإصلاحاتهم بالمغرب، وقد عبَّر عن ذلك صراحة وفي مواضع كثيرة من كتابه الحلل البهية وفي كتب أخرى لم يكن العروي قد اطلع عليها، لأنها لم تكن متوفرة آنذاك. لقد شكَّك المشرفي في النوايا الحقيقية للأجانب، حيث تنبه إلى أن إصلاح القناطر وبناء السكك الحديدية، التي اقترحتها انجلترا على المغرب، ليست بتاتا من الأولويات، ففي نظره: “لو كان الانجليز صادقين في نصيحتهم ونواياهم للدولة العلوية لأشاروا عليها بإدخال العلوم الرياضية وبناء المدارس وبثِّها في القرى والمدن، حتى تكتسب الدولة حينئذ رجالا يدافعون عنها، بما عَلِموهُ من العلوم الرياضية”.
إن دفاع المشرفي عن السياسة الفرنسية في المغرب لا يعني بتاتا بأنه غير مغربي، ولا يبرر تَعْيِّير العروي له بانتمائه الأصلي للجزائر، حيث كان من بين أولئك الذين غادروها للاستقرار في المغرب بعد احتلالها، كما لا يعني ذلك أنه مع احتلال هذه الدولة للأراضي المغربية، فهو كان ضد الركون والاستسلام للأجانب وبالخصوص الفرنسيين. ويتضح موقفه هذا في الحُلل البهية في مواضع كثيرة، إذ ساند ثورة درقاوة ضد أتراك الجزائر، وظل مُنافحا عن الأمير عبد القادر بن محيي الدين الجزائري في جهاده ضد الفرنسيين منذ البداية وإلى لحظة أسره بقوله: “ومدة ولايته أفناها في الحروب مع الدولة المذكورة. وشهدت له بالشجاعة الأعداء”. وفي مسألة توتر العلاقات بين الأمير والسلطان المغربي عبد الرحمان، يؤكد المشرفي أن سبب ذلك يعود لمهادنة المغرب للفرنسيين، بل إنه يُرجع سبب هزيمة إيسلي إلى امتناع ولي العهد المغربي قَبول نصيحة الأمير عبد القادر الناتجة عن خبرته الميدانية الطويلة في حروبه الميدانية. ولذا وجب فَهْمُ سياق فترة حكم السلطان عبد العزيز المختلفة، حيث يتعلَّق الأمر بالصراع بين طرفين داخليين حول نفوذ القوى داخل البلاط، وإلا لاتَّهمْنا بنفْس المنطق مناصري الإصلاحات الانجليزية بالخيانة أيضا. لأنه في النهاية فرنسا وانجلترا كانت لهما نفس الأهداف بالرغم من اختلاف السياسة التي اعتمدتها الواحدة منهما عن الأخرى. أما انتقاد المشرفي لسفارة أخ الحاجب أحمد بن موسى لفرنسا، فإنما سببه الخبل المعروف عن هذا الشخص (المريض بالوسواس)، وقد أشارت عددٌ من المصادر التاريخية للحالة النفسية السيئة لهذا الشخص أثناء زيارة قام بها لباريس لاحقا، حيث صدرت منه تصرفات غير سوية أثناء زيارته لحديقة الحيوان.
إن ادعاء العروي بكون المشرفي ربما هو كاتب الرسالة التي تدعو إلى التخلي عن توات استنتاج لا يقوم على أي دليل أو إشارة، فلم يعتمد على أي مصدر ولم يورد أي وثيقة تثبت موقفه ورأيه، ونَظُنٌّهُ في تأويله مجانبا للصواب حسب ما تبين لنا حين استنطقنا المصادر في هذه النقطة تحديدا، ذلك أن محمد المشرفي مشهور بمواقفه الصريحة في عهد السلطان المولى عبد العزيز، ولو كان هو كاتبها لأعلن عن ذلك بنفسه، فليس هناك ضغوط أملت عليه التستر والاختفاء خلف أسماء مستعارة، إذ وجه النقد لهذا السلطان وبشكل مباشر في مواضيع ومناسبات عديدة.
وجب اعتبار الرِّسالة التي ساقها محمد المشرفي وثيقة تاريخية انفرد بذكرها في كتابه الحلل البهية بدل توجيه النقد له، وهي بالتأكيد من إنشاء بعض العُلماء العُمَلاء المنحازين لفرنسا بإيحاء مباشر منها، وما أكثر أمثال هؤلاء في ذلك الزمان، ولم يكن الأمر استثناء خاصا بحالة المغرب، إذ سبق لفرنسا أن أصْدرت فتاوى موقَّعة من قِبَل فقهاء وعلماء مشهورين جزائريين ومصريين تدعو إلى الاستسلام لفرنسا وعدم مناصرة الأمير عبد القادر الجزائري، مستغلة في ذلك تصدع المواقف على المستوى الداخلي بين الأمير عبد القادر ومعارضيه. وكانت قد انتشرت في صفوف بعض القبائل حينئذ بعض الدعوات التي تنتقد جهاد الأمير، وتعتبره تهلكة، وهي دعوات معارضة كانت تستهدف نسف دعائم زعامته من خلال تجريده من مقومات مادية وروحية، وإظهاره بمظهر المخالف للشريعة في سياسته مع المعارضين له من القبائل.
إن أسلوب إصدار الفتاوى التي تدعو للاستسلام اعتمدتها فرنسا في مواجهة الأمير عبد القادر، وكرَّرتها أيضا في المغرب بعد احتلال توات، ولا علاقة من قريب أو من بعيد للمشرفي بالرسالة التي ذكرها في كتابه الحلل البهية، فهو كمؤرخ نقل إلينا ما كان يجري على الأرض من وقائع، وقد انفرد بذكره الرسالة التي هي عبارة عن فتوى تدعو للاستسلام لفرنسا، ويبدو من صياغتها المحكمة أنها من إنشاء وتحرير عالم أو مجموعة من العلماء المقيمين في الجزائر فعليا، بطلب من السلطة الفرنسية بها. أما محمد المشرفي وكذا ابن عمه العربي فقد كانا من أبرز المهاجرين الجزائريين الذين رفضوا البقاء في الجزائر بعد احتلالها سنة 1830م، واختاروا الاستقرار بالمغرب بعد 1844م. كما أن العربي المشرفي هو كاتب الرسالة الشهيرة في كفر أهل البصبور الحثالى، التي تنتقد تهافت المسلمين على الحمايات الأجنبية. ومحمد المشرفي كان من بين الجزائريين الذين رفضوا سنة 1894م الدخول في كنف الحماية القنصلية الفرنسية، وهو الذي حرَّرَ وثيقة تأكيد بيعة المولى عبد العزيز وإعلان عدم موافقة الجزائريين التلمسانيين المقيمين بالمغرب الدخول تحت رعاية فرنسا، والوثيقة محررة بلهجة وطنية إسلامية، وقعها 546 من الجزائريين، مما يُعزز اتصاف المشرفي بالحميَّة الوطنية والغيرة الاسلامية، التي وصف بها نفسه في الحلل البهية، مما يقطع الشك باليقين في مسألة هويته ووطنيته وغيرته الدينية.
ومن المعلوم أن بيعة المهاجرين الجزائريين للسلطان المولى عبد العزيز كانت ضربة موجهة لمحاولات الاستقطاب الفرنسي وإعلانا بالانتماء إلى المغرب. ورغم الأزمة المالية التي كانت تتخبط فيها خزينة الدولة نتيجة الاقتراضات وفشل ضريبة الترتيب، أمر السلطان بتوزيع 12 ألف ريال على المجموعة الجزائرية بفاس، وبذلك فشل الرهان الفرنسي على أغلب جزائريي فاس لتحقيق التسرب السلمي للمغرب، ولذا شرعت الخارجية الفرنسية تبحث عن وسائل أخرى لإغراء الجزائريين واستقطابهم بفوائد الحمايات والتجنيس، ويمكن هنا العودة لأطروحة الأستاذ محمد أمطاط.
ومما ينفي أيضا أي علاقة مُحتملة لمحمد المشرفي بالرسالة المذكورة في نظرنا، ما عقَّب به من كلام صريح بعدها، يُستشف منه عكس ما تَمَّ اتِّهامُه به، إذ يبدو أنه كان حريصا على وحدة التراب المغربي واستقلاله، إذ كتب قائلا: “ولما تقرَّرَ هذا وكان، وثبت بمشاهدة العيان، وأيقنت أنه لا بدَّ من سريانه فيما بقي من الأوطان، بكيْتُ هذا الدين وحرَّضت على القيام بشأنه، ووجهت الملامة على أولي الأمر والعلم لاشتغالهم بالأمور الدنيوية عن نصرته، حيث حرَّكتني الغيرة الإسلامية، وقادتني بزمام الحملة الوطنية، لمخاطبة الأموات، ووعظهم بما كان من سيرة السلف وفيه لهم نجاة”، واتبع ذلك بقصيدة شعرية عبَّر فيها بأسلوبه الجميل عن سوء الأحوال بالمغرب وضعف حاله بالمقارنة مع فرنسا القوية. ولم نجد في القصيدة أي تسليم بالواقع القضائي كما ذكر المؤرخ العروي، بل على العكس تماما، فالأبيات كلها حسرة وتقريع ونقد لولاة الأمر وللوزراء والمسؤولين وعلى رأسهم أعضاء الحكومة والعلماء على استكانتهم وتقصيرهم ورضاهم بالذل والاستسلام، وفيها دعوة صريحة للجهاد باعتباره الوسيلة الناجعة للحفاظ على سلامة الأراضي المغربية من الاحتلال.
*باحث في التاريخ
تحياتي العطرة أستاذي خالد. تحليل منطقي يقارع الحجة بالحجة. والجميل هو أن المقال يحمل جرأة في النقد التاريخي، وهي محاولة لتكسير تلك الهالة التي يحملها بعض المؤرخين، ليس للتنقيص من مكانتهم أو حمولتهم العلمية والمعرفية وتأثيرهم الكبير في أوساط الباحثين إلى درجة جعلهم أصنام لا ينبغي تحطيمها،… وإنما لحمل الباحثين والطلبة في التاريخ على عدم أخذ كل يأتينا من الكبار أنه صواب… وأن الحقيقة التاريخية نسبية وتخضع في أحيان كثيرة لتوجهات المؤرخ الإيديولوجية وانتماءاته، مما يدفعه ألى الخروج من جبته أحيانا… كما أن العثور على مزيد من الوثائق مع مرور الزمن
يجعل مسألة تحيين المعرفة التاريخية أمرًا ضروريا. دام لكم التألق والتوفيق
رد علمي دقيق